الموضوع: بمناسبة الوئام المدني
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوّة في الإسلام، وشبّههم في دعم وشدّ بعضهم بعضا بالبنيان، وشرع لهم من الأسباب ما تقوم به تلك الإخوة، وتستمر على مدى الزمان، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له في الألوهية والأسماء والصفات والسلطان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث إلى جميع الإنس والجان. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحـابه والتابعـين لهم بإحسان.
أما بعد، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون: لقد منّ الله على المؤمنين إذ جعلهم أمة واحدة، ألف بينهم، ونزع العداوة والبغضاء و حميّة الجاهلية من قلوبهم، وأثبت لهم الأخوة في الإيمان، أخوّة أقام أساسها رسول الله صلى الله عليه وسلم على صخرة تنبو المعاول عنها، وهي: تقوى الله والحب في الله، قال تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا". آل عمران:103.
أخوّة نـقّت القـلوب من أشواك الضغائن، وطهّرت المجتمع من بذور الأحقـاد. أخوّة لا تستميلها رياح المطامع والرغائب، ولا تعصف بها عواصف الخطوب والنوائب. أولئك المهاجرون. "الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا". استقبلهم إخوانهم الأنصار بصدور رحبة، وتهافتوا عليهم تهافت الظمآن على الماء البارد، كل واحد منهم يريد أن يحضى بواحد في داره، ولا يرضيهم إلا القرعة.
أُخوة صادقة، حبٌّ وإخلاصٌ وإيثارٌ، ولقد سجّل الله في كتابه الخالد هذا الموقف، فقال: "والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مـما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة". الحشر:9.
حدّث عبد الرحمن بن عوف – المهاجري القريشي –قال: "لمّا قدمت المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري الخزرجي– فقال سعد لي: إنّي من أكـثر الأنـصار مالا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أيَّ زوجتي هَويت، نزلت لك عنها؟، فإذا حلّت تزوجتها، وقابل عبد الرحمن هذا الكرم من سعد بعفاف كريم، فقال: "بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق". رواه البخاري.
ولكن ـ للأسف ـ أيها المسلمون: طال الأمد، وقست القلوب، واختلت الـموازين وانعكس الوضع، فتنكّر البعض لأعظم رباط وثّقه الله بينهم، فعدا الأخ معول هدم في كيان أخيه، فكم نسمع ونرى من ألوان المآسي والمنازعات التي تحدث بين الناس اليوم، ابتزاز للأموال، وانتهاك للأعراض، إزهاق للأرواح، صراعات وخيانات، فساد وانهيار، فأصبحت هذه الأخوة، كما قال أبو حيان التوحيدي في هذه الأزمنة، شيئا نادر الوجود "كالغول والعنقاء والخلّ الوفي".
أيها المسلمون: وإني لأغتنم هذه المناسبة– مناسبة الوئام المدني - لأشدّ عضد الخيّرين من هذه الأمة، السائرين في طريق المصلحين، الذين يريدون أن يصحّحوا الأوضاع، ويرمّموا ما وهى، ويصلحوا ما تحطّم، فالبذور الطيّبة لا تموت، فأقول وبالله أستعين.
عباد الله: الإصلاح بين الناس وظيفة الأنبياء والمرسلين، وطريقة العلماء والمصلحين، مهمة خطيرة، ومروءة كبيرة، وواجب ديني مقدّس. قال تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما". النساء:114. وقال تعالى: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون". الحجرات:10.
أيها المسلمون: إذا كنا نعلم أن الصلاة والصيام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهمّ أركان الدين، فإنه قد رفع إلى مستواهما - بل أكثر- الإصلاح بين الناس، قال صلى الله عليه وسلم: "أفلا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟. قالوا بلى يا رسول الله: قال: "إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة". رواه الترمذي.
إن الفضائل كلها لو جُمّعت رجعت بجملتها إلى شيئــين
تعظيم ذات الله جلّ جلال والسعي في إصلاح ذات البين
إن الإصلاح بين الناس مجال فسيح، وواسع لجهود المصلحين المخلصين. ولقد عنى الرسول صلى الله عليه وسلم به. حتى روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي أيوب: يا أبا أيوب ألا أدلك على تجارة؟، قال بلى يا رسول الله : قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا". رواه البيهقي.
عباد الله: لعلكم فهمتم من هذين الحديثين أن الرسول صلى الله عليه و سلم لا يحمّل المسلم مسؤولية القطيعة حين يكون هو أحد طرفيها، بل يحمله السكوت عن كل قطيعة بين الآخرين.
فالإسلام يحتّم على المسلمين أن يكونوا دائما كالأسرة الواحدة، التي يشترك سائر أعضائها في نعماء الحياة وبأسائها، ومن أولى من المسلمين بأن يكون كذلك، ونبيـهم صلى الله عليه وسلم يقول: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه"؟. رواه البخاري.
أيها المسلمون: إن الإسلام أخرج للدنيا أعظم نظام دعا إلى التسامح والحبّ والإخاء والودّ والصفاء، وهي سمات لا يمكن أن تقترن بالعنف والإرهاب.
ألم تعلموا أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن المزاح التي تكون عاقبته وخيمة سدّا للذريعة؟. قال صلى الله عليه وسلم: "من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كان أخاه لأبيه وأمه". رواه مسلم. وقال أيضا: "من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق، أخافه الله يوم القيامة". رواه البيهقي. وقال: "من أخاف مؤمنا كان حقا على الله أن لا يؤمّنه من أفزاع يوم القيامة". رواه الطبراني.
إنّ لحياة الإنسان حرمتها عند خالقها وبارئها، وإن لدم الإنسان حرمته عند واهـبه ومجريه، وإن كل فرد إنساني بناءٌ بناه الله وسواه. من ذا الذي يملك القـدرة والجرأة على أن يهدم بنيان الله؟. قال صلى الله عليه و سلم: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم". رواه الترمذي. وقال: "يجيء المقتول آخذا قاتله وأوداجه تشخب دما، يقول: يا ربّ سل هذا فيم قتلني"؟. ويقول: "لا يقفن أحدكم موقفا يقتل فيه رجل ظلما فإن اللعنة تنزل على كل من حضر حين لم يدفعوا عنه، ولا يقف أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما، فإن اللعنة تنزل على كل من حضره حين لم يدفعوا عنه". رواه الترمذي والنسائي وغيرهما.
بل إن الإنسان - أي إنسان- لا يملك أن يتخلّص من حياته بالإنتحار، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسّى سمّا، فقتل نفسه فسمّه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأُ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ".
هكذا يحترم الإسلام الحياة و يقدّسها، ويصون حقوقها في الأمن والإستقرار.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وحققوا إيمانكم بتحقيق ما جاء به دينكم طلبا وخبرا، فإن السعادة لا تحصل إلا بذلك.
وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين، آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى ها هنا– ويشير إلى صدره ثلاث مرات– بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".
أيها المسلمون: ما أعظم هذا الحديث، وما أكثر فوائده، إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقتصر بتأكيد الأخوة الإسلامية على رفعها كشعار، بل يحيطها بأوامر و نواه تجعلها حقيقة ملموسة بين أفراد المجتمع المسلم.
والحديث هذا اشتمل على أحكام كثيرة، وفوائد جمة، لبلوغ هذه الغاية الإسلامية النبيلة، وحمايتها من كل عيب أو خلل، حتى لا تصبح الأخوة كلاما يهتف به الناس وخيالا يحلمون به ولا يلمسون له في واقع حياتهم أي أثر، لذا قال ابن حجر الهيثمي: "إن هذا الحديث كثير الفوائد، مشيرا إلى جلّ المبادئ والمقاصد، بل هو عند تأمل معناه وفهم مغزاه، حاو لجميع أحكام الإسلام منطوقا ومفهوما، ومشتمل على جميع الآداب– أيضا- إيماء وتحقيقا".
فاتقوا الله أيها المسلمون: واعملوا بوصية نبيكم صلى الله عليه و سلم، والتفتوا إلى واقعكم، وأصلحوا ذات بينكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون.
اللهم أعصمنا من شر الفتن، وعافنا من جميع البلايا والمحن، وأصلح منا ما ظهر وما بطن، ونقّ قلوبنا من الغل والحقد والحسد، ولا تجعل علينا تبعة لأحد من خلقك. اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والزلازل والمحن، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا خاصة وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وأعنه على ما يصبو إليه، وارزقه البطانة الصالحة التي ترشده إلى الخير وتعينه عليه، واجعلنا وإياه من الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك و رسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: يوم الشهيد(18فبراير)
الخطبة الأولى
الحمد لله، حمد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا، وأشهد أن لا إله إلا الله، لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث بالحق بشير ونذيرا. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين اعتصموا بربهم، وتوكلوا عليه في جهادهم، فمكّن لهم في البلاد، وأعزّهم بين العباد، وكان لهم نعم المولى ونعم النصير.
ثم أما بعد، أيها المسلمون: للمجاهد شرف عظيم، وذلك أنه يـــدافع عن دينه ووطنه. "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد". رواه أبو داود.
ولقد نظر الإسلام إلى الجهاد على أنه رأس الأمر وذروته، كما أخبر بذلك صلى الله عليه و سلم. وإلى المجاهد على أنه أسمى الناس وأعلاهم قدرا، وإلى الشهادة على أنها أعلى وأسمى ما يناله المؤمن. وإلى الشهيد على أنه في قمّة درجات الإنسانية والطهارة، وأنه مخلد في الجنة.
لهذا وغيره – و نحن نحتفل بيوم الشهيد- أردت أن أقف بكم اليوم حول هذا الموضوع، فأقول:
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادٌ في سبيلي، وإيمانٌ بي، وتصديقٌ برسلي، فهو ضامنٌ أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده، ما من كَلم يُكلم في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلم. لونه لون دم، وريحه ريح مسك، والذي نفس محمد بيده. لولا أن يُشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزوا في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عنيّ. والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل ".
أيها المسلمون: بهذه الصورة الرائعة، يصوّر الرسول الكريم أجر المجاهد في سبيل الله، وأيّ أجر أعظم، بل أيّ منزلة أسمى من تلك المنزلة التي خصّ الله عز وجل بها المجاهدين في سبيله حين قال عنهم: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"؟. آل عمران:169.
إنها الحياة الأبدية السّرمدية في جنان الخـلد ودار النعيم، وهي بعض ما أكرمهم الله عز وجل به، عدا ما أعدّ لهم من الذكر الحسن في الدنيا، حيث تخلّد أسماؤهم في سجل الخالدين، فهم أحياء بعد مماتهم، ذكرهم على كل لسان، وحبّهم في كل قلب، ولعل هذا هو السرّ في أننا نهُينا عن القول فيهم بأنهم أموات. لأن الله خلّد ذكرهم، ويكفي ذلك شرفا وفخرا لهم.
و من هنا كان المسلمون يتنافسون في الجهاد، ويتسابقون إلى النضال، لا يتخلف عنهم إلا الضعفاء والقاعدون، وعدّتهم في ذلك الصبر والثبات. وشعارهم: "أحرص على الموت توهب لك الحياة"، وغايتهم الدفاع عن أنفسهم، وصيانة أوطانهم، وحماية دينهم وعقيدتهم.
ولقد سجل التاريخ صورا رائعة عن البطولات التي تُثبت بسالة المؤمنين في الجهاد، وتبيّن مدى ما وصل إليه إيمانهم القويّ، وعقيدتهم الراسخة في ساحات القتال. فهناك قصص منها ما نجده في بطون الكتب، و منها ما لا نجده فيها، منها ما ذكر أسماء أبطالها، ومنها ما لم يذكر، من ذلك ما رواه النسائي والطبراني عن شداد بن الهاد رضي الله عنه، أن رجلا من الأعراب، جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم، فآمن به واتبعه، ثم قال: "أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزاته غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال ما هذا؟. قالوا: قِسم قَسَمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا،- وأشار إلى حلقه- بسهم، فأموت، فأدخل الجنة، فقال: إن تصدُق الله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأوتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل، قد أصابه سهم حيث أشار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهو.. هو؟. قالوا: "نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه و سلم في جبته التي عليه، ثم قدّمه فصلّى عليه، وكان مما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك، فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك ".
هـذا أيـها المسلمون في الماضي، وله من الأمثلة في الحاضر ما يفوق الحصر، وما ثورة التحرير عنا ببعيد، فعلى طريق الجهاد تمضي مواكب المجاهدين الأبرار، الذين سطروا بدمائهم وتضحياتهم أمجد الصــفحات، وكتبوا مجد أمتهم وتاريخهم بأروع الملاحم البطولية.
وإذا كنا في يومنا هذا– يوم الشهيد- فلنقرأ معا تلك الرسالة التي كتبها الشهيد "أحمد زبانة " المولود سنة 1926 بجنين مسكين، والذي ألقى البوليس الفرنسي عليه القبض، وحكم عليه بالإعدام، وليلة التنفيذ صلى ركعتين، وقدّم هذه الرسالة إلى محاميه يقول فيها:
".. إلى أهلي الأعزاء... والدتي العزيزة، أكتب إليكم هذه الرسالة، وأنا لست أدري إن كانت الأخيرة – الله أعلم بذلك- غير أنه إذا حدث مكروه، فلا تعتقدوا أن كل شيء انتهى، لأن الموت في سبيل الله هو الخلود في الحياة الأزلية، والإستشهاد من أجل الوطن ليس إلا واجبا، فواجبكم – أنتم- يتمثل في التضحية بأغلى ما لديكم .. لا تبكوا ... بل يجب أن تفخروا بي، تفضلوا بقبول السلام، ربما سيكون الأخير من الإبن والأخ الذي يحبكم وتحبونه دائما. سلامي إليك والدتي العزيزة وكـل مـن ... الخ". السـجن المدنـي بالجـزائر 19 جوان 1956.
نعم ـ أيها المسلمون ـ إيمانٌ متأصّلٌ في النفوس، وتضحيةٌ بالنفس في سبيل الله، جانبان من أروع جوانب ثورة التحرير. وكبرياءٌ شامخٌ ميّز الشعب الجزائري الأعزل إلا من إيمانه بحقه، وثقته بنفسه، مما بثّ الرعب في نفس المستعمر الجبار المتسلح بكل وسائل التدمير الجهنمية، ولعلكم تذكرون تلك الصورة التي برز فيها التحدي مهيبا جليلا عندما واجه- بل دشّن ـ الشهيدـ "أحمد زبانة" مقصلة سجن بار باروس، فما رفّ له طرف، ولا تردّد له خطو، بل لقد استقبل الشهادة على ما وصفه الشاعر :
باسم الثغر كالملائك أو كالطفل يستقـبل الصـباح السعيدا
شامخـا أنـفـــــــــه جـلالا وتيهـــــــــــــــا رافـــــــعا رأسه يناجي الخلودا
أيها المسلمون: إن هؤلاء الشهداء الذين قاموا بأعظم دور بطولي على خير وجه، ما كانت دماؤهم لتذهب هدرا، بل ستظل ذكراهم حية في القلوب، وسيبقى جهادهم مشاعل مضيئة، قال تعالى: "والشـهداء عـند ربهم لهم أجرهم ونورهم".
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل درجاتهم في عليين ... آمين. أقـول قـولـي هـذا ...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه تهتدوا، واذكروا في يوم الشهيد هؤلاء المجاهدين وأولئك الشهداء. ولتحيا في نفوسكم المعاني التي كانوا يجسدونها، ولتتعمق في قلوبكم المبادئ التي وهبوا حياتهم من أجلها، فتاريخ شعبنا تاريخ عميق، توجته ثورة أول نوفمبر الخالدة، ووطننا وطن عزيز، ترفرف حوله أرواح شهدائنا الأبرار، الذين سالت دماؤهم الزكية، مرددين: "الله أكبر، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين".
فاللهم تقبل أعمالنا، واكتب أسماءنا في سجل المجاهدين، ووفق أمتنا للسير على طريقهم يا رب العالمين، اللهم خذ بأيدينا، وسدد خطانا، وحقق آمالنا، وآمنّا في أوطاننا، وارحم شهداءنا يا خير الراحمين. اللهم اجمع الصفوف، ووحّد القلوب، واجمع المسلمين على كلمة سواء، واجعل النصر في ركابهم يا قوي يا معيـن. اللهم وفق وليّ أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتـقـوى، وارزقه البطانة الصالحة التي ترشده إلى الخير وتعينه عليه، اللهم واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم و سلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
ْْْْْْْْْْْْ}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: اليوم الوطني للمعاقين(14مارس)
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أعلى كرامة بني الإنسان، وجعلهم خلفاء في الأرض، كتب على نفسه الرحمة، وأزال على الناس بدينه الغمّة، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أبدع الكون بقدرته، وملك الخلق بربوبيته، خلت الطرق كلها إلا طـريـقه، وفسدت المشارب طُرًّا إلا رحيقه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، نشر التراحم بين الناس، فما أمر حتى أقنع، وما بنى حتى جمع، فكان سيد الرحماء، وإمام الحكماء، تركنا على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك. فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأخيار البررة، وصحابته والتابعين لهم بإحسان.
ثم أما بعد، أيها المسلمون، قال تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم". التوبة:128.
نعم. لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، عزيزا عليه ما أعنتهم وشقّ عليهم. حريصا على هدايتهم، رءوفا رحيما بهم، لا يكلفهم من الأمر عُسرا، ولا يحملهم من المشقة نُكرا، "فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القـلب لا نفضوا من حولك". آل عمران:159.
كان صلى الله عليه و سلم رءوفا بأصحابه وأتباعه، ومتحنّنا عليهم ومقدّما لهم في المصالح على نفسه. إذا رأى الضعفاء ونظر إلى الشيوخ والنساء والأطفال خفض لهم جناحه ووطّأ لهم كنفه، إذا دعوه لبّاهم، وإن اتجه إلى الله بهم في العبادة خفّف عنهم. أليس هو القائل: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوّز في صلاتي مما أعلم من شدّة وجد أمه ببكائه". رواه البخاري. وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم : "إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف، فإن منهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة، وإذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء".
لقد كان-صلى الله عليه و سلم- يستميل القلوب، و يجذب العواطف، ويشرح الصدور بالإحسان، كان يتخذ من المستضعفين أصدقاءه وجلساءه وجنود دعوته وحملة رايته، يقول لأصحابه: "أبغوني ضعفاءكم–أي هاتوهم– فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم". رواه الترمذي.
وما أكثر المواقف التي تجلّت فيها رحمة رسول الله صلى الله عليه و سلم بالضعفاء، و يكفي أن تعود – أيها المسلم- إلى كتب السيرة والشمائل، فتجد الفيض الكبير من الأدلة والشواهد على ذلك.
أيها المسلمون: والجزائر تحتفل باليوم الوطني للمعاقين، يجب أن نلتفت إلى مدى عناية الإسلام بهذه الفئة، وكيف فجّر في قلوبهم ينابيع السعادة، فأصبحوا راضين عن الحياة والكون من حولهم، لأنهم علموا أن هذا الكون الفسيح، "صنع الله الذي أتقن كل شيء". "خلق فسوّى وقدّر فهدى". وسمعوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من همّ ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها خطاياه". متفق عليه. سمعوا ذلك فكانوا نماذج صنعها الإيمان.
فهذا ابن أم مكتوم– الأعمى– الذي لم تسمع به الدنيا قبل الإسلام، ولم يكن له ثِقل بين القبائل، فلا كان بطلا مغوارا، ولا ممّن له الرأي والكلمة، ولكن بفضل إيمانه حمل القرآن اسمه إلى الدنيا، فهو الذي عوتب فيه رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم. حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفعه حسن النية وطهارة القصد إلى الإقبال على أحد السادة من قريش يدعوه إلى الإسلام، مرجئا لهذا السبب، الإهتمام بأحد فقراء المسلمين - عبد الله بن أم مكتوم الأعمى – الذي جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستهديه.
نزل الوحي أسرع من الضوء حاملا إليه عتاب ربه في أسلوب محذر، قال تعالى: "عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكّى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدّى وما عليك أن لا يزكّى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهّى ... ". عبس:1ـ 10. وتلقّى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدرس من ربه ، فلم يعد أبدا يأبه بأولئك العليّة، وعاد إلى الفقراء والمستضعفين، فكان يلقى ابن مكتوم فيرحب به ويقول: "أهلا بمن عاتبني فيه ربي" .انظر الجواهر الحسان ص:561.
ولقد شارك هذا الأعمى المسلمين حياتهم الإجتماعية والسياسية، ومنذ وصوله إلى المدينة شارك مع الرسول صلى الله عليه و سلم في بناء المسجد، ولم يتخلف عن صلاة واحدة خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم، وكان يأمره بالأذان للصلاة إذا غاب بلال، وكان صوته عذبا، بل جعل صلى الله عليه وسلم الأذان في شهر رمضان المبارك لبلال لإيقاظ النائم، وتنبيه الغافل، وعندما يؤذن ابن أم مكتوم يكون إيذانا بالامتناع عن الطعام والشراب وإمساك الصائمين. كـما كـان صلى الله عليه وسلم يستخلفه على المدينة عند خروجه إلى غزواتـه، فاستخلفه حين خرج إلى أحد والخـندق وعمرة الحديبية وغـيـر ذلـك.
وهذا أيضا عمرو بن الجموح الأنصاري – أعرج شديد العرج – كان له أربعة بنين شباب، يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوم أحُد طلب إلى بنيه أن يُعدّو له عدّة الجهاد، فقال له بنوه: "إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد". فأتى عمرو الرسول صلّى الله عليه وسلم. فقال: "إنّ بنيّ هؤلاء يمنعوني أن أجاهد معك، ووالله يا رسول الله، إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة". فقال الرسول– صلى الله عليه وسلم: "أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد"، وقال لبنيه: "و ما عليكم أن تدعوه لـعل الله يرزقه الشهادة؟"، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وقتل شهيدا. وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "إنّ منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبرّه". رواه البيهقي في السنن الكبرى.
أيها المسلمون : أعمى وأعرج وغيرهما كثير، ما أحسّوا بالدونية، وما ضعفوا، وما انسحبوا من تبعاتهم، لم يشعر أي فرد ضعيف أو معوقّ، أنه ضئيل أو هَمل، لأنــهم علمـوا أن ما ابتُلُوا به في دنياهم نعمة روحية أخرى تخفف عنهم البلاء و تكفر السيئات. قال صلى الله عليه و سلم: "يؤتى بالشهيد يوم القيامة فيوقف للحساب ثم يؤتى بالمتصدق فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلايا، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينصب لهم ديوان، فيصبّ عليهم الأجر صبّا، حتى أنّ أهل العافية يتمنّون في الموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله ". رواه الطبراني. عباد الله. أقول قولي هذا ...
الخطبة الثانية
الـحمد لله رب العالمـين، سبّحت الكائنات بحمده، وعنت الوجوه لعـظـمته و مـجـده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
ثم أما بعد، أيـهـا المسلمـون: إن الإسلام عندمـا وضع أسس العدالة الإجتماعية والضمان الإجتماعي، قد حقق للفئات التي تجعلها ظروف الحياة في أوضاع تعجز فيه عن العيش الكريم. ماتعيش به بين أفراد المجتمع عزيزة، لا تذل لأحد سوى الله.
فيا أيها المسلمون: اذكروا في هذا اليوم– اليوم الوطني للمعاقين– هؤلاء. واعلموا أن الدهر قُلّب، والناس في سفينة تتقاذفها أمواج الحياة ترفعها تارة. وتخفضها أخرى– ولا عاصم إلا من رحم الله – وإنما يـرحم الله من عبـاده الرحـماء.
ثمانـــية لابد منها على الـفتى ولابد أن تجرى عليه الثمانية
سرورٌ وهمٌّ و اجتماع وفرقة ويسر و عسر ثم سُقم وعافية
ومن تعرّف إلى الله في الرخاء، عرفه الله في الشدة، فكونوا – أيها المسلمون- كما أمركم الله، وكما كان سلفكم الصالح الذين وقّفوا أموالهم وحبّسوها كلها أو بعضها على إطعام الجائع وسقاية الضمآن وكسوة العريان، وإيواء الغـريـب وعلاج المريض وكفالة اليتيم وإعانة المحروم، روي أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله جعل لكل أعمى قائدا، ولكل مقعد خادما، وفرض للزَّمِن رزقا مخصوصا. حتى قيل: إن الزَّمِن أصبح أحبّ إلى أهله من الصحيح. (إصلاح المجتمع ص:219).
اللهم إنا نسـألك العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، اللهم حبّب إلينا الخير، واجعلنا من مفاتيحه يا رب العلمين، اللهم وفقنا إلى المسارعة في الخيرات، والمساهمة في جميع المشاريع النافعة، واجعل عملنا خالصا لوجهك، موافقا لمرضاتك، اللهم اجعلنا ممن إذا ابتلي صبر، وإذا أنعمت عليه شكر، وإذا أذنب استغفر يا خير الغافرين. اللهم واجعل بلدنا آمنا و سائر بلاد المسلمين، ووفق ولي أمرنا إلى ما تحب و ترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يـا رب العالمـين، واغفر لنا وارحمنا وانصرنا على القوم الكافرين، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله و صحبه أجمعين. آمـــيـــن .
ْْْْْْْ}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: حوادث 8مايو45
الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، العزيز الرحيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، علمنا أن نعيش أعزاء، أو نموت شهداء. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، قال تعالى في كتابه الكريم: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين..". المنافقون:8.
عباد الله: إن العزة فيها معنى الشدة والقوة والغلبة. والعزة خلق من أخلاق المؤمنين التي يجب أن يتحلوا بها ويحرصوا عليها، لأن إلههم عزيز، ودينهم عزيز، فما عليهم إلا أن يكونوا أعزة. قال تعالى: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.. ". الفتح:29. والشدة على الكفار تستلزم عزة النفس، قال تعالى: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين". آل عمرن:139. وهذا يقتضي أن يكونوا أعزاء كذلك. ومن معاني الآية الكريمة الإستمساك بالعزة والقوة، والثورة على المذلة والهوان، وقد تكرر وصف الله في القرآن الكريم بالعزيز ما يقرب من تسعين مرة، وقد تكون الحكمة في ذلك أن يملأ الله أسماع المؤمنين بحديث العزة والقوة ليستشعروا العزة والقوة في أنفسهم، فيرفضوا الذل والهوان، ويثوروا على الظالمين والمستعمرين. قال تعالى: "من كان يريد العزة فلله العزة جميعا". فاطر:10. وقال سبحانه: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير". آل عمران:36. وقد هدانا القرآن الكريم إلى الطريق التي نصون بها عزتنا وكرامتنا ضد الذل والهوان والسكوت عن الطغيان، فأمرنا بالإعداد والإستعداد لحفظ الكرامة والذود عن العزة. قال تعالى: "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ...". الأنفال:06. وذلك لأن القوة تجعل صاحبها في موطن الهيبة والعزة، فلا يسهل الإعتداء عليه، وليست هذه دعوة إلى البغي والعدوان. ولكن القرآن يعوّد أتباعه أن يكونوا أولا على حيطة وحذر، فيحيطوا أنفسهم بكل وسائل القوة والتحصين، حتى يكونوا أصحاب رهبة في نفوس أعدائهم فلا يتطاولون عليهم، ومن هنا يقول تبارك وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم...". ويقول تعالى: "وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم"، وإذا شاءت الأقدار يوما، والتقى المؤمنون في معركة مع الكافرين والمعتدين، فالواجب على كل مؤمن أن يظل عزيزا قويا ثابتا على مبادئه وعقيدته، لا يخاف الألم والتعب، بل يبذل جهده وطاقته، مستخدما كل ما أعدّه قبل ذلك من سلاح وعتاد، واثقا بالله عز وجل. وإن قُدّر له لون من ألوان العذاب والإختبار والإبتلاء، تحمله راضيا صابرا محتفظا بعزته وكرامته وشهامته، موقنا بأن احتمال الأذى والألم، خير ألف مرّة من التخاذل والإستسلام، ومع هذا فالإسلام يدعو أتباعه إلى السلام العادل المنصف الذي لا ينطوي على ضيم أو ذل، ويدعوهم أن يغفروا الهفوة إذا كانت عن غير تعمد، أو كانت لا تبلغ مبلغ الإهانة، ولا تخدش العزة والكرامة. أما إذا كانت الخطيئة بغيا وعدوانا فعلاجها والرد عليها بما يغسل العار ويدفع الظلم والطغيان، ويصون الكرامة، قال تعالى: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ". الشورى:39.
أيها المسلمون: إنّ القرآن الكريم لم يكتف بتحريض المؤمنين على إباء الضيم ونبذ الظلم وإيثار العزة تعريضا صريحا وتوجيها مباشرا، بل ضرب الأمثال في الأمم السالفة التي استجابت لدعوات الحق، وتابعت رسل الله واستشعرت العزة وتمردت على المذلة، فكان جزاؤها كريما وثوابها عظيما، حيث خاضت المعارك من أجل عقيدتها ومبدئها ولم تهن ولم تضعف، بل صبرت وصابرت وكافحت وناضلت حتى ظفرت وانتصرت، وذلك بفضل الله العزيز الذي يحبّ الأعزاء. قال تعالى: "وكأين من نبئ قتل معه ربيّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين". آل عمران:146.
وإن في السيرة النبوية ما يهدي أتباع محمد صلى الله عليه وسلم إلى منهج الشرف وطريق العزة . فالهدي النبوي الكريم، يعلم الإنسان ألا يرضى الدنية في دينه ولا دنياه، بل يحفظ لنفسه حقها، ويدافع عن هذا الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فإن مات دونه فهو شهيد، وإن انتصر عاش عيشة الأحرار.
أيها المسلمون: وما أحداث( الثامن مايو45) إلا خير مثال، وما كانت أحداثه إلا لتزيد أبناء الجزائريين المخلصين لوطنهم إيمانا بحتمية الكفاح المسلح لنيل حياة العزة والكرامة، وتضع حدّا لأحلام بعض السياسيين، وتؤكد أن الأساليب السياسية لا تجدي نفعا مع عدوّ اغتصب كل شيء، المال والأرض والأعراض بالحديد والنار، وقد تجلى هذا بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حيث كان الرئيس الفرنسي "ديغول" قد وعد ببرازافيل عام 1944 بإعطاء الحكم الذاتي للمستعمرات الفرنسية بما في ذلك أقطار المغرب العربي إن هي وقفت بجانب فرنسا في مواجهة الجيوش الألمانية، وتخلّصت من الإحتلال. وتصديقا لهذه الوعود اندفع خيرة أبناء الشعب الجزائري للقتال، يحدوهم الأمل بالنصر وتحرير بلادهم، فدفع بذلك الشعب الجزائري عشرات الآلاف من القتلى وضعفهم من المعطوبين، وانتهت الحرب العالمية الثانية، وانتصر الحلفاء على ألمانيا، وكانت الإحتفالات بعيد النصر. وخرج الشعب الجزائري هو الآخر ليعبر عن فرحته بالنصر والإستقلال، حاملا العلم الوطني، لكن الأحقاد الصليبية الدفينة ما لبثت أن تجلّت من جديد في صورة أكثر وحشية، حيث قام جلادو العدو بتسليط جامّ غضبهم على الأهالي العزّل دون تمييز، ومن المدن التي تعرضت أكثر من غيرها للإبادة والدمارـ كما تعرفون ـ "سطيف، و قالمة ،وخرّاطة" .
قال الشيخ البشير الإبراهيمي عليه رحمة الله، يصف هذا: "إن هذا اليوم أزهقت فيه الأرواح كأنه أوسمة شرف، للتضحيات التي قدّمها الشعب الجزائري لفرنسا أثناء الحروب بلا مقابل. بحيث ألحق الشباب الجزائري بجبهات القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بعد أن ملأ الإستعمار أعطافه بالتمنيات والوعود الكاذبة، ثم سرعان ما انقلب عليه، وجازاه جزاء سنمّار". (عيون البصائر الجزء: 2).
نعم أيها المسلمون: في مثل هذا اليوم طبّق العدو أساليب النازية، وزاد عليها، فدمّر القرى على من فيها. انتهك الحرمات، فتح بطون الحوامل، فتح نيران أسلحته بالأزقة، ووسط القرى دون تمييز بين الصغير والكبير، فالجزائريون أمامه سواء. وكان من نتيجة هذه الأعمال الوحشية استشهاد: 45ألف مواطن، واعتقال:1500.
أيها المسلمون: لقد ذكرت سابقا قول الله عز وجل: "وكأين من نبئ قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا..." وكذلك كان آباؤنا وأجدادنا، أعزاء في كل شيء، فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا، لأنهم سمعوا قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: "من أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا". رواه الطبراني.
فيا أيها المسلمون: اذكروا هذه الأيام الخالدة، وترحموا على شهدائكم، واعلموا أن آخركم لا يصلح إلا بما صلح به أولكم، اتقوا الله ربكم، وتأدبوا بآداب دينكم الحنيف، وتخلّقوا بأخلاقه التي أرادها لكم عزا ومنعة ومجدا .
اللهم أكرمنا ولا تهنا، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، إنك على كل شيء قدير. نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم, وأجارني.....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لاإله إلا الله وليّ الصالحين . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله ، وابتغوا العزة فيما فرضه الله و سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزموا حدود الدين فيما رسم لكم من معالم العزة والكرامة، وتمسكوا بدينكم، وحافظوا على تراثكم المجيد، ومجدكم العظيم الذي ورثتموه على أسلافكم. وأعدّوا ليومكم وغدكم ما استطعتم من قوة تؤيّدون بها حقكم، وترهبون بها عدو الله وعدوكم، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين.
اللهم أكرمنا ولا تهنا، وزدنا ولا تنقصنا، وكن معنا ولا تكن علينا، اللهم اجمع الصفوف ووحد القلوب واجمع العرب والمسلمين على كلمة سواء، واجعل النصر في ركابهم يارب العالمين. اللهم وارحم شهداءنا الأبرار، ووفق أبناء وبنات الجزائر للعمل بما يرضيك، اللهم واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}الموضوع: اختتام الموسم الدراسي
الخطبة الأولى
الحمد لله المتحبّب لعباده بترادف نعائمه، أحمده سبحانه على سرائه وضرائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في صفاته وأسمائه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، لا خير إلا دل أمته عليه، ولا شرّ إلا حذرها منه. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيا عباد الله: إذا كانت النعم فيضا من المولى الكريم لا يقف تتابعه، وغيثا لا يكف هطوله، كما قال تعالى: "وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها". النحل:18. فإن من بين هذا الفيض نعمتين يغبن فيهما الكثير من الناس، أفصح عنهما الرسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". رواه البخاري.
أيها المسلمون: في هذه الأيام يختتم العام الدراسي، الذي أمضى فيه أبناؤنا وقرة أعيننا جهدا كبيرا في العمل والنظر والدراسة، وختموه بامتحانات نسأل الله لهم فيها السداد والتوفيق والنجاح.
ولكنّ البعض منهم سيحسّ بمشكلة الفراغ التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: "مغبون فيها كثير من الناس".
هذه النعمة – نعمة الفراغ- متوفرة الآن لشبابنا فما أدري أيكون شبابنا من الكثير المغبون؟. أم سيكون من ذوي العزم والقوة الذين يربحون أوقات صحتهم وفراغهم؟.
أيها المسلمون : إن هذا الفراغ الذي حصل للشباب بعد انقضاء الموسم الدراسي الذي كانوا فيه مستغلين أوقاتهم وقواتهم العقلية والفكرية والجسمية، هذا الفراغ الذي حصل، لابد أن تنعكس آثاره على نفوسهم وتفكيرهم وسلوكهم، فإما أن يستغلوه في خير وصلاح، فيكون ربحا وغنيمة للفرد والمجتمع، وإما أن يستغلوه في شر وفساد، فيكون خسارة للفرد والمجتمع.
إن الشباب بعد الجهد الجهيد الذي أمضاه في عامه الدراسي، إذا كانت العطلة فسيجد الفجوة واسعة بين حالته اليوم، وحالته بالأمس، وسيحسّ بالفراغ النفسي والفكري، سيقول بماذا أقضي هذه العطلة؟.
ولكن الشباب المتطلع إلى المجد والعلا، يستطيع أن يستغل هذه العطلة بما يعود عليه وعلى أمته بالخير. يمكن أن يستغل وقت العطلة بمذاكرة العلم، ومراجعة دروسه الرسمية الماضية أو المستقبلية، أوفي دروس أخرى يتثقف بها ثقافة عامة. أو يذهب إلى مدرسة من مدارس تحفيظ القرآن، فيحفظ ما شاء الله له أن يحفظ ، فمن شغله القرآن فقد فاز فوزا عظيما. قال صلى الله عليه و سلم فيما رواه البخاري و مسلم: "خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه".
وإذا لم يتمكن من استغلال العطلة بالقراءة، فإنه يمكنه أن يستغلها بالعمل البدني، يكون مع أبيه أو أخيه في دكانه، أو مصنعه، أو أية مهنة مباحة يمارسها، ليكسب من ذلك ويفيد غيره، ويسلم من خمول الذهن وتبلبل الفكر واضطراب المنهج والسلوك.
وإذا لم يتمكن من هذا أو ذاك، فإنه يمكنه أن يقضي وقته في رحلة يكسب بها استطلاعا على بلده ووطنه، ويتعرف على إخوانه، شريطة أن يحافظ على دينه وخلقه، فيصلّي الصلاة لوقتها ويؤديها على الوجه المطلوب، ويتجنب كل رذيلة وخلق سافل، ويستصحب القرناء الصالحين،الذين يذكّرونه إذا نسي، ويقومونه إذا أعوجّ.
عباد الله: إننا نتحدث عن الشباب، لأنهم جيل المستقبل، ورجال الغد، وأمانة في أعناق من فوقهم، وفي أعناق أوليائهم بالذات، ولقد كان للمدرسة العبء الثقيل، والآن المسؤولية على أولياء أمورهم من الآباء والأمهات.
فعليكم – أيها المسلمون- مراعاة أولادكم، وحمايتهم من ضياع الوقت، وانحراف العمل والسلوك، وامنعوهم من معاشرة أهل الفساد.
فإن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب
وفق الله أبناءنا وبناتنا إلى الخير والصلاح، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم، آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: إننا لا ننكر حق الشباب في الراحة والترفيه البريء عن النفس، فهذا أمر دعا إليه الدين، وتتطلبه الطبيعة البشرية القائمة على التوازن والإعتدال بين الروح والجسد، فقد جاء في الأثر : "روّحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلّت ملّت". ولكننا نشفق على من يبدّدون أوقاتهم، ويضيعون أعمارهم فيما لا يفيد.
إلى هؤلاء أذكر هذه القصة: "قام رحّالة في أحد العصور القديمة برحلة إلى مدينة نائية ، وأثناء جولته في منطقة تضم المقابر، استرعى انتباهه أنه مسجل عليها أعمار الموتى، وقد تجاوز كثير منهم المائة عام، إلا أن حياتهم تراوحت ما بين سنوات قليلة، أو أيام معدودة، مثلا : كتب على قبر، فلان بن فلان، عاش سبعين سنة، وعمره عشر سنوات. فاستغرب الرحالة لحال هؤلاء القوم، فسأل أحدهم عن حقيقة الأمر، فأجابه: بأن العمر الحقيقية عندنا إنما تقدّر بالأعمال العظيمة التي قام بها كل واحد منا، فصمت السائل برهة، ثم قال له: "إذا وافتني المنية في بلدكم، فاكتبوا على قبري، هذا الرجل مات قبل أن يولد".
فاعتبروا بهذا أيها المسلمون: وتدبروا قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت على شيء، ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي".
فاللهم وقفنا لصالح الأعمال والأقوال ، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، ووفق شبابنا إلى العمل بما يرضيك يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تنصرنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، وهيئ لنا من أمرنا رشدا، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ، وأدخلنا الجنة دار السلام، اللهم واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين. ووفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}ْْْْْْْ
الموضوع:عيد الإستقلال
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، شرع الجهاد لحماية حوزة الإسلام، أحمده سبحانه جعل النصر لحزبه، فأعظم بتأييد الملك العلام. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد الأنام، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله، ما تعاقبت الليالي والأيام.
أما بعد، فقد قال تعالى: "الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا، إن الله عنده أجر عظيم" .التوبة:20ـ22.
عباد الله: في مثل هذا اليوم– الخامس يوليو–، تحتفل الجزائر باستقلالها ومولد حريتها، وهذا اليوم ليس بالعادي في تاريخ الجزائر، إذ هو يوم احتلالها– يوم وقع فيه "الدّاي حسين" على وثيقة الاحتلال– وكان ممكنا أن تحتفل الجزائر باستقلالها قبل هذا اليوم. لأن قرار توقيف إطلاق النار، كان يوم 19 مارس، ولكن الرجال الأحرار، والمجاهدين الأبطال، أبوا إلا أن يثأروا لكل يوم موتور من تاريخ الجزائر، حتى يحققوا للحرية نصاعتها وقدسيتها.
أيها المسلمون: إنكم تحتفلون بعيد الإستقلال، فما تراني أقول لكم؟. وقد سبقني كتّاب أفاضل، فأفاضوا القول. وعلماء أكابر، فأبدعوا اللفظ، ولم يدعوا مجالا لقائل، ولا مسلكا لسائر، ولكن هذه الجزائر. قبلة الثوار وكعبة الأحرار، فكلما اقتربت، كان المنهل عذبا، والنهر فياضا.
أيها المسلمون: جاء الاستعمار الدنس إلى الجزائر، وكما يقول الشيخ البشير الإبراهيمي عليه رحمة الله: "يحمل السيف والصليب، ذلك للتمكّن وهذا للتمكين فملك الأرض، واستعبد الرقاب، وفرض الجزية، وسخر العقول والأبدان".
نعم ! لقد وقف الإستعمار للإسلام بالمرصاد منذ أول يوم ، وتدخل في شعائره وشرائعه بالتضييق بروح مسيحية، فلقد وقف "شارل العاشر " ملك فرنسا يقول في خطاب العرش، يوم 2 مارس 1830 ما نصه: "إن العمل الذي سأقوم به لترضية شرف فرنسا، سيكون بإعانة الله القدير لفائدة المسيحية جمعاء". وقال الحاكم الفرنسي للجزائر بمناسبة مرور (100) مائة عام على احتلالها: "يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم، حتى ننتصر عليهم".
ولقد أثار هذا المعنى، حادثة طريفة جرت في فرنسا، وهي أنها ومن أجل القضاء على القرآن من نفوس شباب الجزائر، قامت بتجربة عملية. قامت بانتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، وألبستهن الثياب الفرنسية، ولقنتهن الثقافة الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماما. وبعد أحد عشرة (11) عاما من الجهود، هيأت لهن حفلة تخريج رائعة، دعي إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون، ولما ابتدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري. وثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: "ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مئة وثمانية وعشرين عاما؟. أجاب "لاكوست" وزير المستعمرات الفرنسي، وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا"؟. الله أكبر .
صدق من قال عليه رحمة الله :
شعب الجـزائر مســلـم و إلـى العروبـة ينتسـب
من قـال حاد عـن أصله أو قـال مات فقـد كـذب
أو رام إدمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاجا لــه رام المحـــــال من الطلـب
أيها المسلمون: إن هذا الشعب العظيم ألحّ عليه الإستعمار الفرنسي في وطنه بالقهر والفقر والعذاب والخراب، والقمع والاضطهاد، والمسخ والتشويه، ومنعه من كل وسائل الحياة، وسلّط عليه أسباب الفناء، فما وهن ولا ضعف، ولكن أراد الحياة، فاستجاب له القدر، وآمن بأن الجهاد في سبيل الله هو غاية الفضل ونهاية العمل، وأن شهداء الجهاد على موعد مع الله، لا يذيقهم طعم العذاب وسكرة الموت، وأنهم من ساعة استشهادهم أحياء يرزقون، فقام الشعب – كما يقول المرحوم أحمد توفيق المدني: "كإعصار فيه نار، يصبّ على الظالمين المستعمرين ما تراكم فوق فؤاده من حمم الحقد والضغينة التي تولدت خلال مائة وعشرين عاما، كلها آلام، وكلها جراح، وكلها مصائب وآثام، وكلها لصوصية ونهب وانتهاك حرمات وإهدار كرامة". واجتمعت في صفوف الثورة المقدسة كل ما يملكه شعب أبيّ قام مستجيبا لدعوة الجهاد، واجتمعت في جهاده الأقانيم الخمسة التي تكونت منها الحرية، ورفعت راية الاستقلال عالية، "دم الشهيد، وجهود الفدائي، ومداد الكاتب، وكلمة الخطيب، ومال المقتدر " .
بل اسمعواـ أيها المسلمون ـ إلى صاحب الإلياذة رحمه الله:
إذا الشعـر خلّد أُسد الـرهان أينسـى مغـامـرة الحيـوان؟
أينسى البغـال أينسى الحمير وهل ببـطولتهـا يُستــهان؟
سلاما على البغل يعلـو الجبــــــــــــــــال ثقيـلا فيكـبـره الـثـقـــــلان؟
وعـاش الحمار يقـل الســـــــــــــــــــلاح ويغشى المعامـع ثبت الجنـان
وبارك فأرا.. يـوزع نــــــارا فيخلع بالـرعب قلب الجبـان
ويلقى الشهادة شهـما كريما وقد عاف ذلّ الشقا والهوان
وطـوبى لعنز يضلل جـــنـدا ويخـدع أحـلاســــه بالأمـان
والكلـب يهجـر طبع النبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاح ويهوى النمـيـمة بالطيــران
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، إن الله لا يحبّ كل خوان كفور". الحج:38.
أيها المسلمون: لقد آل الشجعان عن أنفسهم، وبذلوا ما في وسعهم، بعد ما بناهم الإسلام على فضائله ، وطبعهم على أخلاقه، وهيأهم للاستخلاف في الأرض، وفرح المؤمنون في مثل يومنا هذا، بنصر الله. "ينصر من يشاء وهو الـــعزيز الرحيم".
اللهم زدنا ولا تنقصنا، و أكرمنا ولا تهنا...... آمين .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين . وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، فاتقوا الله - عباد الله -وكونوا خير خلف، لخير سلف، سيروا على درب الأُلى الذين ساروا على نهج الهدى، وتدربوا على التضحية والفداء. صلوا الحاضر بالماضي، لتبلغوا أرفع مدارج العز في العاجلة، وخير منازل المقرّبين في العقبى .
عباد الله: "إن الله وملائكته يصلون على النبي، "ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما". اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم أدم عليه الفتح والنصر، ودمّر من أراده بسوء يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد صفوفنا، وأصلح قادتنا، واجمع كلمتنا على الحق يا رحيم. اللهم انصر إخواننا في فلسطين، وكن مع جميع المستضعفين، ودمر اليهود وسائر المفسدين. اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، وقنا الزلازل والمحن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهم وفّق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: الدخول المدرسي
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلماتِ والنور، والحمد لله الذي فضل العلم على الجهل فقال: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهد لنفسه بالوحدانية، وشهد بها ملائكته والعلماء، قال تعالى: ".. شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم". وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائل: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون: لقد كان اهتمام شريعة الإسلام في الحض على العلم عظيما، وكانت العناية بالتكوين العلمي فائقة كبيرة، والآيات والأحاديث التي تأمر المسلمين بالعلم وتحضّهم عليه وتسوقهم إليه، أعظم من أن تحصى، وأكثر من أن تستقصى، وها نحن أولاء نقتطف بطاقات منها عسى أن تكون تذكرة وعبرة لمن يريد أن يتذكّر ويعتبر. قال تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". الزمر:9. وقال :" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات..". المجادلة:11. وقال أيضا: "وقل رب زدني علما".طه:114.
وحسبنا أن يكون أول نداء إلهي يفتتح الله به وحيه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، تلكم الآية الكريمة: "أقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم..". القلم:1 ـ5.
من أجل هذا يجعل الرسولُ صلى الله عليه و سلم طلبَ العلم فرضا، فيقول: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". رواه ابن ماجه. ويجعل المعاناة في تحصيله جهادا، فيقول: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع". رواه الترمذي. ويخبرنا–صلى الله عليه وسلم- أن كل أمجاد الدنيا كاذبة وزائلة، إلا مجد الإستقامة والعلم: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله، وما والاه، وعالما ومتعلما". رواه الترمذي وابن ماجه. ويقول: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع". رواه الحاكم.
أيها المسلمون: من كان يعرف في تكريم العلم والعلماء أروع من هذا فليأتنا به؟.
أقول هذا أيها المسلمون: ونحن نستقبل الموسم الدراسي الجديد، لقد فتحت المدارس أبوابها أمام أبنائنا وقرةِ أعيننا، وعدّةِ مستقبلنا، وذخيرةِ بلادنا، وأمل مجتمعنا في التقدم و الرقي والازدهار.
فماذا نتمنى لأبنائنا ولمعلمينا؟. لاشك أننا تتمنى لأبنائنا سنة طيّبة سعيدة مليئة بالنشاط والجّد والإجتهاد ونيل أحسن الدرجات والشهادات إن شاء الله. ونتمنى لمعلّيمنا ومعلماتنا وأساتذتنا الكرام دخولا موفقا إن شاء الله وسنة دراسية مليئة بالنشاط والعمل الجاد مع دوام الصحة و العافية و الأمان.
ولكن هذا –أيها المسلمون- لا يكون إلا إذا وجد التعاون بين البيت والمدرسة والشارع، فإذا لم يقم الأب في البيت بمسؤوليته على الوجه الأكمل، فربما انحرف الولد، وعندئذ لا ينفع مع الولد توجيه، ولا يجدي في تقويم اعوجاجه معلم، لذا حمّل الإسلام الآباءَ والأمهاتِ مسؤوليةَ التربية. قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون". التحريم:6. روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في معنى الآية: "اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أولادكم بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فذلك وقاية لهم من النار". وأكّد صلى الله عليه وسلم في أكثر من وصية بضرورة العناية بالتربية، قال صلى الله عليه وسلم: "أدبوا أولادكم وأحسنوا أدبهم". رواه ابن ماجه، وروى الطبراني عن على كرم الله وجهه مرفوعا: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن". إلى غير ذلك من الأحاديث.
أيها المسلمون: إن التربية الصالحة للطفل، هي التي تُنشئ الشاب الصالح الذي يخدم دينه وأمته ووطنه، ولقد وضع لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم مادة أساسية، مفادها أن الإبن يشبّ على دين والديه. أخرج البخاري عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أو َيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ".
ألا وإن ما نرى ونسمع من انحرافات الأبناء داخل المجتمع، إنما ذلك صادرٌ عن اللامبالاة، والتساهل والغفلة من طرف الوالدين، والله سائلهم يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله سائل كلَّ راع عما استرعاه حفِظ أم ضيّع". ألا وإنّ ما نرى ونسمع من المظاهر السلبية للأولاد وزيغهم وفساد أخلاقهم ،كتعاطي السجائر، بل والمخدرات، وتدني المستوى التعليمي، ومحاولة ضرب المعلمين والمعلمات، ما كل هذا إلا لتخلّي الأبوين، وانشغالهم عن التوجيه والتربية، ولله در الشاعر حين قال :
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة و خلفاه ذليلا
إن اليتــــــــــيم الــذي تـــــــــــــــــــلقى له أمًّا تخلت أو أبا مشغولا
نعم ..إن الأسرة هي المحضن الأول الذي ينشأ فيه الأبناء، ورب الأسرة وزوجته كلاهما شريك الآخر في تلك المؤسسة الاجتماعية التي أمر الإسلام برعايتها والحفاظ عليها، ولا يمكن أن يتحقق النجاح للأسرة إلا إذا تعاون كل من الرجل والمرأة في تربية الأولاد، والولد يتأثر بوالديه في أخلاقه وسلوكه وتصرفاته واتجاهاته الدينية والعقائدية.
فعليكم ـ أيها الآباء والأمهات ـ مراعاةِ أولادكم، وحمايتَهم من ضياع الوقت وانحراف العمل والسلوك، تفقدوهم في كل وقت، وامنعوهم من معاشرة ومصاحبة من يُخشى عليهم منه الشر والفساد، فإنكم عنهم مسئولون، وعلى إهمال رعايتهم وتأديبهم معاقبون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..".
ويا أيها المعلم: اعلم أن مهنة التعليم لا تساويها مهنة في الفضل والرفعة، فوظيفتك من أشرف الوظائف وأعلاها. ولعل حديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه، يبين لنا فضل تعليم الخير. يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير ».
لكن اعلم أن مهمتك لا تقتصر على طرح المادة العلمية على طلابك فقط، بل هي مهمة عسيرة وشاقة - وهي يسيرة على من يسرها لله عليه - فهي تتطلب منك صبراً وأمانة ونصحاً ورعاية لمن تعلمهم. اذكر دائما قول الحكيم العربي:
يأيها الرجلُ المعلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمُ غيرَهُ هلا لنفسِكَ كان ذا التعليمُ
تصفُ الدواء لذي السقامِ وذي الضنى كيما يصحَّ به وأنتَ سقيمُ
ونراكَ تصلحُ بالرشادِ عقولَنا أبداً وأنتَ من الرشادِ عديمُ
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثـــــــــــــــــلهُ عارٌ عليكَ إِذا فعْلتَ عظيمُ
وابدأ بنفسِكَ فانَهها عن غَيِّها فإِذا انتهتْ منه فأنتَ حكيمُ
فهناكَ يقبلُ ما وعظْتَ ويفتدى بالعلم منكَ وينفعُ التعليمُ
تصفُ الدواء لذي السقامِ وذي الضنى كيما يصحَّ به وأنتَ سقيمُ
ونراكَ تصلحُ بالرشادِ عقولَنا أبداً وأنتَ من الرشادِ عديمُ
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثـــــــــــــــــلهُ عارٌ عليكَ إِذا فعْلتَ عظيمُ
وابدأ بنفسِكَ فانَهها عن غَيِّها فإِذا انتهتْ منه فأنتَ حكيمُ
فهناكَ يقبلُ ما وعظْتَ ويفتدى بالعلم منكَ وينفعُ التعليمُ
يا رعاكم الله: إن المعلم إذا لم يكن ملتزما في سلوكه ومعاملته بمنهج الإسلام، وعلى دراية تامة بمبادئ الأخلاق، ليسير على طريق الإصلاح والتربية على أسس متينة، فهو أولى وأجدر بالتعليم والتأديب. فإذا كان جاهلا، ولاسيما في القواعد الأساسية في تربية الولد، فإن الولد يتعقد نفسيا وينحرف خلقيا، ويضعف اجتماعيا، ويكون إنسانا من سقط المتاع، لا وزن له ولا اعتبار في أيِّ مجالات الحياة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه أبدا، والحوضَ الفارغ من الماء لا يمكن أن يفيض على غيره، والمصباحَ الخالي من الوقود لا يمكن أن ينير على من حوله.
لا تأخـذنّ العـلم إلا عـن جهــــــابذة بالعلم نحيــا و بالأرواح نفديــــــــه
أما ذوو الجهل فارغب عن مجالستهم قد ضل من كانت العميان تهديه
فيا أيها المعلم: حافظَ على الوقت زمنًا وأداءً، والتزمَ الحضورَ في وقتك، وأدّ هذا العملَ بجدٍّ واجتهاد، ولا تستخفّ بهذه المسؤولية، ولا تستهن بها، فإنها أمانة عندك، والله سائلك عنها، قال تعالى: "إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا". النساء:58.
ولكن على رسلكم – يا عباد الله- فاليد الواحدة لا تغسل نفسها، وكذلك الشخص الواحد لا يضطلع بأي مهمة وإن بدت يسيرة ، فالولد مهما كان استعداده للخير عظيما، ومهما كانت فطرته نقية سالمة، فإن للبيئة الأثرَ الأكبرَ في تربيته، وإصلاحِ حاله واستقامة أمره، ومن هنا كانت وصية ابن سينا في تربية الولد قوله: "أن تكون مع الصبي في مكتبه صِبيةٌ حسنة آدابهم، مرضية عاداتهم، لأن الصبي عن الصبي ألقن، وهو عنه آخذ، وبه آنس".
أيها المسلمون: إن الولد حينما تتوفر له البيئة الصالحة، من قبل أصدقاء صالحين، ورفقاء مخلصين. فإن الولد– لاشك- يتربى على الفضيلة والإيمان والتقوى.
فلا بد – إذن- من إيجاد التعاون بين البيت والمدرسة والشارع علميا وروحيا وجسديا. قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب". المائدة:2.
وفق الله طلابنا ومعلميهم لما فيه الخير، وأيّد خطاهم، وجعل النجاح حليفهم في كل مراحل حياتهم الدراسية، أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون: وكما عَلمتم لقد أعطى الإسلام للعلم مكانته، ورفع درجة العلم والمتعلمين، بل جعل العلماء ورثة الأنبياء.
فيا أيها الأساتذة والمعلمون: إن عليكم لأمتكم ومن يتعلمون منكم حقوقا عظيمة، فقوموا بها لله مخلصين، وبه مستعينين، ولنصح أبنائكم ومن يتعلمون العلم عنكم قاصدين، اخلصوا في التعليم، وامتثلوا أمام طلبتكم بكل خلق فاضل كريم، فإن المتعلم يتلقى من معلمه الأخلاق، كما يتلقى منه العلوم.
وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة جاءت على يديه الأبصار حولا
فاتقوا الله ـ ايها المعلمين ـ واعلموا أن السابقين من السلف الصالح كانوا يحرصون أشد الحرص على تأديب أنفسهم بأدب الإسلام في كل شيء، وكانوا يقدمون الأدب قبل العلم؛ قال ابن المبارك -رحمه الله-: تعلمت الأدب ثلاثين سنة، وتعلمت العلم عشرين سنة. وقال مالك بن أنس: كانت أمي تجهز عمامتي وأنا صغير قبل ذهابي لحلق العلم، فتقول: يا مالك خذ من شيخك الأدب قبل العلم!. وقال الحسن البصري -رحمة الله-: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين. وقال ابن سيرين -رحمة الله-: كانوا -أي الصحابة رضوان الله عليهم- يتعلمون الهدي -أي السيرة والهيئة والطريقة- كما يتعلمون العلم. وقال حبيب ابن الشهيد الفقيه لابنه: يا بني: اصحب الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم، فإن ذلك أحب إليّ من كثير من الحديث. وقال بعضهم لابنه: يا بني: لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم. وقال مخلد بن الحسين -المتوفى سنة 191هـ- لابن المبارك -رحمه الله-: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث. يقول ذلك في القرون المفضلة, فكيف لو رأى سوء أدبنا في هذا الزمان؟!. أعيذكم ونفسي من شرور الأنفس وسيئات الأعمال.
ويا أبنائي الطلبة: أنتم على مقاعد الدرس والتحصيل، وفي جوّ العلم ومحرابه المقدس، احرصوا على طلب العلم لغاياته الكريمة وأهدافه السامية، والتي تعود عليكم كأفراد بالخير والإستقامة والرفعة، وعلى أمتكم بالتقدم والرقيّ والإزدهار. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "..واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم".البقرة:182
اللهم اشرح صدورنا وصدور أبنائنا وبناتنا للإيمان، وافتح قلوبنا وقلوبهم للعلم والمعرفة، واجعل النجاح حليفهم في موسمهم الدراسي هذا. اللهم وألهم الأساتذة والمعلمين السداد في القول والعمل، و سدد خطاهم على طريق الحق، ووفقنا وإياهم لما فيه الخيرُ دِينا ودُنيا. اللهم واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولمن سبقنا بالإيمان يا رب العالمين. اللهم ألف بين قلوبنا وارفع مقتك وغضبك عنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، اللهم واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين. ووفق- اللهم- ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام، و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}الموضوع: عناية الإسلام بالطفولة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي منّ على عباده بالأموال والأولاد، ليختبر بذلك من يقوم بحقّهم ويصونهم عن الفساد، ومن يضيعهم ويتركهم فيكونون عليه خسارة في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الكريم الجواد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى الهدى والرشاد. اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان في القول والفعل والاعتقاد، وسلم تسليما.
أما بعد، أيها المسلمون: لقد اعتنى التشريع الإسلامي أتم العناية بالأسرة، لأنها اللبنة الأولى في بناء أي مجتمع، فإذا كانت هذه اللبنة مفككة منهارة، فلا بد أن يكون المجتمع مفككا منهارا. وإذا كانت الأسرة صلبة متماسكة، فلابد أن يكون المجتمع المتكون منها صلبا متماسكا كذلك.
ولاشك، أيها المسلمون: إن سعادة المجتمع وقوته، إنما تنشأ من سعادة الأسرة وترابطها وتوافق أفرادها، ولما كان الإسلام الحنيف يعمل على تكوين الأسرة الصلبة المتماسكة، وضع الأسس والتشريعات لها كي يرسي لها دعائمها، ويجعل منها عضوا سليما صحيحا حتى يمكن لها أن تؤدي واجبها أداء كاملا، وتفيد المجتمع الإنساني الذي تعيش فيه.
والطفل المسلم هو الأساس الذي يجب أن يلقى الرعاية الأفضل، من أجل خلق جيل جديد قادر على خدمة أهداف أمة الإسلام، ونافع لدينه ووطنه.
جميل...جميل – أيها المسلمون- أن نرى ـ ونحن نسير في شوارع مدينتناـ يافطات كتبت عليها عبارات جميلة، تذكر بالطفل، زينة الحاضر وبهجته، وأمل المستقبل وعدته.
فماذا أعددنا للطفل، ونحن نحتفل بيوم الطفل ؟.
أيها المسلمون: إن الإسلام الحنيف دين كرّم الطفولة، وأجلّ شأنها، ولو ذهبت تبحث عن مكانة الطفل في الإسلام لبهرتك هذه المكانة، وحسبك أن تجد الحق تبارك وتعالى يقسم بها في القرآن الكريم، قال تعالى: "لا أقسم بهذا البلد، وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد". البلد:1ـ3. ويزيد في تكريمها حينما يجعلها نعمة يمنّ بها على من يشاء من عباده، ويذكرنا بقدرها وحقها فيقول: "وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة". النحل: 82.
بل يجعلها نعمة على أنبيائه ورسله فيقول: "ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية". الرعد:38.
ولذا تطلعت عيون الصالحيـن مـن عبـاد الرحمن، يرجونها ذرية صالحة فيقولون: "ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما". الفرقان:73. وهذا زكريا عليه وعلى نبينا السلام يقول: "رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء". آل عمران:38.
أيها المسلمون: ولو رجعنا إلى سيرة الرسول صلى الله عليه و سلم، لوجدنا فيها تكريما للطفولة ورعاية لها، فقد روي أنه عليه الصلاة و السلام كان أحيانا يصلي، فيأتي الحسن أو الحسين يعلو ظهره وهو ساجد، فيطيل السجود حتى لا يزعج الطفل ولا يقطع عليه لعبه. ولقد روي – أيضا- أنه كان يخطب ذات يوم على المنبر، فرأى الحسن والحسين يقبلان نحوه وهما يتعثران في ثيابهما، فلم يملك أن نزل من المنبر، وحمل الطفلين على صدره، وعاد ليتم حديثه. ولقد كان صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء طفل من الأطفال وهو يصلّي بأصحابه، فيخفف الصلاة حتى تستطيع أم الطفل التي تصلي وراءه أن تتعجل بالعودة إلى طفلها الباكي لإسكاته وإرضاعه، وكأنه صلى الله عليه و سلم كان يحسُّ بلذع شديد لبكاء الطفل، فهو يريده هادئا راضيا سعيدا.
وكان صلى الله عليه و سلم إذا رأى أحدا لا يرحم أولاده، يزجره بحزم ويوجهه إلى ما فيه الصلاح، روى البخاري في الأدب المفرد عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال: أتقبّلون صبيانكم، فما نقبلهم؟، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك".
أيها المسلمون: ومن أجل الطفولة ورعاية الولد، شرع الإسلام الحنيف نظام النفقة على الأولاد، ونظام الحضانة للأولاد، ونظام التربية للأولاد، ولو رجعنا إلى ما كتبه علماء الإسلام في تربية الأولاد، لوجدناهم يعطوننا تفاصيل باهرة، كلها تدور حول صيانة الأولاد وتربيتهم وتقويم أخلاقهم.
إن الإسلام يدعو الوالد إلى أن يقوم لولده بما يجب نحوه، فيحسن اختيار أمه واسمه واختيار مرضعته، وأن يختار له البيئة الطاهرة النظيفة، ويبعده عن أقران السوء ورفقة الإنحراف، ويعلمه أمور الدنيا والدين. فهذا رسول صلى الله عليه و سلم يقرع الأسماع مذكرا بحقوق الأولاد وصيانة الأطفال وأداء الواجب نحوهم في التربية والتعليم والتوجيه فيقول: "ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن". رواه الترمذي. وروى أيضا : "لأن يؤدّب الرجل ولده خير له من أن يتصدّق كل يوم بصاع على المساكين".
أيها المسلمون : وإن من مظاهر عناية الإسلام بالطفل، حرصه على تهيئة البيئة الصالحة له، لما لذلك من الأثر العظيم في تنشئته تنشئة سليمة فاضلة لانحراف معها، و في إسلام عليّ بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين ما يدلنا على ما للبيئة من الأثر الظاهر في تربية الطفل، ولذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على أن يحضر أبناؤهم مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فها هي أم أنس بن مالك تختار بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعيش في البيئة الطاهرة.
فيا أيها الآباء والأمهات، تذكروا أن أبناءكم بين أيديكم وديعة غالية، وأمانة جليلة، وأنتم مطالبون بصيانتها وحفظها ورعايتها، وهي عجينة لينة صالحة لتتشكل، قابلة للتوجيه والتعليم، صفحة بيضاء نقية، أنتم الذين تكتبون عليها ما تشاءون. قال صلى الله عليه و سلم فيما رواه البخاري ومسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه .." الحديث.
ألا وإنّ ما نسمع ونرى من المظاهر السلبية للأولاد وزيغهم وفساد أخلاقهم، كتعاطي السجائر، بل والمخدرات، وتدني المستوى التعليمي، ومحاولة ضرب المعلمين والمعلمات، ما كل هذا إلا لتخلّي الأبوين، وانشغالهم عن التوجيه والتربية، ولله در الشاعر حين قال :
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة و خلفاه ذليلا
إن اليتــــــــــيم الــذي تلقى له أمًّا تخلت أو أبا مشغولا
فيا أيتها الأم، لا تغفلي عن دورك في حمل الأمانة، قومي بواجبك تجاه أطفالك، فأنت كما قال الشاعر :
الأم مدرســة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
فالأم في تحمّل المسؤولية كالأب سواء بسواء، بل إن مسؤوليتها أكبر وأخطر، باعتبار أنها ملازمة لولدها منذ الولادة إلى أن يشبّ ويترعرع ويبلغ السن التي تؤهله ليكون إنسان الواجب ورجل الحياة، فرسول الله صلى اله عليه و سلم يقول: "والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها". رواه البخاري.
فاتقوا الله أيها المسلمون: واعلموا أن مسؤوليتنا كبيرة أمام الله في أولادناـ ذكورهم وإناثهم. نسأل الله الذي حمّلنا إياها، أن يعيننا عليها ويوفقنا للصلاح والإصلاح، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا ..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا اله إلا الله وليّ الصالحين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون: كم كان حكيما وصائبا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجههحينما قال: "علموا أولادكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم". وفي رواية ثانية: "أدبوا أولادكم". فكأنه رضي الله عنه بفكره الثاقب، يعني شباب عصرنا الحاضر، ليتسلح بسلاح العلم والأدب الإسلامي الرفيع، وهذا هو الذي يجب أن نزرعه في أعماق صغارنا – شباب الغد-. فلا تجعل أيها الأب ابنك يغتر بثروتك، ويتكل عليها في مستقبل أيامه، فلا يأخذ نفسه بالجد والتعب في تحصيل العلم، ضانّا –خطا أو غرورا- أن المال هو كل شيء في الحياة. نعم إن المال بلا شك له قيمته في حياتنا، ولكن العلم هو الذي يرسم الطريق الصحيح لاستغلال المال. ولا ينكر أحد ما للعلم من منافع كثيرة في شؤون الحياة كلها، ولكن هذه المنافع تكون أشدّ وأكثر نفعا للبشر، لو صحب العلم الإيمان، لأن ثمرة الإيمان حسن الخلق، وهو غاية ما يتطلبه المجتمع الإسلامي، وإليه أشار شوقي بقوله:
رأيت العـلم لا يبني رجالا ولا يغني عـن الأخلاق شيئا
وأخيرا – أقول – أيها المسلمون : لا يكفي بأي حال من الأحوال، أن يزجّ الأب بابنه أو ابنته في المدرسة، ثم يتركه هملا بلا ملاحظة ولا مراقبة ولا توجيه، بل عليه أن يشارك المدرسة، أو أية مؤسسة تعليمية في تربية ولده، وأن يتعهّده بالرعاية والتوجيه، وأن يلاحظ سلوكه داخل المدرسة وخارجها، وأن يبين له بصفة مستمرة الصواب، وأن يبعده عن الخطأ برفق ولين. وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل: "يا غلام.. سمِّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك". رواه البخاري ومسلم.
فاتقوا الله أيها المسلمون: في بناتكم وأبنائكم، وأدوا الأمانة بإخلاص، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما، واجعلنا وإياهم من مقيمي الصلاة. اللهم وفق أبناءنا وبناتنا إلى العمل بما يرضيك، وأصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، اللهم واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، ووفق وليّ أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: ذكرى أول نوفمبر
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، سبحت الكائنات بحمده، وعنت الوجوه لعظمته ومجده، له الحكم كله، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ناصر المجاهدين، ومبشر المؤمنين الصابرين. "ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز". الحج:40. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه. أقوى المجاهدين، وأشجع المقاتلين، ورافع لواء الحق إلى يوم الدين. اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه، الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وارض اللهم عنا معهم أجمعين.
أما بعد، فيا عباد الله: إن لله سننا نافذة بمقتضى حكمته ومشيئته في ملك الأرض وسيادة الأمم، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، فمن أخذ بنوع من تلك السنن، بلغت به وبلغ بها إلى ما قدّر له من عز وذل، وسعادة وشقاء، وشدة ورخاء، سنة الله، ومن ذا يبدلها أو يحولها؟. "فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا". فاطر:43.
أيها المسلمون: القرآن الكريم قص علينا من أنباء السابقين مصلحين ومفسدين، وقال: "قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين". آل عمران:137.
فهو يربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، وأنت تقرأ في سورة إبراهيم على نبينا وعليه السلام، أمر الله لموسى عليه السلام أن يذكّر بني إسرائيل بأيام الله، قال تعالى: "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور، وذكرهم بأيام الله، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور". إبراهيم:5.
كل الأيام، أيام الله، ولكن المقصود هنا، أن يذكرهم بالأيام التي يبدو للبشر أو لجماعة منهم أمر بارز أو خارق بالنعمة أو النقمة. ففي هذه الأيام، ما فيه بؤس، فقيه آية للصبر، وما فيه نعيم، فهو آية للشكر. والصبّار الشكور هو الذي يدرك هذه الآيات، ويدرك ما وراءها، ويجد فيها العبرة والعظة، كما يجد فيها تسرية و تذكيرا.
أيها المسلمون: ويوم أول نوفمبر هو من الأيام الخالدة في تاريخ الجزائر، يوم ولد فيه الشعب الجزائري من جديد، ولد عملاقا، كسّر قيوده، وحطم أغلاله، وهدم الحواجز والأسوار التي كانت دونه للعيش حرا كريما في وطنه.
إنه يوم يعود بنا إلى ذكريات تحمل أحداثا في تاريخ وطننا وحياة شعبنا، وإنه لمن أيام الله فينا، يذكرنا بآلام شديدة، وبمحن عديدة، تذوقنا فيها المرارة والبلاء، ويذكرنا أيضا، بنعم لا تحصى، ذقنا حلاوتها، ونعيش اليوم سعادتها، والحمد لله رب العالمين.
إنه يوم– أيها المسلمون– يعود بنا فنذكر تلك السنين المائة والثلاثين، والتي عاشها الشعب الجزائري تحت حكم الإستعمار الفرنسي البغيض، والتي تعرض أثناءها إلى الإبادة الروحية والجسدية، فعذب وسجن وشرد، وما زاده ذلك إلا تمسكا بعقيدته الراسخة ومطالبه الشرعية.
أذكروا هذا، في يومكم هذا– أيها المسلمون- واذكروا أمثال الشهيد "العربي بن مهيدي"، الذي ألقى البوليس الفرنسي القبض عليه في السابع والعشرين من فبراير سنة 1957، ثم سلط عليه أشد ألوان التعذيب، لقد اقتطعوا جلدة رأسه، ثم أخذوا سفودا بعد أن أصلوه نارا حتى أبيضّ، وأدخلوه في فمه وحلقه، رغبة منهم في استخراج أسرار الثورة، فلم يفلحوا، وفي أول مارس من نفس السنة، فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها، ولقد رثاه شاعر الثورة بقصيدة منها :
اشنقوني فلست أخشى حبالا واعدموني فلست أخشى الحد يدا
أنا إن مت فالجــــــــــــــــزائر تحــــــــــــــــــيا حـرة مسـتـــــــــــــــــــقـلة لن تبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيدا
قولة ردّد الـزمـان صـــــــــــــــــــــــــــداها قدسـيـا فـأحســـــــــــــــــــــــــــــــــــن الترديـدا
احفظوها زكـيــة كالمــــــــــــــــــــــــــــــــــثاني وانـقـلوها للجــــــــــــيل ذكرا مجــــــــــيدا
وأقيموا من عرشـــــها صلوات طـيـبـات ولقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنوها الوليدا
نعم .. أيها المسلمون: لقنوا هذا لأبنائكم وبناتكم، و ذكّروهم بأن الاستعمار الفرنسي جنّد كل إمكاناته، وكل طاقته المادية والمعنوية والبشرية، المتمثلة في العدد الضخم من المجندين الذين غطوا جميع أرجاء البلاد، انتشروا في الجبال والسهول، وفي الجنوب والشمال، وفي شرق البلاد وغربها، مع ما توفر لديهم من أحدث الأسلحة وأفتكها، حولوا المساجد إلى كنائس، والمدارس إلى قاعات للتعذيب وانتهاك الحرمات والفتك والقتل، جعلوا من الساحات والجبال مقابر للشهداء، ومن المراحيض زنزانات.
سلوا معتقل "شلالة والجرف" بمدينة المسيلة؟. وسلوا معتقل بـ "طيوة وآركول" وسيدي الشحمي بوهران؟ . وسلوا معتقل "ماجنطا وبوسوي"بسيدي بلعباس؟. وسلوا.. وسلوا الشهداء الأحياء، الشهداء الذين يحملون وسام الشهادة وشرف التضحية في صمت؟. وساما رسمه التيار الكهربائي على الأجسام، وتفنن في إبداعه المتخصصون في نزع الأظافر وخلع الأضراس وسمل العيون وبقر بطون الحوامل، حتى زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، واستعجل النصر.
يا ربِّ عجل بنصر كَم وعدتَ به فـــإن بابك باب ليس ينغلق
روحي وهبتك يا روحي فدا وطني زلفى إلـى اللـه لا مَنٌّ ولا مَلَق
وتلاقت الأيدي المؤمنة، "وقال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين". البقرة:249. فأعلنوها ثورة شعبية في وجه من اغتصب الأرض وأذل الشعب، وأراد فصله عن مقوماته، فكان أول نوفمبر، وكان الأمل الباسم، والقدر المشرق الذي ألف القلوب، وجمع الصفوف، وحدد الهدف، فهان الموت وطاب الاستشهاد في سبيل الغاية الشريفة والمقصد النبيل.."ولينصرن الله من ينصره".
فاذكروا– هذا أيها المسلمون- وحافظوا على تراثكم المجيد، ومجدكم العظيم، الذي ورثتموه عن أسلافكم، وأعدوا ليومكم وغدكم ما استطعتم من قوة، تؤيدون بها حقكم، وترهبون بها عدوا الله وعدوكم، وتذودون بها عن وطنكم. وعليكم أن تنسوا في سبيل ذلك أشخاصكم، فاتحدوا ولا تختلفوا. "واتقوا الله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين". الأنفال:46 .
نفعني الله و إياكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله المعز لمن أطاعه واتقاه، أحمده سبحانه هو المتفرد في علاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، نبي الهدى، فأكرم بمن سار على نهجه واقتفاه. فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فيا عباد الله، واذكروا وأنتم تحتفلون بهذه الذكرى، إخوة لكم حازوا قصب السبق، وفازوا بالخلود، إنهم الأبرار من الشهداء الذين استأثروا برحمة الله وفي سبيل الله. تركوا أهلهم، وباعوا أنفسهم وأموالهم، فاشتراها منهم ربهم بجنة عرضها السموات والأرض، ونعيم مقيم. كانوا يسارعون إلى الاستشهاد استجابة لأمر الله عزّ وجل، وتلبية لنداء الوطن، موقنين بأن الموت في هذا السبيل حياة، وأن ما عند الله خير وأبقى.
فاذكروا هؤلاء، ولتحيا في نفوسكم المعاني التي كانوا يجسدونها، ولتتعمق في قلوبكم المبادئ التي وهبوا حياتهم من أجلها، كونوا خير خلف لخير سلف.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، ووفقنا للسير على طريقهم يا رب العالمين، اللهم انصرنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، وانصرنا على أعدائنا حتى نسعد بظهور دينك، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم واحفظ لهذه الأمة و ليّ أمرها، وقها شر أعدائها، واعصمها من الزلل، ووفقها لصالح القول والعمل. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا لجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين. }}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: مظاهرات 11ديسمبر 1960
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، له الحمد سبحانه يؤيد بنصره من يشاء، له الحمد حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كتب العزة للمؤمنين، والذل والصغار على الكافرين. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خير نبيٍ أرسله الله إلى العالم كله، بشيراً ونذيراً وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا , اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، واذكروا أيام الله لعلكم تتذكرون، واذكروا أيام الله بنصر أوليائه لعلكم تشكرون، واذكروا أيام الله بخذلان أعدائه لعلكم تتقون، واذكروا أيام الله إذا نزل للقضاء بين عباده فقضى بينهم بفضله وعدله لعلكم توقنون.
أيها المسلمون: إن نصر الله لأوليائه في كل زمان ومكان وأمة هو نصرٌ للحق وذلّةٌ للباطل، وأخذٌ للمتكبر ونعمة ٌعلى المؤمنين إلى قيام الساعة، فاتقوا الله تعالى وتعلموا ما يكون به عبرة لكم واطلاع على حكمة ربكم في تقديره وتشريعه.
فقد قص الله في القرآن الكريم أحوال الأمم السابقة، وما جرى بيِنهم وبيِن أنبيائهم، وأمرنا باستخلاص العبر من تلك الأحداث، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ ..}. يوسف:111
وهذا أسلوبٌ من الأساليب القرآنية للتذكير بنعم الله، لأن نعم الله تعالى وعطاياه ومنحه من آثار ربوبيته سبحانه وتعالى، بل هو أسلوبٌ أقرب إلى الحس والمشاهدة بحيث لا يصعب إنكاره إلا من جاحدٍ للنعمة كافرٍ بها، ونحن نجد فيضًا من الآيات المذكِّرة بنعم لله تعالى على اختلافٍ في هذه النعم، ففي سورة ابراهيم نقرأ قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ },(إبراهيم:5). قال ابن كثير: أيام الله أياديه ونعمه عليهم، قلت : ولقد جاء هذا المعنى في حديث أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بَيْنَمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وَأَيَّامُ اللَّهِ نَعْمَاؤُهُ وَبَلاؤُهُ، إِذْ قَالَ مَا أَعْلَمُ فِي الأرْضِ رَجُلا خَيْرًا وَأَعْلَمَ مِنِّي.." الحديث رواه مسلم في باب من فضائل الخضِر عليه السلام. وقد فسرته بذلك أيضًا الآية: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ }. (إبراهيم:6). فهذه الآية صريحة في بيان أيام الله، وأنها ما امتنّ الله تعالى به على بني إسرائيل من نعمة النجاة من عذاب فرعون وبأسه ، ما هو حريٌّ بهم أن يُذعِنوا بالطاعة والانقياد لله تعالى والإخلاص له بالعبادة، ولقد جاء مثل هذا التنبيه في خطاب مشركي قريش حيث قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ }. (إإبراهيم:28ــ29). حيث ذكر ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنه أن هؤلاء هم كفار أهل مكة جاءتهم نعمة الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا النعمة وجحدوا بها وأهلكوا أنفسهم وقومهم في الدنيا يوم بدر وفي الآخرة حيث ماتوا على الكفر والعياذ بالله. قلت: وأيُّ نعمة أعظم من نعمة الإسلام والهداية إلى التوحيد، وأي خسارة أعظم من الإعراض عن هذه النعمة
أيها المسلمون: وإن كان الخطاب موجه إلى أولئك، فإننا مخاطبون بمثل ما خوطبوا به، مذكَّرون بمثل ما ذُكروا به، مُحذَّرون بمثل ما حُذِّروا منه. وقد أنعم الله علينا بمثل ما أنعم عليهم، وبأوفرَ مما أعطاهم وأجلّ من ذلك. فمن واجب العبد أن يذكُر نعم الله عليه، فالله يقول :" وأما بنعمة ربك فحدث".
أيها المسلمون: ومن ذلك المنطلق، ومن باب فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فإن مظاهرات{ 11 ديسمبر من عام1960} ذكرى تستحق التذكير والتعريف بها، لا للذين اكتووا بنارها، فإنها يعرفونها ويذكرونها جيدا، وإنما نذكرها لشبابنا ومستقبل أمتنا، فإن الذي لا يعرف ماضيه يعجز عن صياغة مستقبله.
إنها ذكرى تاريخية هامة، وحلقة مشرِّفة لملحمة من ملاحم ثورة التحرير المباركة. والتي عبَّرت بحقّ تعبيرا قويا عن صمود واستبسال الشعب الجزائري في سعيه نحو الإستقلال، وباختصار شديد إليكم القصة:
" بعد وقائع المظاهرات المساندة لسياسة ديغول يوم 9 ديسمبر في عين تيموشنت والداعية إلى اعتبار الجزائر للجميع في الإطار الفرنسي، ومظاهرات المعمِّرين يوم 10 منه الداعية إلى اعتبار الجزائر فرنسية، زحفت المظاهرات الشعبية ـ في أرجاء الوطن بقيادة جبهة التحرير الوطني يوم 11 ديسمبر لتعبِّر عن وحدة الوطن، والتفاف الشعب حول الثورة مطالبا بالإستقلال التام ـ هاتفة: الجزائر مسلمة، الجزائر جزائرية. حيث خرجت مختلف الشرائح في تجمعات شعبية في الساحات العمومية عبر المدن الجزائرية كلها، ففي الجزائر العاصمة عرفت ساحة الورشات كما كان يطلق عليها إبان ثورة التحرير (أول ماي) كثافة شعبية متماسكة مجندة وراء العلم الوطني وشعارات الاستقلال وحياة جبهة التحرير الوطني. دامت المظاهرات لأزيد من أسبوع ، شملت وهران قسنطينة، عنابة، سيدي بلعباس، عين تموشنت الشلف، البليدة، بجاية، تيبازة وغيرها من المدن والقرى .. بينت ـ هذه المظاهرات ـ كلها بفعل، الصدى الذي أحدثته على أكثر من صعيد حالة الارتباك التي أصابت الاستعمار، وعن مدى إصرار الشعب الجزائري على افتكاك السيادة المسلوبة، وجاء ردّ فعل السلطات الفرنسية قويا تجاه المظاهرات، إذ قابل الجيش الفرنسي الجموع الجزائرية بالدبابات والمدافع والرشاشات وأمطروهم بنيران القنابل، وأطلقوا عليهم الرصاص، كما قامت الشرطة الفرنسية بمداهمات ليلية لاختطاف الجزائريين من منازلهم، والإغارة على المواطنين وهم يوارون شهدائهم، كما هو الحال في مقبرة القَطّار وسيدي أمحمد، مما زاد في عدد القتلى، بالإضافة إلى سلسلة الاعتقالات التي مست عددا كبيرا من الجزائريين.." . ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ..)،(إبراهيم:42). (..وَيمكُرُونَ وَيَمكُرُ الله ُوَالله ُخَيرُ الماكِرِينَ)، (الأنفال:30).
فلقد كان وقع هذه الظاهرات على المستوى الخارجي كبيرا، حيث كشفت للعالم حقيقة الاستعمار الفرنسي ووجهه الإجرامي، كما أكسبت هذه الأحداث جبهة التحرير الوطني دعما دوليا واسعا، حيث اقتنعت هيئة الأمم المتحدة بإدراج ملف القضية الجزائرية في جدول أعمالها وصوتت اللجنة السياسية للجمعية العامة لصالح القضية الجزائرية ورفضت المبررات الفرنسية التي كانت تهدف إلى تضليل الرأي العام العالمي.
بل أجمع المؤرخون والمهتمون بالثورة التحريرية الجزائرية على أن أحداث 11 ديسمبر 1960 كانت إحدى المنعرجات الحاسمة في الانتفاضة المسلحة للشعب الجزائري ضد المستعمر الفرنسي، نقلت المواجهات من الجبال إلى المدن والشوارع وأثبتت للجنرال ديغول وللمعمرين الفرنسيين أن الجزائر لم تكن يوما فرنسية ولن تكون أبدا تابعة لها.
أيها المسلمون: إن أيام الجزائر وقصة َاستقلالها قصةٌ طويلة الفصول، حزينة الأحداث، تجمع بين البطولة والمأساة، بين الظلم والمقاومة، بين القهر والاستعمار، بين الحرية وطلب الاستقلال، كان أبطال هذه القصة الفريدة أكثر من مليون شهيد، وملايين اليتامى والثكالى والأرامل، وكتبت أحداثها بدماء قانية غزيرة، أهرقت في ميادين المقاومة، وفي المساجد، وفي الجبال الوعرة، حيث كان الأحرار هناك يقاومون .
أيها المسلمون: إن مظاهرات 11 ديسمبر 1960ـ كانت فصل الخطاب في زمن الارتياب لميلاد نوفمبر الحقيقة والأسطورة. وأظهرت الصورة التي كانت تغيبها فرنسا الاستعمارية عن الشعب الجزائري في التلاحم والاتحاد لنصرة قضيته التي رسمها نوفمبر الثورة بريشة الجهاد، وبمداد دم الشهداء، جوهرها الصدق والإيمان، والوفاء للوطن.
إن ذكرى 11 ديسمبر 1960 ذكرى خالدة في سجل إنجازات هذا الشعب الأبيّ الذي جسَّد روح التضامن والوحدة، وعبَّر بصدق للعالم أجمع عن مطلبه السامي لحرية وطنه،مدركا أن لا بديل عن الاستقلال غير الفعل الثوري، والصبر على المكاره ورفع التحديات، والسمو بالهمّة إلى مستوى الوعي التاريخي. كان نشيده:
نحن جند في سبيل الحق ثرنا وإلى استقلالنا بالحرب قمنا
لم يكن يصغى لنا لما نطقنا فاتخذنا رنة البارود وزنا
وعزفنا نغمة الرشاش لحنا وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا
لم يكن يصغى لنا لما نطقنا فاتخذنا رنة البارود وزنا
وعزفنا نغمة الرشاش لحنا وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب فاستعدي وخذي منا الجواب
ان في ثورتنا فصل الخطاب وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب فاستعدي وخذي منا الجواب
ان في ثورتنا فصل الخطاب وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا
وإذا كنا ـ أيها المسلمون ـ نحيي اليوم هذه الذكرى، فإننا نهدف إلى استلهام العبر من سيرة الأبطال الذين وهبوا أنفسهم في سبيل الله والوطن، رجال لم تُغرهِمْ زخارف الدنيا ولا بريق المناصب ولا كسب الأموال، فتحدّوا الصعاب وخاضوا معركة الشرف والكرامة فكتبت لهم الشهادة، فهم في أعلى عليِّين. "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".
فإلى الله نتوجَّه بالشكر على ما أنعم به علينا من تخليصنا من أنياب شيطان الإستعمار، وأعاد أرض الإسلام إلى أمَّة الإسلام، ونستنزل من رحمات الله الصيِّبة، وصلواته الزكيَّة الطيبَّة، لشهدائنا الأبرار. فاللهم ارحمهم ووفقنا للسير على طريقهم يارب العالمين.
أقول قولي هذا.
الخطــبة الثانــية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصالحين. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الأمين. اللهم صل وسلم على هذا النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: إن مظاهرات 11 من ديسمبر تمثل ذكرى ناصعة, وإنها لمن أيام الله في تاريخ الشعب الجزائري, الذي قدَّم أغلى ما يملك من أبنائه في سبيل الله والعقيدة والوطن. فالتاريخ هو ذاكرة الشعوب والأمم. وهو النافذة التي تَظَلُّ على مر العصور والدهور لتروي الحقائق والوقائع والأحداث التي مرت على الأجيال، وهو المرآة العاكسة للرصيد الحضاري والمعرفي للمجتمعات، لذلك فقد ظلت كل المحاولات الهادفة إلى طمس تاريخ الشعوب هنا وهناك. رهينة الفشل، وسرعان ما عادت أدراجَها تجرُّ وراءها أذيال الخيبة والخُسران. فالشعب الجزائري يذكر تلك الأيام التي آل فيها على نفسه أن يكتب صفحات مجيدة في تاريخه الحافل بالبطولات والتضحيات الجسام, من أجل انتزاع حقه في الحرية والسيادة الوطنية، فيُحيي في كل عام جهاد أولئك الأبطال المجاهدين، الذين وقفوا ضد الإستدمار وهم عزَّل، لا يملكون إلا إيمانهم بالله تعالى، وهو سلاح فتاك. وأظهروا للعالم أنهم مرابطون مجاهدون حتى يسترجعوا وطنهم وحقوقهم التي ينعم بها العدو في بلادهم ومزارعهم، وحقق الله وعده للمستضعفين، وحرّرهم من ظلم الإستدمار والعبودية، وأذهب عنهم الخوف ليعبدوه لا يشركون به شيئا.
أيها المسلمون: إن ذكرى هذه المظاهرات ـ وما لحقها من أحداث هي من أيام الله فينا، وإنها بعض ما امتن الله تعالى به على الجزائريين من نعمة الحرية والإستقلال من استدمار طويل اغتصب الأرض وأذلّ الشعب, ما هو حري بهم أن يذعنوا بالطاعة والإنقياد لله تعالى والإخلاص له بالعبادة، قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما أستخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا}.
فما أحوجنا في أزمنة هذه الأحداث الجسام التي تعصف بأمتنا المسلمة هنا وهناك، إلى أن نذكِّر أنفسنا ونذكِّر الناس بأيام الله، فالتذكر والتذكير في القرآن قضية ملحة تهزّ عقول البشر هزا عنيفا ، وتزيح أستار الغفلة التي تلقيها عليها بين الحين والحين نوازع النفوس الآثمة ومغريات الحياة ، وذلك ليعود للعقل البشري صفاؤه ، لأن تلك السنن سنن الله ولن تجد لها تبديلا ولا تغييرا.
فاتقوا الله تعالى ـ عباد الله ـ واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعمة الإسلام التي لا يعدلها نعمة، تلك النعمة التي ضلّ عنها كثير من الناس وهداكم الله تعالى بمنه إليها، تلك النعمة التي عشتم عليها وعاش عليها آباؤكم، ونعمة الإستقلال والحرية والأمن، فهو سبحانه أنقذكم من استعمار مستدمر جاس خلال الديار بجنوده وعتاده، فخرب الديار وأفسد الأديان والأفكار، اشكروا الله تعالى على هذه النعمة وحافظوا على بقائها واستمرارها، واسألوا الله الثبات عليها. وإياكم إياكم أن تتعرضوا لما يزيلها ويسلبها منكم فتخسروا دنياكم وآخرتكم، واتقوا الله لعلكم تفلحون. قال تعالى:{وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}،إبراهيم7.
اللهم ارحم شهداءنا الأبرار واكتبنا في زمرتهم يارب العالمين. اللهم إنا نسألك عودةً إليك وإلى دينك، تعود بها العزَّة والكرامة، وحكمةً مستمدَّةً من تعاليم الإسلام، تسدِّد الرأي وتثبِّت الأقدام، وألفة تجمع الشمل، ووحدةً تبعث القوَّة، وعزيمةً تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض.اللهم إنا نسألك العون والتوفيق في الأمور كلها، ونسألك اللهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ونسألك ربناالسلامة من حقوق خلقك، والإعانة على أداء حقك، وأن تجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى، وألا تجعلنا من المتعاونين على الإثم والعدوان. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وهيء له البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه. اللهمَ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحّدين، واجعل اللهمّ هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. }}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}