15 نوفمبر 2011

الموضوع: "احفظ الله يحفظك"
الخطبة الأولى
الحمد لله فاطر السموات والأرض ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. خلق فسوّى، وقدّر فهدى ، أحمده سبحانه لا وليّ من دونه ولا نصير . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له . وأشهد أن سيّدنا محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى البرّ والهدى، والمحذّر من أسباب الهلاك والردى. اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد ؛ فيا عباد الله : اتقوا الله ، وابتغوا أقوم السبل في اتّباع وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسابقوا في العمل بتحقيق ما رسمه صلى الله عليه وسلم . فلقد كان يَعزّ عليه أن يصيب أمته عنت ومشقة، كان شديد الحرص عليها، رءوفا رحيما بها. كان يتفقد أحوالها، كان حريصا على أن يغرس العقيدة السليمة في نفوس المؤمنين.
لقد كان معلما لأصحابه ومربيا، وقد سبق في تعليمه وتربيته لهم أحدث ما توصل إليه علماء التربية الحديثة من طرق ووسائل. فقد كان يتخوّلهم بالموعظة ، ويخاطبهم بما تقتضيه حاجتهم وتدركه عقولهم ، كان يضرب الأمثال ويغتنم الفرص والمناسبات.
فهذا ابن عمّه عبد الله بن عباس رضي الله عنه وعن أبيه، يخبرنا بهذه الوصية الجامعة المانعة التي أوصاه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان راكبا خلفه.
عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما ، فقال : " يا غلام إنّي أعلمك كلمات ، احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تُجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لواجتمعت على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف " . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .
أيها المسلمون: هذا حديث عظيم، وأصل كبير في رعاية حقوق الله والتفويض لأمره والتوكل عليه. قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "هذا الحديث يتضمّن وصايا عظيمة، وقواعد كلية من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء تدبّرت هذا الحديث فأدهشني وكدتّ أطيش. فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث ، وقلة التفهم من معناه"!.
ولأهمية هذه الوصية، ولما فيها من توجيهات نافعة، نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس، وناداه بـ: " يا غلام "، ليجمع ذهنه ويستحضر قلبه، ثم شوّقه إلى ما سيقوله له بقوله:".. إني أعلمك كلمات " .
نعم ؛ إنها كلمات ، ولكنها تحمل في طياتها قواعد عظيمة من قواعد الدين ، لو أخذ بها المسلمون لصلح لهم أمر الدين والدنيا معا ، ولجمعوا أطراف السعادة في العاجلة والعقبى.
" احفظ الله يحفظك " : أي التزم أوامر الله تعالى ، فقف عند حدوده فلا تقربها وإياك أن تتعداها ، ولا يراك حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك ، فإذا أطعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، حفظك في نفسك وأهلك ومالك ، في دنياك وأخراك . إذ الجزاء من جنس العمل ، قال الله تعالى : " من عمل صالحا من ذكر أوأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون". النحل:97 .
فمن حفظ الله ورعى حقوقه حفظه الله من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته . قال تعالى: " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله.. ". الرعد:11. والمعنى: لله ملائكة يتعاقبون على العبد ويحفّون به من كل جانب بأمر من الله عز وجل وإذن منه ليحموه مما يسيئه .
ولقد قص الله علينا في كثير من آيات الكتاب العزيز، أن العمل الصالح ينفع في الشدّة ، وينجّي فاعله ، وأن عمل المصائب يؤدّي بصاحبه إلى الشدّة . قال تعالى حكاية عن يونس عليه السلام: " فلولا أنه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ". الصافات: 143ـ 144 .وهذا يعقوب عليه السلام بعد أن طالت غيبة ولده يوسف عنه، وبعدت مسافة الزمن بينه وبينه. وكان جديرا بأن يفقد الأمل في لقائه ، قال تعالى:" فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين".63ـ64 :يوسف.
وهذا موسى عليه السلام ، حين أسرى بقومه لينجو بهم من فرعون وجنوده ، وعلم فرعون بذلك ، وحشد الحشود لإدراكه ، ": فأتبعوهم مشرقين ، فلما تراآ الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون "، وأي إدراك أكثر من هذا، البحر من أمامهم، والعدو من ورائهم ، بيد أن موسى لم يفزع ولم ييأس بل قال : " كلا إنّ معي ربي سيهدين". الشعراء:63. وهذا رسول الله ، محمد بن عبد الله ، صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى غار ثور في هجرته مع صاحبه الصدّيق ، ويقتفي المشركون آثارهما ويقول قائفهم : لم يَعدُ محمد هذا الموضع ، فإما صعد إلى السماء من هنا ، وإما هبط إلى الأرض من هنا!. ويشتد خوف الصدّيق على صاحب الدعوة ويبكي ويقول: " لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
" احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ". فمن حفظ الله ورعى حقوقه، وجد الله معه بنصره وتأييده وتوفيقه .
أيها المسلمون : ومن أجمل ما قرأت ما ذكره الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه: العبادة في الإسلام قال :" قال بعض الصحابة : رأيت أعرابيا أتى باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها، ودخل المسجد، وصلى بالسّكينة والوقار، ودعا بما شاء فتعجبنا. فلما خرج لم يجد ناقته، قال... أدّيت أمانتك ، فأين أمانتي ؟. قال الرّاوي فزدنا تعجبا، فلم يمكث، حتى جاء رجل على ناقته وسلم الناقة له ".ا.هـ
قال الرازي رحمه الله: والنكتة أنه لما حفظ أمانة الله ، حفظ الله أمانته . وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: " احفظ الله يحفظك ".فمن حفظ الله في شبابه وقوته، حفظه الله في كبره، ومتّعه بحوله وقوته. فلقد جاوز بعض العلماء كالحسن البصري و البغوي و الجويني "المائة سنة" ، وهم يتمتّعون بعقولهم وقوّتهم . لقد وثب "الجويني " يوما وثبة شديدة فكُلِّم بسببها ، فقال :"هذه جوارح حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر " . وقد يتعدى الحفظ إلى الذرّية . كما في قوله تعالى: " وكان أبوهما صالحا " الكهف:83. ولذا كان سعيد بن المسيّب رضي الله عنه يقول لابنه :" إنّي لأزيد في صلاتي من أجلك ، رجاء أن تحفظ" ، ثم يتلو قوله تعالى: "..وكان أبوهما صالحا..". الآية.
فاتّقوا الله أيها المسلمون، وليكن لكم من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نهج تنتهجونه.
نفعني الله وإياكم بما سمعنا. وبارك لي ولكم في القرآن الكريم . ...

الخطبة الثانية
الحمد لله الهادي إلى طريق السعادة ، منّ على من شاء من عباده فجعله من أهل الحسنى وزيادة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى قال : "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألنـي لأعطـينّه ، ولئـن استعاذني لأعيذنّه". رواه الطبراني في المعجم الكبير.
فاللهم حبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، واجعلنا من عبادك الصالحين ، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ، اللهم احفظ أبناءنا وبناتنا وجميع المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم ، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آميـــن.