الموضوع:أول العـام الهجري
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، وتبارك الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا من ذوي الألباب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، ومنه المبتدى وإليه المنتهى والمآب. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل من تعبد لله وأناب. اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم وسلم تسليما.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وتبصروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى دار الآخرة، حتى تنتهوا إلى آخر سفركم. وكل يوم يمرّ بكم فإنه يبعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبد اغتنم فرصها بما يقربه إلى مولاه، وطوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال، طوبى لعبد استدلّ من تقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار. "يـقـلـب الله اللـيـل والنهـار إن في ذلـك لعـبرة لأولي الأبصـار".
أيها المسلمون: ها نحن قد ودّعنا عاما هجريا مضى علينا شهيدا، واستقبلنا عاما جديدا. فليت شعري! ماذا أودعنا في العام الماضي؟. وماذا نستقبل به العام الجديد ؟.
فليحاسب العاقل نفسه، ولينظر في أمره، فإذا كان قد فرّط في شيء من الواجبات، فليتب إلى الله وليتدارك ما فات، وإن كان ظالما لنفسه بفعل المعاصي والمحرمات، فليقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات، وإن كان ممّن منّ الله عليه بالاستقامة، فليحمد الله على ذلك، وليسأله الثّبات إلى الممات.
أيها المسلمون : إننا نستقبل عاما هجريا جديدا ليس من السنة أن نحدث عيدا لدخوله، أو نعتاد التهاني ببلوغه، فليس الغبطة بكثرة السنين، وإنما الغبطة بما أمضاه العبد في طاعة مولاه، فكثرة السنين خير لمن أمضاها في طاعة ربه، شرّ لمن أمضاها في معصية الله والتمرد على طاعته، فشرّ الناس من طال وساء عمله.
يبدأ أوله بالمهد، وينتهي آخره باللحد، وإن مطيّتك في هذا السفر إنما هي العمر، وزادك هو العمل الصالح .
روى البيهقي في شعب الإيمان أنّ الرسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما فقال: "يا أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية، فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين، بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد لنفسه من نفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت، والذي نفس محمد بيده! ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا دار، إلا الجنة أو النار" .
وحدّث عبيد بن عمير فقال: "كان لرجل ثلاثة أخلاء، فنزلت به نازلة، فبدأ بأقرب الثلاثة إلى نفسه، يناشده العون، فتنكر له وتخلى عنه، ثم ذهب إلى الثاني فأمده بقليل من العون ثم تركه. وذهب إلى الثالث فهبّ لنجدته، وقال : أنا معك حيث تذهب وأيّان تكون، فالأول هو المال يخلفه الإنسان لأهله ولا يتبعه منه شيء، والثاني هم الأهل والعشيرة والصحب، يشيعونه إلى قبره ثم يتركونه وحيدا، والثالث عمله الصالح يبقى معه إلى يوم البعث والنشور". رواه ابن أبي شيبة في مصنفه .
قال أبو العتاهية :
نعى لك الشباب المشـيـب ونادتك باسم سـواك الخـطوب
فكـن مستعدا لريـب المنون فـــــــــــــــــــإن الـذي هـــــــــو آت قـريـب
وقبلك داوى الطبيب المريض فعـاش المريض ومات الطبيب
يخاف على نفسه من يتـوب فكيف تـرى حال من لا يـتوب
فاتقوا الله-عباد الله-وليكن لكم من مستهل عامكم الجديد، بداية طيبة، بالإقبال على الطاعة، والبعد عن المعصية، واذكروا في ذكرى هجرة سيد الأنام المثل الرفيعة التي ضربها للأمة في الكفاح والصبر والإحتمال، ومكارم الأخلاق لتشقّوا بها الطريق إلى حياة العزة .
وإن كانت الجزائر تمرّ بما تمرّ به، فاجعلوا نصب أعينكم قول الحق تبارك وتعالى: "فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا". (الانشراح:5ـ6). وقوله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب..".(الطلاق:2ـ3).
فلقد اعترضت كل العقبات سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم في طريق دعوته، ولكن بفضل توكله على الله وثقته به، وبفضل خوفه منه، ويقينه فيه، فلقد شرح له صدره، ويسر له أمره، ذلل له كل صعب، ويسّر له كل وعر، ووقاه كيد الكافرين. "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ".
فاتقوا الله أيها المسلمون: وليكن لكم في ذكرى الهجرة ما يعظكم في حاضركم، وينفعكم في أولاكم وآخرتكم، وقفوا وقفة المهاجر بنفسه، وإن لم يهاجر بحسّه .
فلنهاجر إلى الله تعالى بقلوبنا وأعمالنا، فالمهاجر "من هجر ما نهى الله عنه"، ولنلجأ إلى الله ليكون ناصرنا ومؤيدنا، "إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ".
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وأجارني وإياكم من سخطه وعقابه الأليم. وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم، آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقواه، وتوبوا إليه وأطيعوه تدركوا رضاه، واستدركوا عمرا ضيّعتم أوله، ولا تضمنون عمل الخير في آخره، فرحم الله عبدا اغتنم أيامه ولياليه.
واعلموا- يا رعاكم الله- أنه قد أظلكم شهر حرام، الذي هو مفتاح لكل عام، وهو الإمتحان السنوي لإخراج زكواتكم. فأروا الله فيه من أنفسكم خيرا، وأكثروا فيه من الصيام، واعمروه بالطاعة واجتناب الآثام، واتقوا الله لعلكم تفلحون .
فاللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعل من ذكرى الهجرة في هذا العام للجزائريين قوّة، اللهم ارفع بها شأنهم، وركّز سلطانهم، وقوّ إيمانهم، وانزع الحقد والغل من قلوبهم يا رب العالمين. ربنا نسألك بعزتك التي أبطلت بها كيد الكائدين لنبيك وطمست بها أعينهم، فأخرجته من بيته وقد طوّقوه بالحديد والنار، وحفظته هو وصاحبه في الغار، نسألك بهذه العزة أن ترد عنا كيد الكائدين الطامعين المفرقين، وأن تنشر علينا رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتصلح بها حالنا، وتؤلف بها بين قلوبنا يا أرحم الراحمين. اللهم وفّق من قلدته أمرنا، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة التي ترشده إلى الخير وتعينه عليه، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وأعد هذا اليوم علينا بالأمن والإيمان والخير والبركات يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: فضل صوم عاشوراء، والرد على من قال بحرمة صوم يوم السبت!
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن الله قد اختصّ بعض مخلوقاته بتشريف وتكريم، وفضل بعض الأيام على بعض سعة في رحمته، وشمولا لمغفرته، وتنزّلا لنعمـائـه، وتحدّثا بآلائه، وموسما لأفضاله وأنعامه.
وإن يوم عاشوراء ـ يا عباد الله ـ يوم مبارك كريم، كتب الله له الخلود فبرز في جبين الزمن محفوفا بالخيرات محاطا بالبركات، فلقد صامه أولوا العزم من الرسل، صامه نوح عليه السلام شكرا لله على نعمته، حيث استوت فيه سفينته على الجودي، "وقيل بعدا للقوم الظالمين ". وصامه موسى عليه السلام شكرا لله على آلائه وفضله. ففيه أنجاه الله ومن معه من بطش فرعون وجنوده، وأوحى إليه أن يضرب بعصاه البحر، "فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين". وصامه سيد الخلق وخاتم النبيين والمرسلين، وأمر أمته بصيامه. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان، قال: "من شاء صامه ومن شاء لم يفعل". ولقد واضب على صيامه قبل الهجرة وبعدها، ولم يدَع صيامه طيلة حياته، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي رحمهما الله، عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: "أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صيام يوم عاشوراء، والعشر– أي من ذي الحجة–، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة".
أيها المسلمون: ولقد بيّن صلى الله عليه وسلم فضل صيام عاشوراء، وماله من منزلة كريمة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: "ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم". رواه مسلم. وروى أيضا عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية"، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوم عاشوراء، وأمر بصيامه".
ولقد ذكّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بأحقيتها بصوم يوم عاشوراء من اليهود. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "كان يوم عاشوراء تعظّمه اليهود وتتخذه عيدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوموه أنتم". رواه البخاري ومسلم.
ولقد أراد صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود والنصارى في هذا الصيام، فزاد اليوم التاسع. روى مسلم وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا يا رسول الله: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال: "إن كان العام القابل–إن شاء الله- صمنا التاسع. قال: فلم يأت العام القابل حتى توفى رسول الله".
أيها المسلمون: بعد الذي ذكرت يقول البعض: إن صوم عاشوراء صادف في عامنا هذا يوم السبت، وقد ورد النهي عن صوم السبت في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث عبد الله بن بسر عن أخته الصمّاء رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجر فليمضغه".
أقول وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى الرشاد:
إن صوم يوم السبت مسألة خلافية، لاختلاف الفقهاء في تصحيح هذا الحديث. فقد قال أبو داود راوي هذا الحديث إنه حديث منسوخ، كما جاءت روايات أخر تؤذن وتبيح صوم يوم السبت، كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده". وكقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث، وقد دخل عليها صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهي صائمة. فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غدا؟ قالت: لا. قال: فافطري". وأيضا ما جاء في صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم يوما من الأيام، يوم السبت، ويوم الأحد، كان يقول: "إنهما يوما عيد للمشركين و أنا أريد أن أخالفهم".
أيها المسلمون: من هذه الأحاديث وغيرها، نفهم جواز صيام يوم السبت إذا لم يفرد، أو وافق عادة كيوم عرفة أو تاسوعاء أو عاشوراء. ولعل قارئ مؤلفات الأقدمين رحمهم الله، يرى تبويبهم لهذه المسألة بما يلي، فهذا ابن قدامة صاحب المغنى يقول: "كراهية أفراد يومي الجمعة والسبت بالصوم"، وهذا البغوي صاحب كتاب شرح السنة يبوب بقوله: "باب صوم يوم السبت وحده". وصاحب الترغيب والترهيب يقول: الترغيب في صوم الأربعاء والخميس والجمعة والسبت والأحد، وما جاء عن تخصيص الجمعة بالصوم أو السبت". أما أبو داود الذي روى حديث النهي السابق الذكر يقول: "باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم". ثم يقول بعد ذلك: "باب الرخصة في ذلك". وكذلك أبو عيسى الترمذي الذي روى حديث النهي يقول معلقا بعد ذكر نص الحديث: "هذا حديث حسن". ومعنى كراهيته في هذا: أن يخص الرجل السبت بصيام". إلى غير ذلك من أقوال الفقهاء والمحدثين.
أيها المسلمون: وخلاصة هذا – والله أعلم- أنه يجوز صوم يوم السبت، بل يستحبّ لأنه وافق يوم عاشوراء وليس تخصيصا له. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا يوم السبت" أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض، أما النفل فمكروه، ولا تزول الكراهية إلا بضمّ غيره له، أو بموافقته عادة، وقد وافق يوم السبت يوم عاشوراء، الذي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ صيامه يكفر سنة ماضية. فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: "يكفر السنة الماضية".
فصوموا - أيها المسلمون - هذا اليوم واطلبوا فضله، واسألوا الله سبحانه وتعالى أن يكتب لكم في هذه الأيام عملا صالحا يرفعه، يكفر به السيئات، ويرفع به الدرجات، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم و لجميع المسلمين، آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله، واسع العطاء والجود، أحمده سبحانه وهو الرب المعبود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنه محمدا عبده ورسوله، صاحب المقام المحمود والحوض المورود، اللهم صل و سلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: ليكن لكم في مستهل عامكم الهجري الجديد، بداية طيبة بالإقبال على الطاعة والبعد عن المعصية، واعلموا أن شهركم هذا هو شهر الله الحرام الذي يمتحن فيه إيمانكم بإخراج زكواتكم، فيجب أن تخرجوا من هذا الإمتحان بالفوز والنجاح، وهو التغلب على طبيعة الحرص فيكم، فبرهنوا على إيمانكم، وأخرجوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، وأدّوهــا لمستحقيهـا، قــال الله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله والله عليم حكيم". ( التوبة:60).
فواسوا فقراءكم، وكفكفوا دموع اليتامى والأيامى من إخوانكم وأخواتكم، "وأنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين".
اللهم أعد علينا هذا اليوم وهذا الشهر بالخير والبركات، وعمّنا فيه بفضلك ورحمتك، وسامحنا بعفوك وقدرتك، وعاملنا بلطفك وإحسانك، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء وقنا الزلازل والمحن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم واجعل بلدنا بلدا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين .
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: جمع الزكاة
الخطبة الأولى
الحمد لله، مستوجب الحمد برزقه المبسوط، وكاشف الضرّ بعد القنوط، الذي خلق الخلق وبسط الرزق. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أفاض على العالمين أصناف الأموال، وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال، أحمده سبحانه وأشكره، والشكر واجب له على كل حال. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وضع أسس التكافل بين الجماعة الإسلامية، فوثق الروابط وشد الإخاء. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: ها هو العام يدور دورته، وها هو ذا شهر الله الحرام يهل هلاله، وهو الشهر الذي اعتاد فيه بعض أغنياؤنا إخراج زكاتهم، إنه موعد يمتحن الله فيه أيمانهم، أيشكرون أم يكفرون؟ .
إن الزكاة - يا عباد الله - من أكبر آيات الإيمان، وموجبات الثواب والرضوان، إنها تبوئ غرف الجنان. وهي زكاة بما تحمله من اسم طيّب، تزكي الأنفس والأبدان والأموال. قال تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم". التوبة:153.
وإننّي في هذا المقام، لا أريد أن أتحدث فرضية الزكاة، ولا عن من تجب عليهم، ولا عن وعائها ومقاديرها ومصارفها، فإن ذلك له وقت آخر، ولكن أريد أن أقف اليوم لتعلموا:
أن الزكاة ليست منحة من القادرين للمعوزين، أو نحلة من الموسرين للمحتاجين، وإنما هي حق للفقير والمحتاج، أُودع لدى الغني الموسر أمانة عنده، يقوم على حفظها ورعايتها. وعليه أن يردّ الوديعة والأمانة إلى صاحبها. وهذا هو الأسلوب الذي أدبنا به النبي صلى الله عليه وسلم، حيث استخدم لفظ إعادة الحق إلى أهله الفقراء والمحتاجين. لقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذ اً بن جبل حين بعثه إلى اليمن قائلا: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هـم أطـاعـوا لذلك، فأعلمهم أن الله عز وجل افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تأخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم. واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". رواه الجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ثم لتعلموا- أيها المسلمون: كذلك أنّ الزكاة هي أرفع أركان الإسلام شأنا. وأكثر أوامره ذكرا، وأوفر مقاصده عناية، ولو ذهبنا نستقصي ما نزل في القرآن الكريم من الآيات في العبادات، لوجدنا أن آي الصوم في القرآن أربع آيات، وأي الحج بضع عشرة آية، وآي الصلاة لا تبلغ الثلاثين، أما آي الزكاة والصدقة فإنها تربو على خمسين. لذا أكد النبي صلى الله عليه وسلم فرضيتها وبين مكانتها في دين الله، ورغّب في أدائها ورهّب من منعها بأحاديث شتى وأساليب متنوعة. أذكر منها ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني بشدقيه– ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية: "ولا تحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة" .
لعلكم–عباد الله–من ذكر هذا الحديث تدركون أهمية الزكاة في الإسلام، فهي ليست فرعا ولا نافلة، ولا بالقدر الذي يخفي أثره في حياة الفرد والمجتمع.
ذلكـم أيهـا المسلمون: إن الزكاة ليس حقا موكولا للأفراد، يؤدّيه منهم من يرجو الله والدار الآخرة، ويدعه من ضعف يقينه بالله والدار الآخرة، كلا!. إنها ليست إحسانا فرديا، وإنما هو تنظيم اجتماعي تشرف عليه الدولة، وهو من واجباتها الأساسية. قال تعالى: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور". الحج 41 .
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يوجّه ولاّته وسعاتـه إلى الأقاليم والبلدان لجمع الزكاة، ويأمرهم أن يأخذوا الزكاة من أغنياء البلد ثم يردونها على فقرائه، ولقد سمعتم آنـفا حديـث معاذ بن جبل المتفق عليه. وشاهدنا من ذلك الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم...". فبين الحديث: أن الشأن في الزكاة أن يأخذها آخذ، ويردها رادّ، لا أن تترك لاختيار من وجبت عليه.
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر:"… استُدِل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه وإما بنائبه، فمن امتنع منهم أخذت منه قهرا " .فتح الباري 5/123.
هذا هو الذي جاءت به السنة القولية، وأكدته السنة العلمية، والواقع التاريخي الذي جرى عليه العمل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده.
وبهذه المناسبة فإني أدعو أولئك الذين آتاهم الله من فضله، أن يخرجوا زكاة أموالهم طيبة بها أنفسهم، واضعيها في الحساب البنكي لهيئة الزكاة. لتقوم نيابة عنهم بتوزيعها وصولا إلى أصحاب الحاجة، خاصّة الذين لا يسألون الناس إلحافا، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
ولقد جبل الجزائريون- مثل إخوانهم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها- على فعل الخير وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حيث الأفراد يتولون إخراج زكواتهم، ويقومون بأنـفـسهم بالسؤال عن المحتاجين، وتفقد الفقراء وإيصال الزكاة إليهم لسد حاجتهم ويعانون في ذلك مشقة في إخراجها والبحث عن مستحقيها، والحال هذه، فإن الزكاة لا تؤتي ثمارها، لذا ارتأى الخيّرون من هذه الأمة– بارك الله جهودهم– على إيجاد نظام حديث ومتقدم، يرعى شؤون الزكاة – يتولى جمعها وتوزيعها في أبواب الزكاة المشروعة، وكان بحمد الله صدور القانون بإنشاء هيئة الزكاة .
فاتقوا الله عباد الله: وأدُّوا زكاة أمولكم طيبة بها أنفسكم. ضعوها في صندوق الزكاة، أدّوها من ولاه الله أمركم، فمن برّ فلنفسه، ومن أثم فعليها، قـال تـعالى: ".. والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله .... ماكنتم تكنزون" .التوبة: 34.
أقول قولي هذا....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمد عبده ورسوله الأمين، صلى الله عـلـيـه وعـلـى آلـه وصحـبـه أجمعين.
أما بعد: فقد روى مسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدّي حقها إلا جعلت له يوم القيامة صفائح، ثم أحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أتى بها يوم القيامة تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما مضى عليه أخراها رُدّت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدون. ثم يرى سبيله إما إلى الجنة أو النار".
فاتقوا الله، عباد الله: وأدّوا زكاة مالكم طيبة بها أنفسكم، مبرهنين على إنسانيتكم وإيمانكم، كفكفوا دموع اليتامى والأيامى من إخوانكم وأخواتكم، وانهضوا بهذا المشروع. وأدّوها إلى لجنة الزكاة التي تعمل على سعادتكم، "وأنـفـقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين".
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم أكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبيل السلام. واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، ووفق– اللهم- ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: زكاة الزروع والثمار
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي منّ على عباده بما أخرج لهم من الزروع والثمار، وأنعم عليهم بمشروعية صرفها فيما يرضيه عنهم من غير إسراف ولا إقتار. وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العزة والإقتدار. وأشهد أن محمدا عبدا عبده ورسوله المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه آناء اليل وأطراف النهار، وسلم تسليما.
أما بعد، فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا أن من أجلّ نعم الله على الإنسان أن مهّد له هذه الأرض، وجعلها صالحة للإنبات والإثمار، وأجرى سنّته الكونية بذلك، فجعلها المصدر الأول لرزق الإنسان ومعيشته وقوام بدنه. وهذا لمن تأمّله بعين بصيرته محض فضل الله تعالى، فهو الذي سخّرها وجعلها ذلولا وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها وجعل فيها معايش. قال تعالى: "ولَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ". 10الأعراف.
إن الله هو الذي صنع هذا كله، وقدّره فأحسن التقدير، ودبّره فأحسن التدبير. ولا غرو أن امتنّ بذلك على عباده في آيات كثيرة من كتابه، وردّ الفضل إلى أهله، مثل قوله تعالى: "أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ" 63ـ67 الواقعة. وقوله تعالى: "وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ"19ـ22 الحجر. وقوله تعالى: "وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُون لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ":33-35يس.
أجل ـ يا عباد الله ـ: إن ما أخرجته الأرض من زرع وثمر إنما هو من فضل الله ومن عمل يده، لا من عمل أيدينا القاصرة، هو الزارع المنبت حقيقة لا نحن، فلا عجب أن يطالبنا سبحانه بالشكر على هذه النعمة السابغة التي جاءتنا عفوا صفوا، وأكلنا منها هنيئا مريئا. قال تعالى: "ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون".
ألا وإنّ أول مظاهر هذا الشكر، هو أداء الزكاة مما خرج من الأرض وفاء ببعض حقّه سبحانه، ومواساة المحتاجين من خلقه، وهذه الزكاة هي المعروفة في الفقه الإسلامي باسم "العشر أو زكاة الزروع".
أيها المسلمون: عما قريب يبدأ موسم الحصاد، أسأل الله أن يكون موسم خير وبركة، وبهذه المناسبة أقول لإخواني الفلاحين، إن العلماء منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم نبّهوا إلى أمر جدير بالذكر، وهو أن سنّة القرآن أن يقرن الصلاة والزكاة، وقلّما تنفرد إحداهما عن الأخرى. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "أمرتم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له". رواه الطبراني في المعجم الصغير. وجاء في تفسير الخازن: "وقال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعاً لم يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه! يعني بذلك ما ذكره أبو بكر في حق منع الزكاة، وهو قوله: "والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما". يعني الصلاة والزكاة. فيما ما رواه أبو هريرة قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل" فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها. وفي رواية، عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق". اهـ 2/232.
أيها المسلمون: الزكاة هي ثالثة دعائم الإسلام، لقد أكّد النبي صلى الله عليه وسلم فرضيتها وبيّن مكانتها في دين الله، وأنها أحد الأركان الأساسية لهذا الدين، ورغّب في أدائها ورهّب من منعها بأحاديث شتى وأساليب متنوعة، نقرأ في حديث جبريل المشهور الذي رواه البخاري حين جاء يعلم المسلمين أمر دينهم بحسن السؤال، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، ما الإسلام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت إلى ذلك سبيلا". وفي حديث ابن عمر المشهور: "بني الإسلام على خمس..." وغير ذلك من الأحاديث. وأنذر في أحاديث أخرى مانعي الزكاة بالعذاب الشديد في الآخرة، لينبه القلوب الغافلة، ويحرك النفوس الشحيحة. من ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية: "وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ .." الآية .
ولم تقف السنة النبوية عند الوعيد بالعذاب الأخروي بل هدّدت بالعقوبة الدنيوية، شرعية وقدرية. فالعقوبة الشرعية القانونية هي التي يتولاها الحاكم، أو وليّ الأمر. جاء قوله صلى الله عليه وسلم في الزكاة: "من أعطاها مؤتجرا فله أجره، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا". رواه أبو داود وغيره. وإن أفلت مانع الزكاة من هذا، فإن هناك عقوبة قدرية، يتولاها القدر الأعلى سبحانه. يقول عليه الصلاة والسلام: "ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين". رواه الطبراني. السنين: جمع سنة، وهي المجاعة والقحط. وقال أيضا: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا". رواه ابن ماجه. وقال أيضا: "ما خالطت الصدقة ـ أو قال الزكاة ـ مالا إلا أفسدته". رواه البيهقي. وهذا الحديث ـ عباد الله ـ يحتمل معنيين كما قال الحافظ المنذري، المعنى الأول: أن الزكاة ما تركت في مال ولم تخرج منه إلا كانت سببا في هلاكه وفساده. ويشهد لهذا المعنى ما روي من حديث آخر: "ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة". رواه الطبراني. أما المعنى الثاني: إن الرجل إذا أخذ الزكاة وهو غني عنها ووضعها مع ماله أهلكته.
ألا فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأدوا زكاة زروعكم وثماركم، واشكروا الله على أن أمدّكم بما تعلمون، أمدّكم بأنعام وبنين وجنّات وعيون. اشكروا الله على هذه النعمة بإخراج ما أوجب عليكم فيها من زكاة. تدفعوا عن أنفسكم وأموالكم النقمة، وحاسبوا أنفسكم في ذلك محاسبة شديدة، فإن أهل الزكاة شركاء لكم فيها. لهم العشر إن كانت الزروع أو الثمار تشرب سيحا، ونصف العشر إن كانت تشرب بالمكائن والآلات. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر". رواه الترمذي وغيره. المراد بالعثري ما يشرب بعروقه من غير سقي. وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وفيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالساقية نصف العشور". رواه الإمام مسلم وغيره.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وحاسبوا أنفسكم، وراعوا العدل، ولا تظنوا أن الزكاة غرامة وخسارة، فإنما هي ـ والله ـ ربح وغنيمة. وفقني الله وإيكم لمعرفة الحق واتباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه، وهدانا وإياكم صراطه المستقيم. آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، قال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ". الآية:141 الأنعام.
أيها المسلمون: إنكم ستحصدون زروعكم وتجنون ثماركم ـ إن شاء الله ـ فالواجب عليكم أن تخرجوا ما أوجبه الله عليكم. حاسبوا أنفسكم في الدنيا قبل أن تحاسبوا في الآخرة. ولقد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأمته ما يجب عليهم من زكاة زروعهم وثمارهم بيانا ظاهرا لا إشكال فيه، بيانا تزول به الشبهة وتقوم به الحجة. واسألوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. واعلموا أن الزكاة لا تنفع ولا تبرأ بها الذمة حتى توضع في الموضع الذي وضعها الله فيه، مثل ذوي الحاجة من الفقراء والمساكين، فأدوا زكاة زروعكم وثماركم، واحمدوا الله الذي أبقاكم حتى أدركتم حصادها وجناها، واشكروه على أن شرع لكم من الإنفاق منها على ما يرضيه وزكاها. أدوا ما أوجب الله عليكم من زكاة، لتفوزوا بالخلف العاجل والثواب الجزيل من جزيل العطايا والمواهب.
روى الإمام القرطبي في تفسيره أن في التوراة: "عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة". وفى القرآن مصداقه، وهو قوله: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين".
وفقني الله وإياكم لأداء ما يجب علينا من مال وعمل على الوجه الذي يرضاه بدون عجز ولا كسل. وزادنا من فضله ما نزداد به قربة إلى ربنا، ورفعة في درجاتنا إنه جواد كريم، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولوليّ أمرنا ولجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: المولد النبوي الشريف
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، أرسله بشيرا ونذيرا وداعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، أرسله على حين فترة من الرسل، كراهة أن يقول الناس ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقد جاءهم البشير النذير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده لا بيد غيره الهداية والتوفيق، والإرشاد إلى خير طريق، هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام البرية، صاحب الأخلاق المرضية، سيد المرسلين، وقدوة المتقين. من سلك سبيله وصـل، ومـن عـدل عنـه غوى وضل.
كلّ القلوب إلى الحبيب تمـــــــــيل ومـعـي بهذا شاهد ودلــــــــــــــــــيل
أما الدليل إذا ذكرت محـــــــمـدا صارت دموع العارفين تسيل
هذا رسول الله هذا المصطفى هذا لكل العالمــــــــين رســـــــــــــــول
يا سيد الكونين يا عـلم الهــدى هذا الـمحبّ في حمــــاك نزيل
صلوات ربي وسلامه عليك وعلى آلك وأصحابك السادة الأخيار، الأتقياء الأبرار، الذين تأدبوا بآدابك، وتابعوك في أخلاقك وعاداتك، رضي الله عنـهــم ورضوا عنه، فجزاهم الله أحسن ما كـانـــوا يعـمـلـون .
أما بعد، فيا عباد الله: هلت علينا ذكرى مولد خير البشرية، ونور الله إلى العالمين قاطبة. ذكرى مولد النبي الأكرم، والرسول الأطهر، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من إسماعيل كنـانـة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بنـي هـاشـم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار".
وجاء في كتاب أعلام النبوة لأبي الحسن الماوردي قوله: "لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت لانتهاء صفوتهما إليه وقصور نسبهما عليه، ليكون مختصًّا بنسبٍ جعله الله للنبوة غاية، ولتفرده نهاية فيزول عنه أن يشارك فيه، ويماثل فيه، فلذلك مات عنه أبواه في صغره، فأمّا أبوه فمات وهو حمل، وأما أمّه فماتت وهو ابن ست سنين".
أيـهـا المسلمون: في هذا الربيع، ربيع المولد النبوي الكريم، تتجاوب أغاريد الشعر، وتتفتح أزهار الفكر، حافلة بالثناء والتمجيد بمزايا خاتم المرسلين، وليس في استطاعة الواصف- وإن ملك أسباب البيان– وليس في إمكان الخاطب– وإن وهب أسرار البلاغة– أن يحصي شمائل هذا النبي العظيم، أو يحصر خصاله، أو يحدّد آثاره .
فإن فضل رسول الله ليس له حدّ فيعرب عنه ناطق بفم
فمبلغ العـــــــــلم فيه أنه بــشـر وأنــــــــــه خير خلق الله كلـــــهم
أيها المسلمون: لو كانت عظمة العظيم بما يملك من مال، أو بما يصل إليه من متاع الحياة الدنيا وطيباتها، لكان رصيد محمد من العظمة ضئيلا، ونصيبه منها قليلا، فها هي زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي أعلم الناس به وبمقاييس العظمة. ترثيه فتقول: "بأبي لم ينم على السرير ولم يشبع من الخبز الشعير". إن عظمته جاءت حصيلة إعداد إلهي خاص وعناية ربانية، وهذا ما أشار إليه الإمام علي بن أبي طالب بقوله: "ولقد قرن الله به صلى الله عليه وسلم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم، نهاره وليله".
لقد أوتي صلى الله عليه وسلم النجاح في كل شيء، لما فُطر عليه من أخلاق كريمة، وما أُعطيه من حسن السياسة ووضع الأمور في نصابها، صاغ من أصحابه قرآنا حيّا يدبّ على الأرض، حوّل إيمانهم بالإسلام عملا، طبع من المصحف عشرات النسخ، ثم المئات والألوف. ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، وإنما طبعها بالنور على صحائف القلوب، وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي، وتقول بالفعل والعمل. ما هو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من عند الله؟.
أيها المسلمون :وإليكم هذه الهدية بهذه المناسبة، مثلا عظيما من أمثلة دونها التاريخ في ثناياه، لتعرفوا السياسة الحكيمة، والمعاملة الحسنة التي كانت تنساب من فطانته وخلقه العظيم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
روى ابن هشام في سيرته، أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء. وَجَد هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحيّ من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سَعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردّهم. فلما اجتمعوا له، أتاه سَعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحيّ من الأنصار. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار: ما قالةٌ بلغتني عنكم، وجِدة وجدتموها علي في أنفسكم؟. ألم آتكم ضلاّلا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟. قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل، ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟. قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟. لله ولرسوله المنُّ والفضل. قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدقتكم ولصُدقتم، أتيتنا مُكذّبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما ليُسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم. ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟. فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء ألأنصار.
قال: فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتـفرقوا".
عباد الله: إن المرء ليقف خاشعا أمام هذا الإعجاز البلاغي النبوي. كلمات صادقة مخلصة، انبعثت من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمها لسانه، أخذت بمجامع قلوب الأنصار وفاضت أعينهم بالدمع ندما، وصعدت نفوسهم إلى مرتبة الملائكة، قتلت الفتنة في مهدها، ويا له من قول عظيم، ذلك الذي نطق به القائد الذي استطاع في لحظة قصيرة أن يغيّر النفوس ويردها إلى الحق، فإذا المادة لا قيمة لها، وإذا الغنائم كلها لم تكن، وإذا متاع الدنيا لا معنى له !.
لنسمع مرة أخرى إلى هذا التعبير الذي يجلّ عن الوصف، وهذا التساؤل الذي ينفذ إلى القلوب، فلا يتركها إلا وقد أسلمت قيادها لله. "أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟. فو الذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شعبا، وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار".
أيُّ شرف هذا الذي ناله الأنصار في هذا اليوم؟. إن الدنيا كلها بكنوزها لتتضاءل أمام هذا المغنم: "رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبرسوله قسما" ّ. وعاد الركب إلى حيث يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد غمرتهم سعادة الإيمان، وظللتهم فرحة الرضا.
أيها المسلمون: كم نحن بحاجة إلى الإطلاع والتنقيب في سيرة هذا العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم، ما أحوجنا أن نتذكر معالم هذه الذكرى ببشاراتها ومعالمها وآفاقها التي كانت إيذانا بميلاد أمة قوية، نفخ فيـها نبيها روح المحبة، فإذا هي أمّة قويّة حطمت أسوار الطغيان والمادة، ومحت معالم الشرك والوثنية. فماذا يطبق المسلمون اليوم من سنته وسيرته صلى الله عليه وسلم؟.
إن الذكريات كثيرة، والمعاني عظيمة، وخير الناس هو من يتعظ بالذكرى. ويجعل منها نقطة على طريق الخير والرشاد.
فاجعلوا - عباد الله- من ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عزما وعهدا على أن تسعوا جاهدين ما وسعكم الجهد، لتطبقوا شرع الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تسلكوا الطريق المستقيم الذي لا حياة سعيدة للأمة الإسلامية إلا بسلوكه .
وفقني الله وإياكم لذلك، ونفعني وإياكم بالقرآن الكريم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمد الشاكرين، ونشهد أن لا إله إلا الله، نؤمن به إيمان الموقنين، ونقرّ بوحدانيته إقرار الصادقين، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير الموحّدين وسيّد المرسلين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد، أيها المسلمون: في خِضِّم الأحداث الجسام التي تحاصر أمتنا اليوم في أكثر من مكان، تأتي هذه الذكرى العطرة، ذكرى مولد خاتم الرسل والأنبياء، نبي هذه الأمة وهاديها ومرشدها وقائدها. لتضيء لنا الدّرب وسط ظلمات العصر، ولتعيد الثقة للقلوب الواجفة .
إن هذه الذكرى إنما تستثير فينا نخوة الإسلام، وإن قائدنا الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، يرسم لنا الطريق بقوله: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". رواه مسلم عن النعمان بن بشير .
والجسد الإسلامي اليوم مثخن بالجراح، وأطرافه تئن تحت وطأة الظلم. ولا خلاص إلا بالتمسك بديننا، والتأسي برسولنا، ونبذ الفرقة بين صفوفنا.
اللهم تدارك هذه الأمة برحمتك، وألهم قادتها الرشاد، وأجمع صفوفهم على الخير. وارفع عن أبناء المسلمين طوفان الشرور التي تحيط بهم، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم واحم الجزائر من كل سوء، ويسّر لأبنائها طريـق الـتـقـدم والإزدهار. وزوّدهم التقوى يا رب العالمين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: عقيدتنا في القدس
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي وفقنا للإسلام، وهدانا للإيمان به دينا خاتما، ورسالة عظمى، ترشد الخطى إلى خير السبل، وتوجه الفكر إلى أنبل الغايات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، حمل نبأ السماء إلى الأرض، نورا يهدي للتي هي أقوم، بلغ رسالة ربه بأمانة الأنبياء، وصدق أولى العزم من الرسل، وجاهد في الله حق جهاده، وضرب المثل الأعلى في التضحية والفداء، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وارض اللهم عنا معـهم أجمعين
أما بعد: فإن أشرف المواطن وأفضلها عند الله عز وجل، وإن أقدس الأماكن وأجلها عند عباده، تلكم التي يجد الإنسان فيها ذاته، ويتعرّف فيها على ربه، ويقف فيها على واجباته ووظيفته، والتي تمثل مراكز الإشعاع في أرض الله، ومصادر العطاء الروحي و النفسي.
إنها–أيها المسلمون– بيوت الله، التي أذن الله أن ترفع وتطهّر، والتي يأتي في طليعتها بعد الحرمين الشريفين، المسجد الأقصى الذي قال الله فيه: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" .الإسراء: 1.
إن هذه الآية تشير إلى أنّ المسجد الأقصى وثيق الصلة بحادثتين من الحوادث ذات الشأن في التاريخ الإسلامي وهما: الإسراء والـمـعراج، فالإسراء رحلة أرضية، والمعراج رحلة سماوية، والمسجد الأقصى كان مركزا في كلتا الرحلتين، فهو في الأولى نهاية الإسراء، وفي الثانية بداية المعراج، والرحلتان ترتبطان ارتباطا وثيقا برسالات الله إلى عباده بانبثاق نور الهداية، وبجهاد الرسل في إرشاد الخلق إلى عبادة إله واحد، والربط هنا – والله علم – له دلالات وفوائد .
أيها المسلمون: إن المتأمّل لآيات القرآن وأسباب النزول وأحاديث التاريخ، يجد أن هذا الربط يشعرنا بأهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، وفي مقدمتهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يُصلُّون في مكة ويتجهون إلى المسجد الأقصى في صلاتهم، فهو قبلتهم الأولى، وهو ثالث مسجد تشدّ إليه الرحال، والصلاة فيه كما جاء في الحديث بخمسمائة صلاة، وفي رواية بألف صلاة، وفي أخرى بخمسين ألف صلاة. وهو أرض المحشر والمنشر، كما جاء في الأثر .
فماذا أقول أيها المسلمون؟. وشهر رجب يدخل علينا هذا العام، ويقترب موعد الذكرى، وقد وضع أعداء الله يدهم على المسجد والصخرة، وضاع من يدنا أولى القبلـتين وثالث الحرمين الشريفين، وبدأ اليهود يخططون لإعادة بناء هيكل سليمان– المزعوم - على أنقاض المسجد الأقصى، ويسعون لتحقيق ما يسمونه الوطن اليهودي، ومعناه: امتلاك مصر والشام، والمدينة المنورة ومكة البلد الحرام.
ماذا أقول أيها المسلمون؟. وقد رأى المسلمون بأعينهم منذ أعوام مضت، أن الشياطين عادوا إلى ميدان الإسراء ليلعبوا فيه من جديد دورا لإفساد الذي ورثوه عن أسلافهم وآبائهم، فها هم قد تكتلوا وتجمعوا من هنا وهناك على سلبه واغتصابه من أهله وتثبيت أقدامهم فيه.
نفسي تذوب أسىً والقلب يجرحـه مما عدا ببلاد الشـام أرزاء
فأين مسرى رسول الله وقد وطئت به اليهود، فهل للحق أبناء؟
ماذا أقول أيها المسلمون: وقد عاد "شارون" سفاح "صبرا وشاتيلا" إلى المسجد الأقصى المبارك، ودنّس رحابه الطاهرة، متحدّيا بذلك عزة الإسلام، ومهينا لأكثر من مليار، ممن يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسـول الله صلى الله عليه وسلم؟.
ماذا أقول أيها المسلمون، والمسجد الأقصى أصبح أسيرا في قبضة شراذم خلق الله، وهم أشرّ خلق الله فسادا. هم قتـلة الأنبياء وعبدة العجل والطاغوت؟.
أقول: إن المسلمين جميعا في أنحاء الأرض يتحمّلون أمام الله مسؤولية اغتصاب قلب العروبة والإسلام، التي بارك الله أرضها، إنهم يسمعون ويشاهدون ما تعرضه علينا وكالات الأنباء، وتلفزيونات العالم من تقتيل عشوائي، وبدون تمييز. قتلوا الشيوخ، وذبحوا الأطفال، ورمّلوا النساء وأباحوا أجسادهن في فجور، لقد فاقت المذابح كل حدّ. فأين الأمم المتحدة؟. وأين منظمات حقوق الإنسان؟. وأين الرأي العـام العالـمـي؟.
إنّي بلسانكم، ولسان الجزائريين كلهم، من الأجنّة في بطون الأمّهات، إلى الذين هم في الأجداث، أرفع الشكوى إلى الله، ثم إلى كل من فيهم إنسانية من جميع الأمم.
وأقول لكم أيها المسلمون: إن أعداءنا– أعداء الله– يعملون في صمت وإخلاص في عملهم، ونحن– المسلمين– مع كثرة العدد وسعة الثروة، غثاء. روى الإمام أحمد وأبو داود بإسناد حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها"، قالوا: أمن قِلة نحن يومئذ يا رسول الله؟، قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن، قالوا : ما الوهن؟، قال: حب الدنيا وكراهية الموت". صدقت– بأبي وأمي– يا رسول الله
لكنّي أقول للذين يسمعون الأصوات العالية، الصادرة من هناك، من أقصى الغرب تنادي وتصرخ وتضغط لمدّ إسرائيل بكل ما تحتاجه من أدوات التدمير لتواصل عمليتها في كبت أنفاسنا.
وأقول للذين يقرأون أن ّالمدد المالي الذي يأتي لإسرائيل من هناك، من أقصى الغرب في شكل مساعدات حربية ومدنية .
أقول: إن ذلك وغيره لا يفزع الفلسطينيين، ولا يفزعنا ما دمنا مؤمنين بالله، الإيمان الذي يهدّ الجبال ويزحزحها، وما دمنا رجالا نؤمن بأن كرامة الأمة من كرامة أفرادها، ونعمل بمقتضى هذا الإيمان .
أقول .. أقول: يا أيتها الأمة المسلمة خذي دروسا من أخطائك الماضية، وتجنبيها في مستقبلك، وغيّري خطتك التي تسيرين عليها، وانتهجي نهج السلف الصالح في عزّتهم وإبائهم، وتضحيتهم وفدائهم، وجمع كلمتهم وتوحيد منهجهم، والتأسّي بسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه في خلقه وسلوكه، وفي شريعته ومنهاجـه. "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم".
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال صلى الله عليه وسلم:" اللهم منزّل الكتاب، ومجرى السحاب، وهازم الأحزاب ،اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم". رواه البخاري ومسلم.
اللهم آمين، أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي سبّحت الكائنات بحمده، وعنت الوجود لعظمته ومجده. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عـليه وسلــم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: "يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال: فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود". رواه مسلم .
أيها المسلمون : إنها لإشارة عظيمة من نبي صادق عظيم، تأتي في هذه الفترة العصيبة التي تكاد تأخذنا بالخناق، والتي يشعر فيها كل مسلم بالأسى والحزن لما يصيب حوله من إخوان له في العـقـيدة والدين من تقتيل جماعي، حصد الأطفال والنساء والشيوخ والشباب العزل ...
في هذه الآونة تأتي بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن الدنيا لا يمكن أن تزول حتى تقع المعركة الفاصلة بين المسلمين واليهود، والتي ينتصر فيها جند الرحمن على جند الشيطان، وتكون الغلبة فيها لعباد الله المؤمنين. تصديقا لقول الحق تبارك وتعالى: "وإن جندنا لهم الغالبون"، وقوله: "وكان حقا علينا نصر المؤمنين ".
نسأل الله الذي جلت قدرته أن يلهمنا الرشاد، ويبعث فينا عزة الأجداد، حتى نقوم بمسؤوليتنا في تحرير الأقصى ونشر دعوة الحق بين العباد، اللهم قوّ عزمنا، ووحد كلمتنا، واجمع شملنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل الإسلام، اللهم انصرنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك وانصرنا على أعدائنا حتى نسعد بظهور دينك، اللهم وانصر بروح منك إخواننا في فلسطين، واجعل الدائرة على عدوهم يا رب العالمين، اللهم اجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، وسدد خطانا وخطى ولاة أمورنا، وتقبل أعمالنا واختم لـنا بالسعادة و الغفران، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: الإسراء والمعراج
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأراه من آياته الكبرى، عرج به إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى حيث شاء العليّ الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كرّم نبيه وحبيبه ومصطفاه، فشرح صدره، ورفع ذكره، وأعلى قدره، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيما، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، نال من التكريم ما لم ينله نبي قبله، ولا أحد بعده .
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين، وسلـم تسليما.
أما بعد، فقد قال تعالى في كتابه الكريم: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هوا لسميع البصير ". الإسراء:1.
أيها المسلمون: تتقارب الأيام، وتطل علينا من جديد ذكرى الإسراء والمعراج، فياضة بالمعاني، مفعمة بالحكمة، ناطقة بكل حديث.
قبل الهجرة بعام، كان الإسراء و المعراج، أو بالأحرى كان الإعزاز والإكرام، كانت المعجزة التي أطلت بها السماء على الأرض، في عام سجّله التاريخ الإسلامي تحت عام الحزن، وقتٌ عصيبٌ، وزمنٌ رهيبٌ، ابتليت فيه القلة المؤمنة بأصعب ما يمكن أن يبتلى به الإنسان، وفَقَد الرسول صلى الله عليه وسلم عزاءه بموت خديجة رضي الله عنها، وفَقَد المسلمون سندهم وعونهم في مكة بموت أبي طالب .
وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف، وقد تورّمت قدماه، بعد أن أغرت به ثقيف سفهاءها، وترتفع دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء.
"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى عبد يتجهّمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أنّ عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو أن ينزل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك". (سيرة ابن كثير).
ويهدأُ الرسول الكريم، ويشرح الله صدره بعد هذا الدعاء، وتبدأ رحمات الله تنزل، فيسخّر الله له من الكفار من يرقّ له، فيرسل إليه طعاما وشرابا. ويمرّ في هذا الوقت نفر من الجن، يستمعون ما يتلى من آيات الله فيؤمنون به، وينطلقون إلى قومهم منذرين .
ويعود صلى الله عليه وسلم– إلى مكة- ، وتأتي نفحة الله الكبرى لنبيه بعد هذا العناء، وتهتف السماء له، فسبحانه يدعوه في ليلة مباركة، حيث السكون يلفّ مكة الغارقة في كفرها وعنادها ومجونها وجحودها، وحيث ملائكة الله غدّاءة روّاحة في بيت الحبيب المصطفى. فيشعّ النور الإلهي المفعم بالإيمان والخشوع والرهبة. ينتظر موكب الرسول الأعظم، صلى الله عليه وسلم إلى مسراه، ثم معراجه.
ويلبي الرسول نداء ربه، بنفس مطيعة وقلب خاشع، ويتحرك الركب الملائكي بإرادة الله وقدرته جل شأنه، إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وهناك جميع الأنبياء والمرسلين في انتظار الحبيب سيد الخلق، فيؤمّهم في الصلاة تكريما وتشريفا.
ثم يكمل رحلته النورانية إلى السموات العلى، ليرى من آيات ربه الكبرى، حيث اقترب إلى أعتاب النور الإلهي، حيث لم يقترب نبي مرسل أو ملك مقرب. وتكشّفت لعيني الرسول الخاتم، أسرار الزمن والأبد. فشاهد الموت والحياة، وما بعد الموت، وشاهد الجنة والنار، وتلقىّ عن ربه التكليف بالصلاة إسراء ومعراجا لكل مؤمن من أتباع هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وبعد هذه الرحلة السماوية المباركة، عاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وآوى إلى فراشه ولم يزل دافئا، والله على كل شيء قدير.
أيها المسلمون: ونحن نحتفي بهذه الذكرى، فليس لنا أن نحتفل باجترار وقائعها وسرد قصتها دون أن نستفيد منها في ديننا ودنيانا، وهي الزاخرة بصنوف الدروس والعبر.
ولعل أول درس يستفاد منها: يتمثل فيما يجب أن يكون عليه المسلم من عروج روحي دائم إلى ربه في كل زمان ومكان من خلال الصلاة التي شاء المولى عز وجل أن تكون منحته الجليلة في هذه المناسبة. تنطلق فيها وبها أرواح المؤمنين، لتكون على أرفع منازل القربى من الله عزّ وجل. "فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".
وليحذر الذين هم عن صلاتهم ساهون، فلقد كان من مشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة أنه: "أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالحجارة، كلما رضخت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تثّاقل رؤوسهم عن الصلاة ". رواه البيهقي.
فاتقوا الله–عباد الله–وحافظوا على هدية الله إليكم، واسألوا الله من فضله.
اللهم أعد علينا هذه الذكرى وأمثالها باليمن والإيمان، واجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفـحـات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما، آمين .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. صلى الله عليه وسلم تسليما .
أما بعد، عباد الله: إن ذكرى الإسراء والمعراج من أعظم الذكريات وأزكاها وأنفسها وأسماها، لكنها تحل هذا العام في ظل محاولات إسرائيلية مستميتة لانتزاع القدس الشريف من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، والسيطرة عليه وعلى كل المقدسات الإسلامية، وفي مقدمتها الصخرة المشرفة، وحائط الـبراق.
ووقوف المسلم في شهر رجب من كل عام مع أحداث هذه الذكرى، لا يجب أن يكون وقفة استعراض للحدث فقط، أو تذكر وقائعه بما يثير العاطفة، بل يجب أن يكون للعظة والعبرة والدرس، فيستنير بهذه السيرة، ويقتدي بهذه الأسوة، ويستعين بهديها، فيطهّر أرضه من الغاصبين، ويحافظ على مقدساتها، ويجلي عنها المعتدين، ويعمل على جمع شتاته وتوحيد صفه .
وفقنا الله لذلك، اللهم اجعلنا نحتفل بهذه الذكرى في عامنا المقبل من داخل المسجد الأقصى، فقوّنا وأعنّا، وألف بين قلوبنا وانصرنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، وانصرنا على أعدائنا حتى نسعد بظهور دينك، وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة يا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حـسـنة وفي الآخرة حسنة و قنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد .
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: فضل شهر شعبان
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي اهتدى بهديه المتقون، أحمده سبحانه أكمل لعباده الدين، فسار على نهجه الصالحون، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه، وأولئك هم المفلحون.
عباد الله: إن شهرنا هذا–شهر شعبان– له مكانـتـه بين الشـهور، فهو المقدمة لشهر القرآن والصيام، وهو شهر الدعاء والــرجـاء، والحمد والثناء لله العلي القدير .
تروى فيه أحداث كثيرة في حياة الرسل والرسالات، فلقد ورد أن الله نجّى فيه موسى من فرعون، ونجّى فيه إبراهيم الخليل من النار، ورست فيه سفينة نوح على الجوديّ، وغير ذلك. ولقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يحتفي بهذا الشهر ويزكيّه، وهو من الشهور المفضلة عنده، لما وقع له عليه الصلاة والسلام فيه من تكريم، ولما نال فيه من تعظيم، فهذا الشهر شهد أحداثا هامة في تاريخ الإسلام نذكر منها:
أن الله حقّق أمنية عزيزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يستقبلون في صلاتهم بيت المقدس، وكان صلى الله عليه وسلم يرجو أن تكون قبلته وقبلة أمّته الكعبة المشرفة، ويحكى القرآن تشوّق النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في قوله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره". البقرة:144.
نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالمؤمنين صلاة العصر، فتحول وهو في الصـلاة من استقبال بيت المقدس، إلى استقبال البيت الحـرام. ولما علم اليهود ذلك هاجوا وماجـوا وقالوا: لوكان محمد رسولا حقا ما خالف قبلة الأنبياء قبله، وقال الكفار: رجع محمد إلى الكعبة، وعما قليل يرجع إلى ديننا، فأنزل الله تعالى: "سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل لله المشرق والمغرب، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم". البقرة:142. ثم قال جل شأنه مبينا حكمته تعالى في ذلك: "وما جعلنا القبلة التي كانت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقيبه..". البقرة:143. فشأن المؤمن الحق أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أنزل إليه من ربه.
إذن أيها المسلمون: في هذا الشهر أكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فأجاب دعاءه من غير سؤال، وحقق رجـاءه مـن غيـر طلب.
ويروى أيضا: أن الله سبحانه وتعالى أكرم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر بمـعـجزة باهرة، حيث قال كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسـلـم: "إن كنت رسولا من عند الله حقا، فانا نطلب منك دليلا وبرهانا على أنك نبي مرسل، وعلى صدق رسالتك"، وحدّدوا هم الدليل الذي أرادوه، فقالوا: نطلب منك أن ينشق القمر فرقتين، فرقة تبقى في السماء، والأخرى تنزل على الأرض ليكون برهانا على صدقك، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة إلى السماء، فانشقّ القمر حتى رأوا جبل حراء بينهما، والناس ينظرون، فكبّر المسلمون، أما الكفار فقالوا "سحر محمد أعيننا"، فأنزل الله تعالى: "اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمرّ، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقرّ ". القمر:1ـ3. تفسير ابن كثير 6/469.
أيها المسلمون: وفي شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة، فرض الله على المسلمين صوم رمضـان، وتـبـع هـذا فـرض زكـاة الفـطـر.
وفي شهر شعبان أيضا. وفي السنة الخامسة للهجرة، وقعت غزوة بني المصطلق، فهزم الله بني المصطلق. وقُتل منهم من قُتل، ونصر الله المسلمين بقيادة القائد الأعظم، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أخماس الغنيمة على المقاتلين، للراجل سهم، وللفارس سهمان.
أيها المسلمون: ما أعظم نفحات هذا الشهر، وما أجدرنا أن نكثر فيه من العبادة والطاعة لله.
اللهم وفقنا لذلك، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد قال أسامة بن زيد رضي الله عنه، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: لماذا تكثر الصيام في شهر شعبان؟. قال عليه الصلاة والسلام: "يا أسامة، هذا الشهر يغفل الناس عنه، ما بين رجب ورمضان، وهو شهر ترتفع فيه الأعمال إلى الله، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". رواه النّسائي.
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما رأيت الرسول استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياما، كما يصوم شعبان".
أيها المسلمون: ها قد سمعتم بعض الأحداث التي وقعت في هذا الشهر، وسمعتم بعض الآثار التي وردت في فضله، كما وردت أقوال وآثار توجه الأنظار إلى ليلة النصف منه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلام طويل: "فقد روي في فضلها– أي فضل ليلة النصف– من الأحاديث والآثار ما يقتضي أنها مفضله، ومن العلماء من السلف من أنكر فضلها، وطعن في الأحاديث الواردة فيها"، وقال: "لا فرق بينها وبين غيرها من الليالي، لكن الذي عليه كثير من أهل العلم على تفضيلها". إلى آخر ما قاله رحمة الله عليه في موضوعها.
وعلى كلٍّ – يا عباد الله – فليلة النصف يحسن أن لا يسقطها المسلم من حسابه، ولا يكون فيها من الغافلين، لكن عليه أن لا يلتزم فيها بلون من العبادة مخصوص بها كصلاة بعدد معين، أو ترتيل أدعية مخصوصة، أو تلاوة سور من القرآن بعدد معين. فهذا لم ينقل عن سلف الأمة وخيارها، والمسلم الواعي الرشيد، لا يعتمد في دينه إلا ما صح النقل به عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وخاصة فيما تضاربت فيه الأقوال، واختلفت فيه الإتجاهات. جاء عن الفضيل بن عياض رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا "، إنّ العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، والخالص أن يـكــون لله، والصواب أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فاحرصوا–رحمكم الله – أن تجعلوا عباداتكم خالصة لله، موافقة لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم واتقوا الله لعلكم تفلحون.
اللهم أعد علينا هذه الأيام المباركة بالأمن والإيمان، وبلغنا رمضان، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عـبـادتـك، ربـنـا آتنا في الدنـيـا حسنة. ...
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: استقبال شهر رمضان
الخطبة الأولى
الحمد لله، شرع الدين هداية للمؤمنين، وأذاق الطائعين حلاوة الطاعة واليقين، وجعل السعادة للصائمين القائمين الخاشعين، وأشهد أن لا إله إلا الله، جعل الصوم حصنا لأوليائه وجنّة، وفتح لهم أبواب الجنّة. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، واتقى وتهجّد وقام. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة تتعاقب بتعاقب الضياء والظلام، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا عباد الله: غداً، أو بعد غد، يطلّ على العالم الإسلامي الشهر الكريم، ويبدأ المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها فريضة الصوم، طُهرة للبدن، واستجابة لفريضة كتبها الله، فأروا الله–يا أيها المسلمون– في هذا الشهر خيرا، فإن لله فيه نفحات، من حرمها حرم خيرا كثيرا .
لقد كان السلف الصالح– رضوان الله عليهم– يتأهّبون لقدوم هذا الشهر قبل استهلاله، وتستبشر به نفوسهم، وتستشرف لنظره، استشرافها لقدوم غائب عزيز من سفر بعيد. رُوي عن الإمام علي كرم الله وجهه، أنه كان لا يستشرف لهلال، إلا هلال رمضان، وكان إذا نظر إليه قال: "اللهم أدخله علينا بالسلامة من الأسقام، والفراغ من الأشغال، ورضّنا فيه باليسير من النوم". وروى البيهقي في شعب الإيمان عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيامه ليلة تطوعا، من تقّرّب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتقا لرقبته من النار، وكان له مثل أجره، من غـيـر أن ينقص من أجره شيء، قلنا يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال صلى الله عليه وسلم: يعطي الله هذا الثواب من فطّر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء، ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، عتق من النار".
فيا لَسعادة من أدركه. وقام بما افترض الله عليه صومه، وأدى ما تيسر له من قيامه.!
فرمضان–يا عباد الله– فرصة العمر، فيجب أن لا تفلت هذه الفرصة دون كسب يدّخره المرء لعقباه، وإلا كان محروما من الخير في شهر الخير. قال صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له". رواه الترمذي.
فأسباب الرحمة والمغفرة في هذا الشهر من الكثرة بحيث لا يحصرها عدّ ولا بيان، يعطي الله فيه الأجر الجزيل على العمل القليل، فتفطير الصائمين ولو باليسير من التمر ومذقة اللبن وشربة الماء، يغفر الله بها الذنب ويعتق بها من النار. وهل لمسلم غاية أرفع من الغفران، والعتق من جحيم النيران؟ .
لكنّ هذا الفضل لا يناله إلا من ارتفع بصومه عن الهفوات والسقطات، فليس الصوم من الطعام والشراب، وإنما لكل جارحة صيام، قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". رواه البيهقي. وروى أيضا: "ليس الصيام من الطعام والشراب، إنما الصيام من اللغو والرفث".
فاحرصوا– يا رعاكم الله– كل الحرص على الإرتفاع بصومكم عن الآثام، لتفوزوا بالجـنـة دار السلام، وخذوا بوصية الصحابي الجليل، جابر بن عبد الله، قال: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم وأذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك وفطرك سواء". رواه ابن أبي شيبة في المصنف.
فاتقوا الله عباد الله، واستقبلوا ضيفكم بما هو أهل له، واسألوا الله أن يعينكم على ذكره وشكره. ويغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين. أقول قولي هذا.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، وعظموا هذا الشهر المبارك، بالصيام والقيام والتنافس في صالح الأعمال. فقد جاء في الحديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في حديث طويل أنه قال: "فاستكثروا فيه ـ أي في رمضان ـ من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء لكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلا الله والإستغفار. وأما الخصلتان اللتان لا غناء لكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار ". رواه ابن خزيمة.
فاتقوا الله، وأروا الله من أنفسكم خيرا في هذا الشهر المبارك، فإن لله فيه نفحات، من حُرمها حُرم خيرا كثيرا .
اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، اللهم أهل علينا هلال رمضان بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ووفق ـ اللهم ـ ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وسائر المسلمين يا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}الموضوع: فضل ليلة القدر
الخطبة الأولى
الحمد لله، شرح صدور المؤمنين للإقبال على طاعته، أحمده سبحانه، خصّ هذه العشر من رمضان بمزيد فضله، أحمده سبحانه وأشكره على نواله الكثير، وأستغفره من كل خطإ كبير أوصغير . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير من احتفى بهذه العشر، وأطال فيها القيام لعبادة ربه، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيا أيها المؤمنون: إن الله تعالى أنزل كتابه الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في شهر رمضان، في ليلة مباركة، ليلة القدر، التي مدحها وأثنى عليها، ورفع شأنها، وضاعف الثواب على عمل الخير فيها، حتى جعلها خير من ألف شهر. قال تعالى: "إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر". سورة القدر.
أيها المسلمون: إن من فضل هذه الليلة، وعظم كرامتها، إنزال الملائكة من السماء إلى أهل الأرض تشريفا وتكريما للكتاب الذي أنزل في هذه الليلة، فتسلّم الملائكة على كل مسلم لله عابد، وكل راكع وساجد، وكل مسبّح وذاكر، وعلى كل المستقيمين الذين طهرت قلوبهم من الحقد والحسد، وابتعدت نفوسهم عن السـحت والحرام، وأقبلوا مخلصين في أعمالهم لله الملك العلام، ولا تزال تهبط من الملإ الأعلى إلى ملإ أهل الأرض، من غروب شمس ليلة القدر حتى مطلع الفجر.
إنها ليلة الشرف العظيم، فيها يفرق كل أمر حكيم، فهي حريّة بالتعظيم والتكريم، جديرة بإحيائها بالعبادة وطول القيام والركوع والسجود. قال صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". رواه البخاري عن أبي هريرة.
ومن منّا ـ يا عباد الله ـ من لا تتطلع نفسه إلى هذا الجزاء العظيم، والفيض العميم؟.
من أجل هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم اهتماما خاصا بهذه العشر، وكأنه مقبل على أمر عظيم له شأن، وأيّ شأن؟. إنها ليلة القدر. ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان إذا دخل العشر، شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله".
عباد الله: لا نجد نصا صريحا يحدّد على وجه التعيين ليلة القدر، وذلك لأجل أن تجتهد الأمة في الشهر كله، كما أخفى سبحانه الصلاة الوسطى من بين الصلوات، فالتمسوها في أفراد هذا العشر. كما جاء في الحديث: "تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان". رواه البخاري وغيره
وأهمّ ما تستقبلون به هذه الليلة: التوبة إلى الله من العصيان، وجلاء القـلب بالذكر والإستغفار وقراءة القرآن، والتصدق على المحتاجين ومعاملتهم بالإحسان، وكل هذا يدخل في معنى القيام بالإحتساب والإيمان، وأكثروا من الدعاء النبوي الذي علمه نبينا صلى الله عليه وسلم لأمنا عائشة رضي الله عنها، وقد قالت: "يا رسول الله: "أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول فيها"؟. قال، قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني". رواه الإمام أحمد وابن ماجة.
فاتقوا الله ـ عباد الله ــ وأكثروا من هذا الدعاء، لعل الله أن يعفو عنا وعنكم، ويعتقنا وإياكم وجميع المسلمين من النار. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
نفعني الله وإياكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، وتزوّدوا في هذه الأيام الطيبة بالزاد الذي ينفعكم يوم ترجعون فيه إلى الله، فليلة القدر كما جاء في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، العمل الصالح فيها يضـاعف، حتى يكون كأجـر وثواب من عاش في الخير والصلاح مدة ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، وتلك هي ألف شهر، فحريّ بمن التمسها ألا يخيب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. جاء في الحديث الشريف عن ابن عباس– رضي الله عنهما– مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينظر ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويعفو عنـهم ويرحمهم، إلا أربعة: مدمن خمر، وعاقا، ومشاحنا، وقاطع رحم". أخبار مكة للفاكهي ج4ص227.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، واغفر لنا ذنوبنا. وتقبل منا الصيام والقيام واحشرنا في زمرة خير الأنام، ووفقنا لما تحب يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام وأدخلنا الجنة دار السلام، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، ووفق اللهم ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر و التقوى، وارزقه البطانة الصالحة التي ترشده إلى الخير وتعينه عليه يـا ذا الجلال والإكـرام، اللهم واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: توديع شهر رمضان
الخطبة الأولى
الحمد لله الواسع العليم، الجواد البرّ الرحيم، خلق كل شيء فقدره، وأنزل الشرع ويسّره، وهو الحكيم العليم. بدأ الخلق وأنهاه، وسيّر الفلك وأجراه . "جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا". وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، المتفرد بصفات الكمال، والمخصوص بنعوت الجلال، الباقي وكل من عليها فان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلغ ما أنزل إليه من ربه إلى الناس كافة، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد، فيا عباد الله: إن شهر رمضان قرُب رحيله، وأزفّ تحويله، وإنه شاهد لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال. فمن أودعه عملا صالحا فليحمد الله على ذلك، وليبشر بحسن الثواب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن أودعه عملا سيّئا، فليتب إلى الله توبة نصوحا، فإن الله يتوب على من تاب، قال تعالى: "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى". طه:82.
أيها المسلمون: لقد شرع الله لكم في ختام شهركم عبادات تزيدكم من الله قربا، وتزيد في إيمانكم، وفي سجل أعمالكم حسنات، فشرع لكم زكاة الفطر، روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنـهما قال: "فرض رسـول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تـمر علـى الصـغير والـكـبـير والعـبد والمـمـلوك". وروى البخاري كذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا نخرج في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر: صاعا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب و الإقط".
أيها المسلمون: فزكاة الفطر واجبة على الحر القادر عليها وقت الوجوب، عن نفسه، وعن كل من تلزمه نفقته، وزمن وجوبها غروب الشمس آخر يوم من رمضان، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، كما يجوز إخراج القيمة نقدا. وقد قدرت هذا العام (1432 هـ) بمائة دينار جزائري.(100دج) تدفع للمسلم الفقير أو المسكين.
فاتقوا الله– عباد الله– واخرجوا زكاة فطركم، طيبة بها نفوسكم، وأقرضوا الله قرضا حسنا، قال صلى الله عليه وسلم: "صوم شـهـر رمضان معلّق بين السماء والأرض، فلا يرفع إلا بزكاة الفـطـر". رواه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب.
كما شرع لكم التكبير عند إكمال الـعـدة من غروب الشمس ليلة العيد، إلى صلاة العيد، قال تعالى: "ولتكملوا العدة ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ". وصفته أن تقول: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد ".
وشرع سبحانه لعباده صلاة العيد يوم العيد، وندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أمته رجالا ونساء، قالت أم عطية رضي الله عنها، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن ّفي الفطر ، العواتق والحُيّض وذوات الخدور، فأما الحيّض فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين". رواه الطبراني
ومن السُّنة: أن يأكل قبل الخروج إلى الصلاة في عيد الفطر تمرات وترا، ثلاثا أو خمسا. لقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم، لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترا". رواه البخاري وأحمد.
أيها المسلمون: ها أنتم تختمون هذه الأيام عبادة كبيرة، وهي ركن من أركان الإسلام، وهي الصوم، وتضيفون إليها عبادة ثانية مفروضة، وهي صدقة الفطر، وتعيشون غدا– أو بعد غد– مهرجانا إسلاميا، تلتقون في هذا المكان على طهارة وتقوى، تؤدون صلاة العيد، ألا فتعرّضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات، من حُرمها حُرم خيرا كثيرا .
وفقني الله وإياكم لذلك، وتقبل صيامنا وقيامنا، ومتّعنا بعيد سعيد، وعمر في الخير مديد، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله: أوصيكم– ونفسي– بتقوى الله، فإن الله يقول: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". وخاصّة إن شهركم الكريم قد آذن بالرحيل، وينبغي أن يكون آخره، له مسك الختام، فتزودوا بالطاعات، ليكون ذلك درعا حصينا بعد الممات، واتقوا النار بصالح الأعمال، فإن العمل الصالح يكون وقاية من العذاب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ". سورة العصر.
اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما، اللهم ربنا تقبل منا الصيام والقيام، واحشرنا في زمرة خير الأنام، ربنا تقبل دعاءنا، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب. اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم إنّ بإخواننا في فلسطين والعراق من البلوى و اللأواء ما لا يرفعه إلا أنت، اللهم انصرهم على من آذاهم، ولا تشمت فيهم عدوك وعدوهم، وآمنهم في أوطانهم، ولا تسلط عليهم من لا يخافك يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: عيد الفطر المبارك
الخطبة الأولى
الله أكبر - 6 مرات- الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، الله أكبر ما صامت الأمة المحمدية شهر رمضان، الله أكبر ما باتوا لربهم سجّدا وقياما يقرؤون القرآن، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله تضّاعف الأجور والحسنات، يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، نحمده على نعمه التي لا تحصى ولا تشكر، ونشكره على فضله وإحسانه، وحُقّ له أن يشكر. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، خلق الخلق فقدّر، وسيّر العوالم ودبّر، مُعيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد. وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، خير من صلى وصام وحجّ واعتمر، ورغب الطائعين وبشّر، وهدّد العصاة وأنذر، ورغّب في صالح الأعمال، ودعا إلى الله بلسان الحال والمقال، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله، خير صحب، وأفضل آل، وعلى كل المخلصين في الأقوال والأفعال.
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، وأبشروا برحمة من الله وأجر كريم، فإن الله يقول: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا، هو الذي يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيما، تحيتهم يوم يلقونه سلام، وأعد لهم أجرا كريما". الأحزاب:41ـ43. الله أكبر .
معشر المسلمين: إن يومكم هذا يوم عظيم، وعيد كريم، إنه يوم شكر لله على إكمال عدة رمضان، ويوم ذكر لله على ما هدانا للإيمان، قال تعالى: "ولتكملوا العدة، ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون". البقرة: 18.
هذا يوم يوفي الصابرون فيه أجورهم بأحسن ما كانوا يعملون، ويكرم الله فيه عباده بالفضل العظيم على ما كانوا يصنعون.. عن أبي سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الفطر، وقفت الملائكة على أبواب الطرق، فنادوا: أغدوا معشر المسلمين إلى رب كريم، يمنّ بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا، نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة". رواه الطبراني في المعجم الكبير.
فبشرى لكم– أيها الصائمون– إيمانا واحتسابا، عاقبة حميدة، وقدوم على الله مفرح. قال صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه". رواه البخاري.
وتلك حقيقة – أيها المسلم – فإنك إذا ألقـيت نظرة على المجتمع اليوم، لأحسست بشيء من الغبطة والإبـتهاج يغمُران النفوس ويهزّان الكيان." قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".
لكن ينبغي لنا– ونحن في يوم عيدنا– حين نفرح بفضل الله، أن نحذر مكر الله سبحانه، لأن الفرح قد يجعل صاحبه ينسى المُنعم، وهو الله سبحانه، فيكون سبب لسلب النعمة، ولو بلغ العبد من الطاعة ما بلغ، لا ينبغي له أن يفارقه الحذر، فالفرح متى كان لله، وبما منّ الله به، مقارنا للخوف والحذر، لن يضر صاحبه. ومتى خلا من الحذر ضرّ وأفسد. وهذا كتاب الله جل جلاله، يشير إلى ألوان من الفرح المنحرف الضار، فيقول في سورة الأنعام: "فلما نسوا ما ذُكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون". أي أن أهل الشرك والعناد والمعصية، نسوا أوامر الله واعرضوا عنها، وجعلوها وراء ظهورهم، ففتح الله عليهم أبواب الإستدراج والإمهال، فأعطاهم من متاع الحياة ما يريدون، حتى إذا فرحوا بالأموال والشهوات، أخذهم الله على غفلة، فإذا هم بائسون محرومون من كل خير. ولذلك لما قيل لأحد الرهبان: متى عيدكم؟. أجاب: "يوم لا نعصي الله فيه". الله أكبر...
أيها المسلمون: كيف يفرح في هذا اليوم، من كان له والدان غاضبان عليه أو أحدهما؟. كيف يفرح في هذا اليوم، من كانت له رحم مقطوعة، أو أخت محرومة، أو عمّة أو خالة مصرومة، أو قرابة مهجورة؟. كيف يفرح في هذا اليوم تارك الصلاة؟. وكيف يفرح المفطر في نهار رمضان من غير عذر شرعي؟. كيف يـفـرح في هذا اليوم من بينه وبين أخيه شحناء؟. فكيف حالك– أيها العاصي– حينما يفرح المؤمنون بفضل الله وبرحمته؟.
لا شك أنها حال سوء، قال تعالى: "يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبـتــه وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه، كلا، إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوعى". المعارج:11ـ18.
فتدارك– أخي- ما أنت فيه من الغفلات، قبل أن تصيبك القوارع، وتحيط بك الخطيئات، وقبل أن تنزل بك السكرات والحسرات، فتتمنى وتقول: "يا ليتني قدمت لحياتي"، ولا تنفع الأُمنيات وقت الممات. فخذ حذرك ما دمت في زمن العافية والحياة.
لقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم، يعملون الأعمال الصالحة، ويخلصون فيها لوجه الله وطلبا لمرضاته، ومع ذلك يخافون أن لا تقبل منهم، قال علي بن أبي طالب كرم الله وجه في يوم عيد الفطر: "اليوم عيدُ من قُبل بالأمس صيامه وقيامه، عيدُ من غُفر ذنبه، وشُكر سعيه، اليوم لنا عيد، وغدا لنا عيد، وكل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد". الله أكبر ..
نعم -أيها المسلمون– حقّ لنا أن نفرح بفطرنا في يوم عيدنا، الذي هو أولى الفرحتين اللّتين بينهما النبي الكريم بقوله صلى الله عليـه وسلم في الحديث السابق: "للصائم فرحتان ...". فهو صلى الله عليه وسلم يربط بل يعقد قرانا مباركا بين يومنا هذا– يوم عيد الفطر- ويوم لقاء الله، بين فرحة المؤمن يوم العيد، وفرحته يوم يلقى الله.
ففي يوم العيد يتلاقى الأحبّة، وتكاد القلوب المؤمنة تتعانق، وما لقاؤنا اليوم في مسجدنا هذا وبدون أذان أو إعلان، ما حقيقته إلا مؤتمر إسلامي كبير يهدف إلى غرس الحب والوئام في قلوب المؤمنين في كنف السرور والإبتهاج، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج نساءه وبناته في العيدين، ليشاركن مـؤتمر الفرح والسرور والتآلف الكبير، وهو الذي يفخر ويزدهي بهذا اليوم، فيقول لأبي بكر رضي الله عنه: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيد، وهذا عيدنا". وكان أصحابه رضوان الله عليهم إذا التقوا يوم العيد، يقول بعضهم لبعض: "تقبل الله منا ومنك". ذلك ليتأكد الوئام والحب بينهم، ذلك في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يتلاقى الأحبة المؤمنون في الجنة، في رحاب الرضوان الإلهي العظيم، وظلال الفرح الدائم الذي لا انقطاع له. فلقد روي أنه: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، اشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض. قال: فيسير سرير هذا إلى سرير هذا، وسرير هذا إلى سرير هذا، حتى يجتمعا فيقول أحدهما لصاحبه: تعلم متى غفر لنا؟. فيقول صاحبه: يوم كنا في موضع كذا فدعونا الله فغفر لنا"!.
نعم: هكذا يتلاقى الأحبة في ظلال الفرحة الكبرى، كما كانوا يتلاقون من قبل في ظلال فرحة العيد، وينعمون برضوان الله، فرحة في الدنيا، وفرحة يوم القيامة .
أيها المسلمون: وإذا كانت أيام العيد مدعاة للفرح بفضل الله تبارك وتعالى، فهي في الوقت نفسه أيام تتجلى فيها ظاهرة المساواة والحس الإجتماعي في الأمة الإسلامية، فالذين لفّهم ذلك الإطار النوراني إمساكا عن الطعام والشراب من الفجر إلى الغروب خلال شهر رمضان، هم ... هم الذين يشاركون بعضهم البعض الفرحة بهذه الشرعة المباركة.
وما مشروعية زكاة الفطر، وجواز تقديمها على صلاة العيد، وما جواز تأخير صلاة العيد، إلا لتصل الزكاة إلى أيدي مستحقيها قبل أن يرتفع الضحى وتذهب بهجة العيد، فما العيد في نظر الإسلام إلا لمسة حنان ورحمة، يمنحها المسلم فيمسح بها الدموع من العيون، ويزيح الكآبة من النفوس، ومن أولى بالمسلمين بأن يكونوا متضامنين متعاونين متحابين؟. فنبيهم صلى الله عليه وسلم يقول: "والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، افشوا السلام بينكم تحابوا". رواه أبو داود وغيره.
فيا أيها المسلمون، ويا أيها المترفون، اذكروا الذين لا يجدون ما ينفقون على أهليهم، ويا أيها المعيدون، ويا أيها الآباء الذين مازالوا يتمتّعون باجتماع الشمل ورؤية الأولاد والأهل، اذكروا اليتامى الذين اغتال الموت آباءهم، والأيامى اللاّتي فقدن أزواجهن، فأيُّ عيد لمن ينعم بالعيش الرغيد، وحوله إخوان له في جهد جهيد؟.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله "، وأحسبه قال: "وكالقائم الذي لا يفتُر وكالصائم لا يفطر". متفق عليه.
فيا عباد الله: إن طرق الخير كثيرة، وإن رحمة الله لواسعة. فأين السالكون؟ .
اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما يا رب العلمين، آمين .
الخطبة الثانية
الله أكبر -6- الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
الحمد لله الذي علا بحوله، خلق فسوّى، وقدّر فهدى، سهّل لعباده طرق العبادة ويسّر، وتابع لهم مواسم الخيرات، لتزدان أوقاتهم بالطاعات .أنعم علينا بتيسير الصيام والقيام، وجعل ثواب من فعل ذلك تكفير الخطايا والآثام ودخول الجنة دار السلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحـده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الأوليــن والآخرين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: هذا يوم مبارك، جمعكم الله فيه على طهارة وتقوى، تودّعون شهر رمضان الذي انصرم وصعد إلى ربه ومعه صحائف أعمالنا، وسوف نحاسب عليها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ ، والله تبارك وتعالى إذا قبل عمل العبد وفقه للعمل الصالح بعده، فقد قيل: "ثواب الحسنة الحسنة بعدها"، فمن عمل حسنة ثم أتبعها سيئة، كان ذلك دليلا على عدم قبولها. لقد سئل بعض الصالحين عن رأيه فيمن يعبدون الله في رمضان ثم يعودون بعده إلى العصيان؟، فقال: "هم بئس القوم، لا يعرفون الله حقا إلا في رمضان " .
فيا رعاكـم الله: تابعوا فعل الحسنات، يمح الله لكم بهنّ الخطيئات، قال تعالى: "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى". طه:82. الله أكبر .
عباد الله– آن لكم أن ترجعوا راشدين إلى بيوتكم على غير الطريق التي أتيتم منها، واعلموا أنكم في الدين إخوة، فحققوا هذه الإخوة بالتآلف والتحابّ بينكم. فتصافحوا وتزاوروا وتبادلوا التهاني، وليسلم بعضكم على بعض، فالسلام يغرس المحبة والألفة، والهجر يوجب البغضاء والوحشة. واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا هجرة فوق ثلاث، فمن هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار". رواه الإمام أحمد.
وليست المحبة قولا باللسان، ولا تعبيرا بالأركان، وإنما هي ميل القلب واطمئنانه إلى الأخ المسلم، فلتتصافح القلوب قبل أن تتصافح الأيدي، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين.
فاللهم لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، اللهم تقبل منا الصيام والقيام، واحشرنا في زمرة خير الأنام. اللهم اجعل شهرنا شاهدا لنا بأداء فرضك، ولا تجعلنا ممن جد واجتهد ولم يرضك، اللهم أوزعنا أن نشكر نعمتك ونسأل تمامها في الأشياء كلها، والشكر لك عليها حتى ترضى وبعد الرضا. اللهم أعد علينا من بركات هذا اليوم وأعد أمثاله علينا ونحن نتمتع بالإيمان والأمن والعافية، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وانصر المسلمين في كل مكان واجعلهم في الخير متعاونين، وأيّد بروح منك إخواننا في فلسطين وأهلك عدوهم، واستخلفهم في أرضهم وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا، إنك على كل شيء قدير، اللهم واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين . }}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: توديع الحجاج
الخطبة الأولى
الحمد لله شرع الشرائع فأحكم ما شرع، وأوجد الكائنات فأبدع ما صنع، أحمده سبحانه حمد من شكر الله بقلبه ولسانه والعمل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فرض الحج إلى بيته الحرام، ورتب على ذلك جزيل الأجر ووافر الأنعام، فمن حجّ فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه نقيا من الذنوب والآثام. و"الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، دار السلام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير من صلى وزكى وحج وصام. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام، وسلم تسليما.
يا حادي العيس ترفق و استمع منّي و بلّغ إن وصلت عـــــــــنّي
وقف بأكناف الحجـاز ناشـــــــــــدا قلبي فقد ضـاع الغداة مــــــنيّ
وقل إذا وصلت نحـو أرضــــــــــــــــهم ذاك الأسـير موثق بالحــــــــــزن
عرّض بذكري عندهم عســاهـم إن سـمعوك سـائلوك عـــــــني
قـل ذلك المحبوس عن قصدكم معـــــذب القـلب بكـل فــــــــــــــــــــن
يقـول أمّلت بـأن أزوركــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم في جملة الوفـــــد فخاب ظني
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، واشكروه على أن هداكم لدينه الذي ارتضاه لنفسه ورضيه لكم دينـا، وبناه على خمس دعائم: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا .
أيها المسلمون: عما قليل يحزم بعض إخواننا أمتعهم شادّين الرحال إلى بيت الله الحرام، راجين من الله تكفير الذنوب والآثام، والفوز بالجنة دار السلام. إنها رحلة العمر، وإن شئتم قلنا رحلة الحب، وإنّي اغتنم هذه المناسبة فأقول:
حجاج بيت الله: إنكم تتوجهون إلى بيت ربكم وحرماته، إلى أمكنة فاضلة تؤدون فيها عبادة من أفضل العبادات، لستم تريدون بذلك نزهة ولا فخرا ولا رياء، بل تريدون عبادة تتقربون بها إلى الله، وتخضعون فيها لعظمته. فأدّوها كما أمرتم، وعظموا شعائر الله، فإنها من تقوى القلوب.
حجاج بيت الله: تذكروا أنه في يوم من الأيام، جاء إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، بهاجر وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وضعها عند مكان البيت، عند دوحة، فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعها هناك، ووضع عندها جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم مضى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟، قالت ذلك مرارا، وجعل إبراهيم لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لن يضيعنا"، ثم رجعت .
فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل البيت ثم رفع يديه ودعا بهذه الدعوات: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون". الآيات.(ابن الأثير في الكامل).
قال الرازي في الفخر: كلمة "مِن " في قوله تعالى: "فاجعل أفئدة من الناس" تفيد التبعيض، والمعنى: فاجعل أفئدة بعض الناس مائلة إليهم. قال مجاهد لو قال: أفئدة الناس، لازدحمت عليه فارس والروم والترك.
فاشكروا الله ـ حجاج بيت الله ـ أن جعلكم الله هذا العام من هؤلاء الناس. واغتنموا هذه الفرصة وابتدروها، فإن لكم مكانة متميزة عند الله.
فماذا يكون جزاء من ترك بيته وأهله متحملا مشاقّ السفر والترحال حتى يصل إلى بيت الله؟. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز ّوجلّ ليباهي الملائكة بأهل عرفة، يقول: انظروا عبادي شعثا غبرا".
هذا الحديث خير دليل على مكانة الحاج عند الله عز وجل، فمعنى الحديث أن الله تبارك وتعالى يخاطب ملائكته يوم الحج الأكبر، مفاخرا بعباده الصالحين الطائفين، فيقول لهم: انظروا إلى هؤلاء الحجاج، الذين قدموا مكة المشرفة والكعبة المطهرة، جاءوا من بلاد نائية وأقطار بعيدة، وتحملوا في سبيل ذلك تعب السفر ومشاقّ الترحال حتى بدت رؤوسهم مغبرّة، متفرقة الشعر، وتغيرت ألوانهم بسبب الغبار، فانظروا إليهم معجبين بهم.
حجاج بيت الله: هذه منزلتكم عند الله، فلا تجعلوا الدنيا أكبر همّكم، ولا تحولوا عبادة ربكم إلى قصد المادة، فترجعوا بالصفقة الخاسرة.
أيها الحجاج كونوا خير سفراء لبلدكم في تلك الأماكن الطاهرة والتزموا بالخلق الإسلامي الرفيع في التعامل مع اخوانكم الحجاج، عليكم أن تظهروا ما تنطوي عليه كلمة "جزائري" من قيم وفضائل ومعاملة وسلوك، أنتم اصطفاكم الله واختاركم من بين أكثر من ستة وثلاثين مليون، وجعل أفئدتكم تهوي إلى تلك الأماكن الفاضلة، تحقيقا لدعوة سيدنا ابراهيم عليه السلام عندما دعا الله قائلا: "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم". إبراهيم:37. وعظموا شعائر الله لتجنوا في نهاية رحلتكم ثمرة التقوى. قال تعالى: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ". الحج : 32 .
واعلمواـ حجاج بيت الله ـ أنّ المسبحة والسواك والهدايا، ليست هي المطلوبة منكم، وإن كانت مستحبة ومندوبة. كما ذكر ذلك الشيخ محمد سيدي عبد الواحد بن عاشر وهو يوصي الحاج:
وسَـــــــــل شــفاعة وخـتــــــــــــما حـــسنا وعجـّــــل الأوبـة إذنلت المـنى
وادخل ضحًى واصحب هدية السرور إلى الأقارب ومـن بك يــــــدور
بل المطلوب ـ يارعاكم الله ـ أن ترجعوا، وقد بدأتم مع الله حياة جديدة، وفتحتم صفحة بيضاء. فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ".
اللهم وفق حجاجنا للإخلاص في القصد، والإصلاح في العمل.. آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيا حجاج بيت الله: إن الله سبحانه وتعالى جعل الحج مع الإستطاعة فرضا على المسلمين طبقا لقوله تعالى: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ..". آل عمران:97.
وفرض على الحاج شروطا، وألزمه واجبات– علُّمتموها– فعليكم اعتبارها ومراعاتها إذا رغبتم في قبول أعمالكم، قال تعالى: "الحج أشهر المعلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا، فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولـي الألـــباب" . البقرة:197.
فتزودوا – إخواني – بالتقوى لحجكم ، واتصفوا بها لحياتكم ومعادكم، واجعلوا التوبة من كل كبيرة وصغيرة توبة نصوحا خالصة لله .
إخواني الحجاج: انتم ذاهبون إلى هناك، ولسان حال الواحد منكم يقول:
لما سمعتُ نداء الله يدعوني شددت مئزر إحرامي ولبيتُ
وقلتُ للنفس جدِّي الآن واجــتــــهدي وساعديني فهذا ما تمنيتُ
لو جئتكم زائرا أسعى على بصري لم أقض حقا وأي الحق أديتُ
وقلتُ للنفس جدِّي الآن واجــتــــهدي وساعديني فهذا ما تمنيتُ
لو جئتكم زائرا أسعى على بصري لم أقض حقا وأي الحق أديتُ
جعل الله حجكم مبرورا، وسعيكم مشكور، وذنبكم مغفورا، وردّكم إلينا سالمين غانمين، وغفر لنا ولكم وللمسلمين أجمعين، اللهم زودهم التقوى، واغفر ذنوبهم، ولقّهم الخير حيثما توجهوا يا رب العالمين. اللهمّ ونحن قد حبسنا العذر فلا تحرمنا الأجر. اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل ذنب، والغنيمة من كل بر، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، اللهم وألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة التي ترشده إلى الخير وتعينه عليه يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: الأيام العشرـ الأضحية ـ يوم عرفة
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين ، نحمده حمد الشاكرين، سبحانه ، سبحانه، هو أكبر من كل كبير، وله الخلق والتدبير، وإليه المرجع والمصير، وهو نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله وأطيعوه، واعلموا أن أيامكم هذه من أفضل الأيام عند الله، وأجلّها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنها العشر الأوائل من ذي الحجة، التي رفع الله ذكرها، وعظّم وأعلى قدرها، حيث أقسم في كتابه العزيز فقال: "والفجر وليال عشر والشفع والوتر.."
هذه الأيام التي يكثر فيها الخير ، وتهبط فيها الرحمة، ويعم فيها الفضل والإحسان على قصّاد البيت الحرام والطائفين بالكعبة والمقام، والذاكرين الله عند المشعر الحرام .
أيها المسلمون: هذه الأيام المباركة، يكشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن فضلها، ويعلن عن خيرها وشرفها، فيقول فيما رواه البيهقي: "وما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من عشر ذي الحجة...". الحديث.
إنها أيام مباركة، فتسابقوا فيها إلى الخيرات، واعملوا فيها من الصالحات ما ينفعكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ألا وإن من الأعمال الصالحة التي يستعد لها المسلمون في هذه الأيام: تقديم الأضاحي.
والأضحية– عباد الله – مشروعة بالكتاب والسنة وبإجماع علماء المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها. وإن الدم ليقع من الله بمكان، قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا". رواه ابن ماجة.
فاشكروا الله ربكم على ما أنعم به عليكم من بهيمة الأنعام، وضحّوا عن أنفسكم وأهليكم، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، حيث ضحى عنه وعن أهل بيته. قال أنس رضي الله عنه: "ضحّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين– أي أبيضين خالصين– أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما". رواه البخاري.
هذا واعلموا– أيها المسلمون – أن العبادة المرضية عند الله، هي تلك التي تصحبها النية الصالحة، ويسري فيها روح الإخلاص. قال تعالى: "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم". الحج:37.
والأضحية تكون من بهيمة الأنعام، من الإبل أو البقر أو الضأن على اختلاف أصنافها، ولا تجزئ إلا بشر طين، الأول: أن تبلغ السن المعتبر شرعا .
الثاني: أن تكون سليمة من العيوب، أما السنّ المعتبر، قال الشيخ خليل رحمه الله: "بجذع ضأن وثنيّ معز وبقر وإبل ذي سنة وثلاث وخمس".
قال: الإمام مالك رحمه الله في المدونة: "لا تجزئ ما دون الثنيّ من سائر الأنعام في الهدايا والضحايا إلا الضأن وحدها فإن جذعها يجزئ" .
والجذع هو ما أوفي سنة أو قاربها، وقيل ماله عشرة أشهر وقيل ستة، والقول الأول أولى وأوفى. قال صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنّة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن، والمسنّة من الأنعام وهي الثنيّة". رواه مسلم.
أما السلامة من العيوب، فقد علمتم أنه لا يجوز في الأضاحي سوى السليمة من كل نقص في خليقتها، فلا تجزئ العوراء ولا العرجاء ولا العضباء– أي مكسورة القرن من أصله- أو مقطوعة الأذن من أصلها، ولا المريضة ولا العجفاء، وهي الهازل التي لا مخ فيها، وذلك لحديث البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ماذا يتقى من الضحايا، فأشار بيده، وقال: أربعا. وكان البراء يشير بيده، ويقول يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم: العرجاء البيّن ظلعها، والعوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء التي لا تنقي". رواه الإمام مالك.
أيها المسلمون: وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل. فاستكملوها واستحسنوها، يتقبل الله منا ومنكم. أعـوذ بالله من الشيطان الرجيم: "إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر". نفعني الله وإياكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، أيها المسلمون: ومن الأعمال الصالحة في شهرنا هذا، صوم يوم عرفة. روى مسلم وغيره من حديث قتادة رضي الله عنه، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة، قال: "يكفر السنة الماضية والباقية". وقال الإمام الغزالي رحمة الله عليه: "إن يوم عرفة أفضل يوم في الدنيا". وتأملوا معي ما ورد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رؤي الشيطان في يوم أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة". رواه الإمام مالك.
فاتقوا الله– عباد الله– واغتنموا هذه الأيام الفاضلة، فإنها أيام طيبة مباركة، تـضـاعف فيـهـا الحسنات كما علمتم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلـم، واعلموا أن لكل عامل جزاء، ولكل مفرّط ندامة.
وفقني الله وإياكم لتعظيم شعائره والعمل بشريعته، والوفاة عليها إنه جواد كريم، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، ووفق ـ اللهم ـ ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة التي ترشده إلى الخير وتعينه عليه يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حــسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}