الموضوع: اليوم العالمي للمرأة
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان علمه البيان، وأكرمه بالحياء ليكون من عباد الرحمن، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كـل شـيء قدير، حَيِيٌّ ستِّير يحب الحياء والستر. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المثل الأعلى في الحياء، حتى قيل في وصفه: "أنه كان أشدُّ حياء من العذراء في خدرها". رواه البخاري ومسلم. اللهم صل وسلم وبـارك عليـه، وعلـى آله وأصحابه أهـل الفضل والوفا، وعلى من سار على نهجهم واقتفى، وسلم تسليما.
أما بعد، فقد روى البخاري وغيره عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدريّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ممّا أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
أيها المسلمون: الحياء أصل الأخلاق الكريمة، وأقوى باعث على فـعـل الخـير واجتناب الشر، ولذا كان من تراث الأنبياء، والذي لم ينسخ فيما نسخ من شـرائعهم. تداوله الناس فيما بينهم، وتوارثوه عن الرسل قرنا بعد قرن، واشتهر وتمسك به البشر حتى وصل إلى هذه الأمة.
وهذا الحديث– الذي صدّرنا به هذه الخطبة - انتقاه الإمام النووي رحمه الله في أربعينه. وقال عنه: (وعلى هذا مدار الإسلام)، لأنه – أيها المسلمون- إذا كان معنى الحياء: امتناع النفس عن فعل ما يعاب، وانقباضها عن فعل شيء أو تركه مخافة ما يعقبه من ذم، كان الحياء عاصما من الزلل والعصيان، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم كثيرا ما يرشد إلى هذا الخلق فيقول: "الحياء شعبة من الإيمان". رواه النسائي. ويقول: "الحياء لا يأتي إلا بالخير". رواه البخاري. ويقول "الحياء والإيمان قرناء جميعا". رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين. إنه بهذا يريد منّا أن نجعل هذا الخلق نبراسا لنا في الحياة يضيء أمامنا الطريق، ويأخذ بأيدينا إلى معارج العزّ والسعادة ، فلا خير في الإنسان إذا تعرّى من الفضائل، ولا قـيـمـة له إذا فـقد الحـياء.
إذا لم تـخـش عاقبـة الليـــالي ولم تستح فاصنع ما تشاء
فـلا والله ما فـي العـيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحـياء
يعــيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بـقي اللّحاء
أيها المسلمون: لقد كانت المرأة تتزين بالحياء، وتشارك الرجل في إعمار الأرض وتربية الأجيال، بطهارة الفطرة الأنثوية السليمة، كما أشار القرآن إلى ذلك في قوله عن إحدى ابنتي الرجل الصالح، عندما جاءت تدعو موسى عليه السلام، قال تعالى: "فجاءته إحداهما تمشي على استحياء، قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا"، فهي جاءت بتكليف من أبيها، تمشي مشية الفتاة الطاهرة العفيفة، في غير ما تبذّل ولا تبرّج ولا تبجّح.
لكن المتلفّت إلى واقعنا يرى ظواهر كثيرة، تفشت بين بنات المسلمين وزوجاتهم اللاتي جرين وراء التقليد الأعمى، وانخرطن في تيار الإباحية دون وازع من دين أو حياء، ولا داعي هنا لذكر الأمثلة ــ ونحن نتحدث عن الحياء- وأصل البلاء كله موت خلقين أساسين: الغيرة والحياء، الغيرة في الرجل. والحياء في المرأة.
وفـي هذا المقام، أذكر قصتين تاريخيتين خالدتين ليعرف أهل الحمـية والغيرة والحياء من الرجال والنساء، أخلاق السلف الصالح رضوان الله عليهم، وهذه هدية منّي إلى المرأة في يوم عيدها.
القصة الأولى: "جلس موسى بن إسحاق قاضي الريّ والأهواز في القرن الثالث الهجري. ينظر في قضايا الناس، وكان بين المتقاضيين امرأة ادّعت على زوجها أن عليه خمسمائة دينار مهرا لها، فأنكر الزوج أن لها في ذمته شيئا، فقال له القاضي: هات شهودك؟. فقال: قد أحضرتهم. فاستدعى أحدهم: وقال له: أنظر إلى الزوجة لتشير إليها في شهادتك، فقام الشاهد، وقال للزوجة: قومي. فقال الزوج: وما تريدون منها؟. فقيل له: لابدّ أن ينظر الشاهد إلى امرأتك وهي مسفرة، لتصح عنده معرفته بها، فكره الرجل أن تضطرّ زوجته إلى الكشف عن وجهها أمام الناس، فصاح: إني أُشهد القاضي على أن لزوجتي في ذمتي هذا المهر الذي تدّعيه، ولا تسفر عن وجهها، فلما سمعت الزوجة ذلك، أكبرت في رَجُلها أنه يضِنّ بوجهها على رؤية الشهود، وأنه يصونها من أعين الناس، فصاحت تقول للقاضي: إني أشهدك، أني قد وهبت له هذا المهر، وأبرأته منه في الدنيا والآخرة .
فقال القاضي لمن حوله: اكتبوا هذا في مكارم الأخلاق". (ابن عساكر وابن منظور في تاريخيهما).
أما القصة الثانية: فهي قصة الزبير بن العوام، مع زوجته عاتكة بنت زيد بن عمر بن قيس، وكانت امرأة جميلة، وكان الزبير يغار عليها، وكانت تحرص على أن تصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم، فأراد الزبير بحكم الغيرة أن يمنعها من الصلاة، فقالت له: كيف تمنعني. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"؟. فاضطرّ أن يأذن لها في الخروج إلى الصلاة، لكنه ترصد لها ذات صباح وهي سائرة في الطريق، فلما مرت أمامه وقد اختبأ، جاء فلمس جزءا من ظهرها بيده، فما كان منها إلا أن استغفرت واستعاذت واسترجعت ثم عادت من الطريق إلى البيت، ولم تذهب إلى المسجد، وانتظر الزبير يوما ويومين فوجدها لا تخرج، فقال لها: لم لا تخرجين إلى الصلاة في المسجد كما كنت تخرجين يا عاتكة؟، فقالت له: لقد فسد الناس". (الإصابة لابن حجر العسقلاني).
فيا أيتها المؤمنات، هذه هديتي إليكنّ، فاتقين الله تعالى، وامتثلـن أمـره تفلـحـن، واجتنبن نواهيه تسعدن.
نفـعـني الله وإيـاكن وجميع المسلمين بالقرآن الكريم، و هدي سيد المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأخيرا – أيها المسلمون – أردّد مع الشاعر حافظ إبراهيم قوله:
أنا لا أقول دعوا النـسـاء سوافرا بـيـن الرجــــال يـجلن في الأسواق
يدرُجن حيـث أردن لا من وازع يحــذرن رِقـبــــــــــــــــــــــــــــــــته ولا من واق
يفـعـلـن أفعـال الرجال لواهــــــيا عـن واجبات نواعس الأحــداق
في دُورهن شـؤونهـن كثـــــــــــــــــــــيـرة كشـؤون ربّ السيف والمـِزراق
كلا، و لا أدعـوكـم أن تســـــرفوا في الحجب و التضييق والإرهـاق
ليست نساؤكم أثـاثــا يُقـتـــــــــــــنى في الدُّور بين مخــــــــــادع و طــباق
تتشكل الأزمــــــــــــــــــــان فـي أدوارهـا دولا، وهن على الجــــــــمود بـواق
فتوسطوا في الحالتين و أنصـفو فالشرُّ في الـتـقــــييد والإطـــــــلاق
ربوا البنات على الفضيلة إنـهـا في الموقفـــــــين لـهنّ خـــــــــيـر وثاق
وعلـيـكـم أن تسـتبين بناتـــكم نور الهـــــدي و على الحياء البـاقي
فاتقوا الله أيها المسلمون، وإن شئتم أن تسعدوا في بيوتكم بالأنس والسرور، وفي أوطانكم بالحرية والأمن والهدوء، وفي قبوركم بالرحمة والثناء الجميل، فسوسوا نساءكم وبناتكم إلى حظيرة الدين .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون". التحريم:6.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وجنبنا اتباعه، اللهم احفظنا في أنفسنا وفي زوجاتنا وأبنائنا وبناتنا، فأنت خير الحافظين. اللهم أصلح نساء المسلمين، وجنّبهن التبرج والسفور، اللهم جنّبهن منكرات الأخلاق والأسواق والأفـراح والأقراح، واجعلهن من المسلمات القانتات يا رب العالمين، اللـهـم وأصلح أحوال المسلمين أجمعين. واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك و رسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: اليوم العالمي للإيدز "السيدا"
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، ألهم كل نفس هداها، "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"، الشمس:9ـ10. أحمده سبحانه، يذل العصاة، فلا عزة لمن أذله، ويعز المتقين، فلا ذل لمن أعزه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ما من خير إلا بينه لنا وأرشدنا إلى فعله، وما من شر إلا بينه لنا وحذرنا منه. فاللهم صل وسلم بارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيا عباد الله: لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم مثلا لشفقته على أمته، بالحرص على هدايتها، والحيلولة بين ما يهلكها ويوردها موارد التلف.
لقد ضرب المثل لذلك برجل استوقد نارا، فلما أضاءت، أخذ الفراش وصغار الحشرات يتهافتن عليها. فجعل الرجل يمنعهن شفقة عليهن من الحريق والتلف، ولكنهن يأبين إلا التهافت عليها والاصطلاء بحرها والوقوع فيها.
يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا، جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ، يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَه، فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ. أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ، هَلُمَّ عَنْ النَّار، هَلُمَّ عَنْ النَّار.ِ فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا". رواه البخاري ومسلم.
وأي نار – يا عباد الله- وربنا يقول: "ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا". الإسراء:32. ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله". رواه الطبراني والحاكم".
أيها المسلمون: إن جميع النصوص الإسلامية تفيد أن من مقاصد الزواج في تشريع الإسلام، تحصين الزوجين من الفساد السلوكي المترتب على الإباحية الجنسية، فان المتزوج تقنع نفسه غالبا بما أحل الله، ولا يتعدى حدوده بانتهاك المحرمات، فإن "من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه".
والإسلام يعطي للفرد المسلم الحق في أن يمارس النشاط الجنسي كاملا في الزواج، ويعتبر ذلك عملا يؤجر عليه الزوجان، قال صلى الله عليه و سلم: "وفي بضع أحدكم صدقة". رواه ابن حبان.
ولقد نص القرآن نصا جامعا على حصر النشاط الجنسي في الزواج، واعتبار كل نشاط خارجه محرّما، قال تعالى: "والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون". المؤمنون:5ـ7.
ولعلكم تدركون- أيها المسلمون- أن المجتمعات التي أباحت العلاقات الجنسية غير الشرعية بين أفرادها، تدفع اليوم ثمنا باهظا لما أباحته من سلوكيات حيوانية، وخروج عن الفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها.
وما مرض" السيدا" – الايدز- إلا مظهر من مظاهر المعصية والبعد عن الله.
فيا عباد الله: يجب عليكم أن تعرفوا أن المولى عز وجل خلق لدينا جهازا يسمى "الجهاز المناعي"، وهذا الجهاز له وظيفة أساسية، هي: مقاومة الأمراض المعدية التي تهدد الجسم. وفيروس"السيدا" يهاجم أساسا خلايا الجهاز المناعي التي تدافع عن جسم الإنسان من أنواع العدوى المختلفة، وأنواعا من السرطانات، فإذا احتُجزت هذه الخلايا عن حماية الجسم، فإن الإنسان يفقد القدرة على مقاومة الكائنات المعدية والسرطانات، وبالتالي تكون الأمراض المتسببة من هذه الكائنات والأورام هي السبب المباشر في القضاء على المريض، وصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم، إذ يقول: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي تكن مضت في إسلافهم الذين مضوا". رواه ابن ماجة. وصدق الله إذ يقول: "ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكا". طه:124.
أيها المسلمون: وهل هناك معيشة أكثر شقاوة وضنكا من إنسان فقد قدرته على الدفاع الذاتي، واستسلم جسمه لمختلف الأمراض والأوجاع؟. في الصحيحين في خطبته صلـى الله عليـه وسلم في صلاة الكسوف أنـه قال: "يا أمّة محمد، والله لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد، والله لو تعلمنّ ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا". ثــم رفع يديــه وقال: "اللهم هل بلّغت".
أيها المسلمون: في ذكره صلى الله عليه وسلم الزنا عقب صلاة الكسوف، سر بديع لمن تأمله، فظهور الزنا من أمارات خراب العالم، وهو من أشراط الساعة. كما في الصحيحين عن أنس بن مالك أنه قال: "لأحدثنّكم حديثا لا يحدثكم أحد بعدي، سمعت رسول صلى الله عليه و سلم يقول: "من أشراط الساعة، أن يقل العلم، ويكثر الجهل، ويظهر الزنا، ويقل الرجال، وتكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة، القيّم الواحد".
ولقد جرت سنة الله في خلقه، أنه عند ظهور الزنا يغضب، ويشتدّ غضبه، ولابدّ أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا أذن الله بهلاكها".
و إنكم– يا عباد الله- تقرأون في القرآن الكريم، كيف عاقب الله أصحاب الشذوذ الجنسي في العصر القديم– قوم لوط– كان عقابهم أن قلب الله مدنهم وبلادهم، فجعل عاليها سافلها. فكما انقلب هؤلاء في علاقتهم الجنسية، انقلبت عليهم دورهم و بلادهم جزاء وفاقا.
ولقد قرّب الله مسافة العذاب بين هذه الأمة، وبين إخوانهم في العمل، فقال: "وما هي من الظالمين من بعيد".
ولقد قرّب الله مسافة العذاب بين هذه الأمة، وبين إخوانهم في العمل، فقال: "وما هي من الظالمين من بعيد".
فاتقوا الله -عباد الله- واعملوا جاهدين بمرضاته، وحذار من المعاصي، وإن زلّت بكم القدم فبادروا بالتوبة الصادقة قبل فوات الأوان، "فكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون". قال تعالى: "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فانه الله يتوب عليه".
أقو ل ما تسمعون، وأستغفر الله لي و لكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فقد روى الإمام أحمد بإسناد جيّد عن أبي أمامة، أن غلاما شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله: أتأذن لي في الزنا؟، فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم.. قربوه ..أدن.. فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: أتحبه لأمك؟، قال: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟، قال: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟، قال: لا ،جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، ثم ذكر العمة والخالة، وهو يقول في كل واحدة، لا جعلني الله فداك. فوضع رسول صلى الله عليه و سلم يده على صدره وقال: "اللهم طهّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه". فقام من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس شيء أبغض إليه من الزنا".
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واحذروا سبل الهوى. ولا تتبعوا خطوات الشيطان. "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير". فاطر:6. واتقوا ربكم، والتزموا في هذه الحياة نهجا يصلح الله لكم به الدين والدنيا معا. وتذكروا على الدوام قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "احفظ الله يحفظك".
فاللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتّعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدا ما أحييتنا، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، وقنا الزلازل والمحن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم ووفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى وجميع المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. آمين ..
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: اليوم العالمي للبيئة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وجعل في ذلك من المصالح العظيمة، والحكم البالغة ما تتقاصر دونه فهوم ذوي الأفهام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس العلاّم. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأنام ومصباح الظلام. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ما تعاقبت الليالي والأيام، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى وتفكروا في آياته، وما خلقه في السموات والأرض، فإن في ذلك لآيات لقوم يوقنون. واحذروا أسباب سخطه وعقابه، وتوبوا إليه بالرجوع عن معصيته إلى طاعته، وعن أسباب سخطه إلى مرضاته، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
عباد الله: إنكم تعلمون أن البشرية تواجه في هذه الأيام محنة عسيرة، وعليها أن تجد سبيلا إلى الخلاص منها. وهذه المشكلة تهدّد الجنس البشري، وتهدّد الكائنات الحية والنباتات. إنها مشكلة تلوث البيئة، والتي برزت على مسرح الأحداث، وظهرت نتيجة التقدم التكنولوجي والصناعي والحضاري للإنسان، وتتفاقم المشكلة مع محاولات الإنسان المستمرة وجهده الدؤوب في البحث عن وسائل جديدة للراحة والرفاهية والمدنية. وهو من أجل ذلك يلجأ إلى الإتساع في التصنيع، وإلى مكننة الزراعة، واستخدام الأسمدة والمبيدات الكيميائية، وهذا يؤدي بدوره إلى مزيد من المخلّفات والموادّ الغير مرغوب فيها، والتي يتمّ التخلص منها، إما بدفنها في الأرض أو إغراقها في البحر، أو بنفثها في الجو. قال تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون". الروم:41.
عباد الله: هذه الآية تشير بوضوح وجلاءإلى أن التلوث الذي يفسد البر والبحر نتيجة لعمل الإنسان من تدخله في الكون، وتشير أيضا إلى الضرر الذي يحل به من جراء عمله. ذلك الضرر الذي يذوقه الإنسان رغما عنه، والذي دفعه إلى ذلك هو جهله بنواميس الكون، إنه بتدخله غير المدروس في تغيير نظام البيئة، يدفع نفسه إلى التهلكة، والقرآن الكريم ينهى عن ذلك.
هذا وقد حفل القرآن بآيات كثيرة، تتحدث عن الفساد الذي يحدثه الإنسان في الأرض من معصية وكفر، أو من جور وظلم، وانتهاك الإنسان لحقوق أخيه الإنسان، أو التلوث الذي يحدثه الإنسان بالأرض، يقول جلّ وعلا : "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون". النحل:88. وقال سبحانه: "وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد". البقرة:305.
فالفساد في الأرض– يا عباد الله– قد يكون ماديا بتخريب عامرها وتلويث طاهرها وإهلاك أحيائها وإتلاف طيباتها أو تفويت منفعتها، وقد يكون بإشاعة الظلم ونشر الباطل وتقوية الشر وتلويث الضمائر وتضليل العقول. وكلاهما شرّ يبغضه الله ولا يحب أهله، ولذا تكرر في القرآن الكريم: "والله لا يحب المفسدين"، "والله لا يحب الفساد ".
أيها المسلمون: أصبحت قضية البيئة ـ بمشكلاتها المتعددة، بدءا من تلوثها واستنزاف مواردها، وصولا إلى الإخلال بتوازنها حديث العالم كله، حتى قال بعض الباحثين: "لو كان للبيئة لسان ينطق، لصكّت أسماعنا صرخات الغابات التي تحرق عمدا في كل مكان، وأنين المياه التي تخنقها بقع الزيت في البحار وفي كل مكان، وحشرجة الهواء المختنق بالغازات" .
عباد الله: إن البيئة خلقت مهيأة لتحقيق مصلحة الإنسان وتوفير حاجاته، وإن الله تعالى خلقها بطريقة تفرض عليها أن تتكامل وتتعاون مع بعضها البعض، ومن ثمّ فالحفاظ على أن يؤدي كل من مكونات البيئة دوره المنوط به يعتبر أمرا شرعيا، وذلك حتى لا يحدث أي خلل في الكون.
ولقد تحدث القرآن الكريم عن مشكلة تلوث البيئة قبل وقوعها بنحو أربعة عشر قرنا، وأشار إلى أنها ستكون نتيجة لما تصنعه يد الإنسان من حدوث اضطراب في توازن المواد والأحياء على الأرض. ولقد خلق الله عز وجل لنا جميع موارد الحياة وجعلها أمانة في أيدينا. وقال تعالى: "و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها..". الأعراف:56. فالحفاظ على البيئة واجب ديني يفرضه الله تعالى، لقد طالب الإسلام الإنسان أن يتعامل مع البيئة من منطلق أنها ملكية عامة يجب المحافظة عليها، من ثروات وموارد ومكونات حتى يستمر الوجود. قال تعالى: "ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب". البقرة:211. و تلوث البيئة صورة من صور الإفساد والضرر والتبديل لأنعم الله، قال تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون". الروم:41.
يبين - سبحانه - أن الفساد سينتاب البر والبحر، وأن الإنسان هو السبب الرئيسي في حدوثه، وهو المتضرر الأول منه، فقد سخر الله كل ما في البيئة لخدمة الإنسان، ومن ثمّ فأيّ ضرر يحيق بمكونات البيئة وما فيها من مخلوقات سينعكس بدوره سلبا على الإنسان نفسه. قال تعالى: "كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين". البقرة:60. فالإنسان مطالب بعدم الفساد في الأرض، لأن ذلك يؤثر في رزقه من المآكل والمشارب، فلا يجوز للإنسان إفساد البيئة بإخراجها عن طبيعتها الملائمة لحياة الإنسان وقراره فيها. كما لا يجوز استثمار تلك المواد أو الإنتفاع بها بشكل غير رشيد، يفسد أقواتها ومواردها ويعرضها للتلف والتشويه. والأمثلة كثيرة كقطع الأشجار، وتغوير الأنهار، والتلوث بكافة صوره. يعد ضربا من ضروب الفساد، فهو يؤدي إلى إزهاق الأرواح وإهلاك الكثير دون جرم أو جناية . قال تعالى: "ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين". وقال تعالى: "فانظر كيف كان عاقبة المفسدين".
لقد درج الإنسان على التعامل مع البيئة بأنانية، وأخذ يعبث في مقومات الحياة، فلوّث الماء الذي يشربه، وأفسد الهواء الذي يتنفسه، وأهلك الحرث والنسل بالكيماويات والسموم، وتسبب في خبث التربة الزراعية فلم تعد تنبت إلا نكدا.
قال تعالى: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها". يعني أن الله خلق الأرض صالحة مهيّأة لتنبت للإنسان وتعطيه ما يحتاج إليه. كما قال تعالى: "و بارك فيها وقدّر فيها أقواتها"، سبحانه حينما خلق الأرض بارك فيها وقدر فيها أقواتها، فنحن نأتي لنفسد في هذه الأرض، ونفسد تربة الأرض، ونفسد الماء ونفسد الهواء، نفسد كل شيء، فنحن للأسف لا نشكر النعمة، بل نكفرها. وقد قال سبحانه: "ولئن كفرتم إن عذابي شديد"، يعني ولئن كفرتم بالنعمة ولم تؤدوا حقها، إن عذابي لشديد .
وفقني الله وإياكم لفهم كتابه والعمل به والشكر لأنعمه. وجنبنا الزيغ والزلل في القول والعمل. أقول قولي ..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أظهر لعباده من آياته دليلا، وهدى من شاء من خلقه فاتخذ ذلك عبرة، وابتغى إلى نجاته سبيلا . وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، المتفرد بالخلق والتدبير جملة وتفصيلا. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أبلغ الخلق بيانا وأصدقهم قيلا. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فاتقوا الله– عباد الله– واخشوا غضبه ونقمته، وتأملوا أحوالكم، وتفكروا في آيات الله في الآفاق وفي أنفسكم لعلكم تهتدون.
أيها المسلمون: إن كثيرا من الآيات تحذرنا من نهاية بائسة، يوقع فيها الإنسان نفسه نتيجة ما تقدم يداه من سيئات الأعمال، وهذا هو الكفران بالنعمة الذي يؤدي إلى زوالها. ويوجب لفاعله العقوبة من واهب النعم سبحانه، فكل من كفر بأنعم الله استحق عذابه جزاء وفاقا، قال تعالى: "ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد".
ولقد أشار القرآن إلى قرية تغيّر حالها من سعادة إلى شقاوة، ومن أمن إلى خوف، ومن سعة إلى ضيق، بسبب هذا الكفران. قال تعالى: "وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون". النحل:113.
و مثل هذه القرية: القوم الذين أشار إليهم القرآن في سورة أخرى، إذ قال سبحانه: "ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار..". إبراهيم:28. ولقد سمعتم نبأ قوم سبإ، أولئك الذين أنعم الله عليهم بأنواع النعم، ولكنهم قابلوها بالكفران، فكان جزاؤهم هلاكهم وحرمانهم، قال تعالى: "لقد كان لسبأ.... ". الآيات 15_19من سورة سبأ
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإسلام جعل حماية البيئة والنهي عن إفسادها واجبا من واجبات المجتمع الفاضل، فقال سبحانه: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم...". هود:116. وإن نبيّكم–صلى الله عليه وسلم- هو أول من أنشأ محميات بيئية، لا يجوز قطع شجرها ولا قتل حيواناتها. فقد حمى صلى الله عليه وسلم كل ناحية المدينة بريدا بريدا، فقد جاء في الحديث الذي رواه البيهقي في السنن: "لا ينفّر صيدها ولا يختلى شوكها ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد". بل أنشأ صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن نسمّيه اليوم أول وزارة زراعة في الدولة، يوم أن كلّف طلحة بن عبيد أن يحفر الآبار بالمدينة، وبالفعل فقد حفر فيها أربعة وخمسين بئرا. وكان صلى الله عليه وسلم يحث على زراعة الأرض والإستفادة من عطائها، يقول فيما رواه البخاري: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة ".
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على بيئتكم ومحيطكم، وصححوا أخطاءكم، واشكروا ربكم على أن أسكنكم هذه الديار وفضلكم على كثير من خلقه تكرما وإحسانا، واستغفروه إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين و يجعل لكم جنات و يجعل لكم أنهارا.
اللهم ألهمنا شكرك وذكرك وحسن عبادتك يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، واجعلنا من عبادك الشاكرين. اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولمن قلدته أمرنا ولجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}}
الموضوع: اليوم العالمي للعمال
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثـيـرا.
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأعلموا أنه سبحانه وتعالى لم يخلقكم عبثا، ولن يترككم سدى، إنما خلقكم لحكمة بالغة، وشرع لكم شرائع كاملة، ليبلوكم أيكم أحسن عملا.
أيـها المسلمون: إن الله سبحانه خلق الـخلق لغاية عظيمة، وهي عبادته سبحانه وتعالى، والتي من أجلها أرسل الرسل وأنزل الكتب، قال تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون". الأنبياء:25. وقال تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". الذاريات:56.
والعبادة تشمل الدين والحياة والإنسان كله ظاهره وباطنه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضـاه مـن الأقـوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والإحسان إلى الجار وأمثال ذلك من العبادة ".
وبهذا البيان تتضح لنا حقيقة هامة، لا يزال يجهلها كثير من الناس، فبعض الناس لا يفهم من كلمة العبادة إذا ذكرت إلاّ الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة ونحو ذلك من الأدعية والأذكار، ولا يحسب أن لها علاقة بالأخلاق والآداب والمعاملات.
أيها المسلمون: إن ميدان العبادة في الإسلام رحب فسيح، فالمباحات إذا صاحبتها نـية صالـحة صار العمل بها من محاسن القربات، ونال صاحبها معالي الدرجات .
ومـا أعظـم حسرة من يغفل هذا الباب العظيم. ولا يحوّل عاداته وتصرفاته ووظيفته إلى عبادة يؤجر عليها عند ربه!، فإن آداب الأكل والشرب وقضاء الحاجة وشؤون المعاملات، كل ذلك من العبادة إذا قارنته نية صالحة، قال الإمام ابن القيم رحمة الله عليه: "يثاب المؤمن على كل ما يلتذّ به من المباحات إذا قصد به الإعانة والتوصل إلى لذة الآخرة ونعيمها، قال صلى الله عليه وسلم: "وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟. قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟. قالوا: نعم. قال: "كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". رواه الإمام مسلم وغيره.
عباد الله: إن المؤمن الكيّس الفطن، هو الذي يحول عاداته التي يقوم بها إلى عبادات يجعلها في ميزان حسناته، فليست الصلاة والصيام أو الذكر والدعاء، هي التي تكتب له عبادة في يومك فقط، بل تستطيع أن تضيف إلى ميزان عبادتك وحسناتك خيرات كثيرة، لها ثقلها وقيمتها في تقدير الحق تبارك وتعالى، وإن بدت عنـدك هيـنـة خفـيـفة، وتعالوا لنسمع هذه القصة :
ذات يوم كان رسول صلى الله عليه و سلم يجلس مع نفر من أصحابه، ومر بهم رجل يتفجر نشاطا وعافية، يسرع الخطى نحو غايته وعمله، و بهـر جـلـده و نشاطه و حيويته بعض الأصحاب، فقال قائلهم متعجبا: يا رسول الله: لو كان هذا في سبيل الله؟. فقال صلى الله عليه و سلم: "إن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان".
أيها المسلمون: إن العمل ليس بظاهره ، بل ببواعثه وغايته ، فالأعمال الدنيوية الـتي يقوم بها الإنسان لمعيشته، والسعي على نفسه وأهله يمكنه أن يحوّلها إلى باب من أبـواب العـبـادة والقـربة إلـى الله، ذلك إذا توفرت شروط خمسة:
أولها: أن يكون هذا العمل مشروعا في ذاته، فلا يسمّى الغش عبادة، ولا سرقة أموال الناس عبادة، ولا بيع الخمر عبادة.
ثانيها: أن تصحبه النية الصالحة، ونية المسلم إعفاف نفسه وإغناء أسرته ونفع أمته وعمارة الأرض كما أمر الله.
ثالثها: أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان، فإن"الله عز وجل يحب إذا عمل أحد عملا أن يتقنه". رواه الطبراني.
رابعها: أن يلتزم فيه حدود الله، فلا يظلم ولا يخون ولا يغش، ولا يتعدى على حق غيره.
خامسها: أن لا يشغله عمله الدنيوي عن واجباته الدينية، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون". المنافقون: 9.
فاتقوا الله– عباد الله– واسألوا الله صلاح الدنيا وحسن العاقبة في الأخرى، فصلاح الدين والدنيا وحسن العاقبة في الأخرى غاية أمل المتقين، ومحطّ رجاء الصالحين، كما أخبر بذلك رب العالمين عند المقارنة بين مطلب المنحرفـين والمهتدين، قال تعالى: "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب". البقرة:200 ـ202.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه... أقول قولي...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين. وأشهد أن محـمدا عبـده ورسوله الأمين، صلى الله علـيه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيا عباد الله: إن نبينا الذي دأبه النسك والعبادة، والذي يحمل راية دين، لا يعرف الدنيا إلا معبرا للآخرة، يحفل بالعمل ويحتفي به حفاوة تكاد تجعله، بل تجعله نسكا وعبادة وفريضة من فرائض الدين، أليس هو الذي يقول: "إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها". رواه الإمام أحمد.
هاتوا كل ما كتب فلاسفة البشر وعباقرتهم عن توكيد الأمل، وتقديس العمل في الحياة، فلن تجدوا مثل هذا الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أبدا.
وحين يلقى- صلى الله عليه وسلم - واحدا من أصحابه ذات يوم، ولا يكاد يصافحه حتى يجد في كفه خشونة غير مألوفة، فيسأله الرسول: ما بال كفيك قد أمجلتا؟. فيجيبه الصحابي: من أثر العمل يا رسول الله، فيرفع الرسول كفيه على ملإ من أصحابه، ثم يقبلهما و يلوّح بهما كأنهما راية، ويقول مباهيـا بـهـمـا ومطريا لهما: " كفان يحبهما الله ورسوله".
بـل إن رسـول الله - صلى الله عليه و سلم - بشّر كل كادح عامل بمغفرة الله ورضوانه، قال صلى الله عليه و سلم: "من أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفورا له". رواه الطبراني.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله، اعملوا باتزان واعتدال على وجه مباح، ولا تلهكم أموالكم وأعمالكم عن ذكر الله وطاعته، فقوموا بطاعة الله، واسعوا فـي طلـب رزق الله، على ما أمر الله به، صدقٌ في المعاملة، وأداءٌ للأمـانة، و نصحٌ للخلق، وإخلاصٌ للخالق، وبذلك تدركون الدنيا والآخرة، قال تعالى: "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون". النحل:97.
اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، وهيئ لنا من أمرنا رشدا، اللهم ارزقنا الحلال وبارك لنا فيه، وباعد بيننا وبين الحرام كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم احفظ علينا ديننا وثبتنا عليه إلى الممات، فإنه عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة من كل شر، وألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين. اللـهـم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى، وارزقه البطانة الصـالـحـة التي ترشـده إلى الخير وتعينه عليه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولجميع المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم و سلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.