الموضوع: المسؤولية...
بمناسبة الإنتخابات
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده
ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من
يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما
كثيرا .
أما
بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) جعلني
الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها المسلمون :ذكر
الألباني ـ رحمه الله ـ في سلسلته الصحيحة، وحسنه، أنه صلوات ربي وسلامه عليه قال:
(لا بد من العريف، والعريف في النار)، ومعنى هذا الحديث، أن الناس كي تنجح أعمالهم
وتصلح شؤونهم، لابد لهم من عريف، أي بمفهومنا الآن، مسئول، يشرف عليهم، ويضبط أمرهم،
إذ لا يصلح الأمر فوضى هكذا، لا يمكن أن ينجح أي عمل، إذا كان عاملوه، كل يعمل على
مزاجه وهواه، فلا بد من العريف، ولكن هذا العريف، إذا ضيع مسئوليته، وخان أمانته،
واستغل مكانته، وجعلها لمصالحه الذاتية، ومنافعه الشخصية، فهو والعياذ بالله في
النار. هذا أيها الأخوة معنى الحديث. ( لا بد من العريف والعريف في النار) فشأن
المسؤولية شأن عظيم، ليست هي كما يتصورها بعض الناس، الذين تشرأب لها أعناقهم دون
تفكير في عواقبها، أو تأمل في نتائجها وما يترتب عليها بعد ذلك .
ففي
هذا الحديث وفي غيره من الأحاديث، تحذير لمن بلي بإدارة الناس أو رئاستهم من تبعات
ذلك، وحث لكل مسؤول بأن يكون أهلا للمسؤولية، وإشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى
أنه يوجد، من يتولى شؤون الناس لا ليصلح أمورهم، إنما يحرص على المسؤولية والإدارة
من باب الشهوة الخفية التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتخوف على أمتي
الشرك والشهوة الخفية). وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه يأتي على الناس زمان
يكون فيه بعض المسؤولين غير أهل للمسؤولية، فقد تجد مديرا أو تجد رئيسا تسند إليه
أمور الناس وهو غير كفء لذلك، فيكون بوجوده ضياع الحقوق وتعطيل المصالح، يقول
النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا
ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قال: كيف أضاعتها يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه
وسلم:(إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
عباد
الله: يخطئ كثير من الناس في فهم المسؤولية، فكثير هم الذين يعتبرونها للرفعة
والافتخار، ويتخذونها بوابة للترف والسيطرة والظهور، فغاية أماني أحدهم أن يجلس
على كرسي دوار وطاولة عريضة، قد خط عليها المسؤول فلان فلاني ، يأمر وينهى، ويشار إليه بالبنان، ولهذا
الخطأ في الفهم، صارت المسؤولية محلا للتنافس، وضاعت بين الطمع وضعف الدين .
المسؤولية
ـ أيها الأخوة ـ هي كما أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم المرضعة، وبئست
الفاطمة) نعم المرضعة؛ في هذه الدنيا، لما تجر على صاحبها من المنافع الدنيوية،
ولكن بئست الفاطمة، بالموت الذي يهدم لذتها، وبالسؤال يوم القيامة عن القيام
بواجبها، حينما تؤدى الحقوق وترد المظالم ويحاسب كل مقصر على تقصيره، يقول النبي صلى
الله عليه وسلم : (ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولا، يده
إلى عنقه، فكه بره، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم
القيامة). بئست الفاطمة، حينما يقف أصحاب الشهوات بين يدي الله يسألهم، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه؛ أحفظ ذلك أم
ضيعه؛ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته).
فليعلم
هذا ـ يا عباد الله ـ كل من ضن أن المسؤولية أمر هين، وأنها مجرد أمر ونهي وسيطرة
على مجموعة من الناس، وليعلم ذلك، من أضاع أمانة المسؤولية، وجعلها للسمعة والرياء
ومدارات الناس له، ونظرهم لوجهه وخدمته، وليعلم هذا أيضا من جعلها وسيلة لتحقيق
مآربه، ومن رضي بها، ليتحرر من المسؤولية، ليذهب ويجيء كما يشاء.
ليتق
الله هؤلاء وغيرهم، وليؤدوا أمانة المسؤولية، فإنهم سوف يسألون، فليعدوا لذلك
السؤال جوابا، قبل أن يقع بحقهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليتمنين أقوام
ولّوا هذا الأمر، أنهم خرجوا من الدني، وأنهم لم يلوا شيئا ).
إن
المسؤولية ـ أخوتي في الله ـ أمانة، واستغلالها وعدم تأديتها والتقصير فيها خيانة
من أعظم الخيانات، وقد أمر الله بتأدية الأمانة، وحرم الخيانة فقال تعالى: (إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) وقال: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
إن استغلال
المسؤولية ـلمصلحة ذاتية أو منفعة شخصية جريمة الجرائم، وكبيرة الكبائر، حذر منها
النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بسوء عواقبها وخبث نتائجها، ففي الحديث عن أبي
حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد،
يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقام رسول
الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد: فإني
استعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية
أهديت إلي، أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه، حتى تأتيه هديته إن كان صادقا، والله لا
يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه، إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن
أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر) ثم رفع صلى
الله عليه وسلم يديه حتى رؤيا بياض إبطيه فقال: (اللهم هل بلغت؟). فاتقوا الله
عباد الله، وقوموا بمسؤولياتكم على الوجه المطلوب، فإنكم مسؤولون أمام الله، فأعدوا
للسؤال جوابا وللجواب صوابا، وتذكروا قول نبيكم صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن
شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي؟ أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم
القيامة إلا من عدل) .
أيها المسلمون: ليس
الهدف من حديثي هذا أن نتخلى عن المسؤولية ونبتعد عن إدارة الناس، لا أيها
المسلمون، فالمسؤول الذي يقوم بواجبه ويؤدي أمانته، أجره عند الله عظيم، فيوسف
عليه وعلى نبيتا السلام، عرض نفسه على أن يكون مسؤولا على مالية مصر فقال لعزيزها:
(اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). ولا يعني حديثنا
أن الساحة خلت من الأخيار الذي هم أهل للمسؤولية، لا أيها المسلمون، فهناك من هو قائم
بها على الوجه المطلوب، كما قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). فهم
يعملون على إنجاح أعمالهم، ورعاية شئون رعاياهم، وإدارة أمورهم، مراقبين الله في
ذلك، متبعين لتوجيهات نبيهم، مطيعين لولاة أمرهم. والناس شهود الله في أرضه، كلما
ذكر أحد هؤلاء أثني عليه ودعي له، لا لأنه يعطي الناس من جيبه، وإنما لأنه يحرص
على حقوقهم، ولا يكون سببا في تعطيل مصالحهم، ولأنهم عنده سواسية، لا يحابي قريبا
لقرابته ولا صديقا لصداقته. أعانهم الله، ووفقني وإياهم وإياكم
لصالح العمل لديننا ووطننا، وأسأله
لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة ،والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد
لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا
شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله
عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
وبعد، عباد الله: قال اللهُ تعالى فِي سورة يس: "وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ
يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" (6). ألم يكن فِي تلك
المدينة غير هذا الرّجل؟!. بلى.. ولكنَّهم عجزوا عن مثل هذا الجميل من الفعل،
فأَثنى القرآن الكريم على مؤمن آل (يس)، وخلَّد ذكره، لأَنّه أخلص لوطنه وساكنيه،
وعاش همومَ مواطنيه...
أيها المسلمون: قلت ما سمعتم، لأني أعلم كما تعالمون أن الجزائر تمر الآن
بمرحلة تاريخية حساسة وفارقة في تاريخها الحديث، وهي بمثابة إعادة تأسيسٍ لدورها
الريادي والحضاري في المنطقة العربية والراشدون من أمتنا يعطون لهذه المرحلة أهمية
بالغة، لأنها ستفرز من يشكّل الوجهة الحضارية لمستقبل الجزائر، ومن هنا يفرض علينا
الواجب الديني والوطني والخلقي ضرورة التحلي باليقظة والإيجابية والوعي، والبعد عن
السلبية والهوى والعصبية والعاطفة، حتى يتمّ الله علينا نعمته.
إنِّي أرَى هذِي البلادَ وأهلَها *** عقداً ثميناً لا
يطَالُ بسوءِ ظـنْ
علماؤها.. أمراؤها.. أبناؤها *** جُبِلُوا على حبِّ
العقيدةِ والسُّنَنْ
أقول: إنكم تعيشون الآن فترة مهمة لها ما بعدها، لها من
الأهمية ما يتعدى المصالح الشخصية الضيقة، ولأنه إذا كانت الإنتخابات مُوصِلةً
لأهل الخير إلى موقع التأثير في القرار بما يقتضيه الشرع، فانتخابُكم من التعاون
على البرِّ والتقوى، بل هي من المصالح العامة التي تنفع كلَّ مَن في البلاد. فلا يثبطنّكم أصحاب المصالح،
والمرجفون الذين يُوهِنون قوى الأمة، ويِفُتّون في عضدها، أولئك لا يريدون إلا
الفتنة وتفرق الشمل، قوموا مثنى وفرادى، واختاروا من ترونه كفؤا ليتولى أمركم،
وأزيلوا عوامل الفرقة والتنافر، وكونوا عباد الله إخوانا. فلنتعاون على البر
والتقوى ففي ذلك مصلحتنا جميعًا، فالوطن سفينتنا والجميع على متنها، وهناك مستجدات
ومتغيرات تستوجب وتستلزم من العقلاء وأهل الخير جميعًا الوقوف صفًّا واحدًا
كالبنيان المرصوص حتى لا يتحقّق للأعداء والمرجفون ما يكيدون، وإذا فات الفوت لا
ينفع الصوت، كما يقول المثل.
لنضع أيدينا بأيدي بعض، فإنها فرصة ثمينة إما لنا أو علينا، هي لنا متى أدركنا
وفهمنا حقيقة الانتخاب، وهي علينا جميعًا متى أهملنا وفرطنا وقدمنا مصالح الفرد
والعشيرة على مصالح الأمة والدين والوطن.. إننا لا نريد منكم تحقيق المعجزات، وإن
كان باستطاعتكم إتيانها إن صدقتم في إيمانكم، وإنما نريد منكم على الأقل أن تكونوا
في مستوى الميراث الحضاري الذي خلفه لكم أجدادكم، نريد منكم أن تكونوا إيجابيين
تحبطون كل المخططات التي تحبك ضد بلادكم. كونوا خير خلف لخير سلف، تمسكوا بدينكم،
وحافظوا على تراثكم المجيد، ومجدكم العظيم الذي ورثتموه على أسلافكم. وأعدّوا
ليومكم وغَدِكم ما تؤيّدون به حقكم، وترهبون به عدو الله وعدوكم، ولا تنازعوا
فتفشلوا وتذهب ريحكم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "وقل اعملوا فسيرى الله
عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم
تعملون". التوبة:105
اللهم إنا نسألك العون والتوفيق في الأمور كلها،
ونسألك اللهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ونسألك ربناالسلامة من حقوق خلقك،
والإعانة على أداء حقك، وأن تجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى، وألا تجعلنا
من المتعاونين على الإثم والعدوان. اللهم وفقنا لاختيار الرجال الصالحين الذي
يعينوننا على ديننا ودنيانا، وألف بيننا وأصلح شأننا، واجعل ولايتنا فيمن خافك
واتقاك. اللهم احفظ بلادنا وأمننا وعقيدتنا من كيد الأعداء ودسائس المغرضين، اللهم
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين
آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وهيء له البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على
الخير وتعينه عليه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وانصرنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، وانصرنا على أعدائنا حتى نسعد
بظهور دينك. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم
وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|
الموضوع: عاقبة الظلم وخيمة
الخطبة الأولى
الحمد لله القوي العزيز الفعال لما يريد ، لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، أحمده سبحانه حمد العارفين، وأشكره شكرا يليق بمنّه وفضله وهو أرحم الراحمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بما وصانا الله، لقد وصانا بتقواه ومراقبته والالتزام بشرعه والاعتصام بحبله.
عباد الله : منكر كبير وإثم عظيم بسببه تكون كل المصائب وتحل النقم والجرائم، ويجد الظالم فيه مبتغاه، ويضيع العدل وتضطرب حياة الناس وتنفجر النفوس غيظا وكمدا منه، إنه منكر الظلم الذي هو ضد العدل، وهو وضع الشيء في غير موضعه، ولأجلِ كثرةِ مضارّ الظّلم وعظيم خطرِه وتنوُّع مفاسدِه ،وكثير شرِّه، حرّمه الله على نفسه وحرمه بين عباده، فقال تعالى في الحديث القدسيّ: "يا عبادي، إني حرّمت الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا". حرّمه على
نفسه جلا وعلا، لأنه أعدل العادلين، وأحكم الحاكمين. وحرّمه بين عباده ليحفَظوا بذلك دينَهم ويحفظوا دنياهم، وليُصلِحوا آخرَتهم، وليتمَّ بين العباد التعاوُن والتراحمُ بترك الظّلم، وليؤدّوا
الحقوقَ لله وللخلق.
أيها المسلمون: الظلم من المعاصي التي يعجل الله عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من ذنبٍ أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) أبو داود. وفي حديث أخر: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) رواه أحمد في مسنده
ولقد حذّرنا الله تبارك وتعالى من الظلم غايةَ التحذير، وأخبرنا بأنَّ هلاكَ القرون الماضية كان بظلمِهِم لأنفسهم ، فقال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) ، وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) ، وقال سبحانه مصورا حال أمة بعد إهلاكها: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ). وقال تعالى مبينا تنوع عقوباته التي سلّطها على الطغاة قارون وفرعون وهامان: (فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ).
والظلم ـ أيها المسلمون ـ درجات وأنواع، أشدها ظلمٌ الناس لخالقهم بإنكار وجوده ، أو نسبة الخلق والرزق لغيره أو الاستهزاء بذاته أو دينه أو رسله أو كتبه، أو الإشراك به فيما هو من خصائصه قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فمن مات على الشرك بالله تعالى خلَّدَه الله في النار أبَدًا، كما قال عزّ وجلّ:(إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ).
ومن الظلم: الذنوبُ والمعاصي التي بين العبدِ وربِّه ما دون الشركِ بالله، فإنّ الله إن شاء عفَا عنها بمنِّه وكرمِه، أو كفّرها بالمصائبِ والعقوبات في الدنيا، أو تجاوَز عنها بشفاعةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أو شفاعةِ غيره من الشافعين، أو يعذِّبُ الله العاصيَ في النار بقدرِ ذنبه ثم يخرِجه من النار
ويدخِله الجنّة.
والنوع الثالث من الظلم ـ أيها المسلمون ـ: مظالم بين الخَلق في حقوقٍ لبعضهم ، ومن أعظمِها التطاوُلُ على الضعفاء والبسطاء والعامة الذين لا يستطيعون حيلة لاستراد حقوقهم ولا يهتدون سبيلا كالتعدّي على اليتامى، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سعيرا ).أو التعدي على حقوق الغير ولو كانوا أغنياء ففي الحديث الصحيح
( مطل الغني ظلم ).
ومِثلُه العدوانِ على المالِ العامّ ، بل ربما كان العدوانُ عليه أشدَّ حُرمَةً وأبشَعَ أثَرًا ،لأنّ الضَّرَرَ فيه يُصيبُ الأمّةَ بمَجموعها، وفي صحيح البخاريّ: (مَن أخَذَ مِن الأرضِ شَيئًا بغير حقٍّ خُسِف بِه يومَ القيامَةِ إلى سَبعِ أَراضِين)، وفي الحديثِ الأخر: (مَن أخَذَ مِن طَريقِ المسلِمين شِبرًا جاء يومَ القيامة
يحمِله من سبع أراضين).
ومن صور الظلم: عدم العدل من رئيس الموظفين أو المستخدمين بين موظفيه في الأجرة أو الترقيات والعلاوات أو غيرها.
فيا مَن جعَل الله حَاجاتِ الخلقِ عِندهم: احذَروا أن تَضطرّوا عباد الله لما لا يُحمَد شرعًا ولا يُرتَضَى طبعًا، من كثرة الترداد والإلحاح والإستجداء، أو التنازل عن عزته وكرامته، أو دفع الرشاوى المحرمة، فتبوؤوا بالإثم والغضب من الله جلا وعلا، جاء عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منَعوا الحقَّ حتى اشتُرِي، وبَسَطوا الجورَ حتى افتُدِي ).
إخوةَ الإسلامِ، ومِن الظّلمِ الواضِحِ الذي يَقَع فيه بَعضُ الناسِ ظلمُ الأجَرَاء والمستَخدَمين من عمّالٍ ونحوِهم ببخسِهِم حقوقَهم، أو تأخيرها عن أوقاتها، أو إِهانَتِهم بقولٍ أو فعل، ففي صحيحِ البخاريّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ أنا خَصمُهُم يَومَ القيامة))، وذكر مِنهم :(ورجلٌ استأجَرَ أجيرًا فاستَوفى مِنه ولم يعطِهِ أجرَه ).
ومن الظلم البين ممارسة الأذى الجسدي أو النفسي لأي شخص ففي الحديث (إنَّ الله يعَذِّب الذين يعذِّبون الناسَ في الدّنيا ). رواه مسلم. ويشمل أيضا من يؤيد ذلك أو يسكت عنه
عباد الله: وظلم ذوي القرابة أشدّ مضاضة على النفس، وأقرب الناس إلى الإنسان زوجه وأم ولده بالتقتير عليها، أو سوء معاملتها، أو إهانتها أو هجرانها أو تهديدها أو عدم حسن الخلق معها، أو المكث كثيرا خارج المنزل، ومن لا خير فيه لأهله لا خير فيه لأمته. ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ). ومثل ذلك ظلم الأبناء بإهمال تربيتهم أو سوء معاملتهم أو تفضيل بعضهم على بعض
وبعد ـ أيّها المسلمون ـ لا فلاحَ مع الظلمِ، ولا بقاءَ للظالم، ولا استقرارَ للمعتَدِي مهمَا طالَ الزمان ومهما بلَغ به الشأن، يقولُ ربنا جلّ وعَلا: (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)، ويَقول عزّ شأنُه:( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). ويَقول عزَّ في عُلاه: (هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ).
وقد تتأخر عقوبة الظلم إلى حين وأجل يعلمه الله، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) قال ثم قرأ: (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ). فالعقوبات الإلهية سنة من سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل، كما قال الله: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى ٱلأرْضِ فانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ).
آلا فاتقوا الله ـ يا عباد الله ـ واحذروا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة، احذروه بكافه صوره وأشكاله ومسمياته، واحذروا مساعدة الظالم على ظلمه أو إقراره ،واعتبروا بمصارع الطغاة
الظالمين والأمم المكذبين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
معاشرَ المؤمنين: مظالِمُ العباد لا بدَّ من التحلّل منها والتخلّص من عواقبِها، فرسولُنا صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا خَلَصَ المؤمِنون منَ النّار حُبِسوا بقنطرةٍ بين الجنّة والنّار، فيتقاصّون مظالِمَ كانت بَينهم، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا أُذِن لهم بِدخولِ الجنّة). الحديث أخرجَه البخاريّ. وأَخرَج أيضًا عنِه صلى الله عليه وسلم قالَ: (مَن كانَت له مَظلَمةٌ لأخيهِ مِن عِرضِه أو شَيءٍ فليتحلّله منه اليومَ قبل أن لا يكونَ دِرهمٌ ولا دِينار، إن كان له عَمَلٌ صالح أُخِذ منه بقدرِ مظلمته، وإن لم تَكن
له حسنات أخِذَ من سيّئات صاحبه فحُمِل عليه).
الظلم شنيع ـ يا عباد الله ـ ولا بد من مدافعته وتطهير مجتمعاتنا منه بالوسائل الشرعية، ومن أعظم وسائل إزالة الظلم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله بالعدل والحكمة والموعظة الحسنة ، قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ
ومن الوسائل عدم الركون إلى الظالم؛ لأنه سبب في انتشار الظلم، قال الله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ)، ولأن الركون إلى الظالم سكوت عن ظلمه وتأييد له.
فيامن تسلّط على رقاب الناس وظلمهم بسبب قوته أو ماله أو قوامته على بيته، إذا دَعَتك قدرتُك على ظلمِ الناس فتذَكّر قدرةَ الله جلّ وعلا عليك، واعلم أن الله يمهل ولا يهمل، وأن حلمه لحكمة بالغة ، وأن نصره للمظلوم سنة باقية ، وأن الذي أهلك الظالمين السالفين قادر على
الانتقام من اللاحقين، وأن الظالم سيعض يوما على يديه.
واخشَ ـ أيها المسكين ـ من دعوةِ المظلوم، فإنّها ليسَ بَينها وبين الله حِجاب، يقولُ رسولُنا صلى الله عليه وسلم لمُعاذٍ بن جبل رضي الله عنه، وقَد أرسَلَه إلى اليَمَن، وقد كانوا قوما نصارى: (واتَّق دعوةَ المظلومِ، فإنه ليس بينها وبين الله حِجاب ). وفي الحديث الأخر : (ثلاثةٌ لا تردّ دعوتهم)، وذكَر منهم: (ودَعوة المظلوم، يرفعها الله فوقَ الغَمامِ، ويَفتَح لها أَبوابَ السّماء، ويَقولُ الرّبّ جلّ وعلا: وعِزّتي لأ نصُرَنّك ولو بعدَ حين). ويقول صلى الله عليه وسلم: (دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان
فاجرا ففجوره على نفسه). فعدل الله مع كل عباده ، يقول ابن تيمية رحمنا الله وإياه : (إن الله ينصر الأمة العادلة، ولو كانت كافرة, ويهزم الأمة الظالمة ولو كانت مسلمة ).
لا تَظْلِمَـــــنَّ إذَا مَـا كُنْتَ مُقْتَدِراً... فالظُّلْمُ آخِـرُهُ يُفْضـــي إلى النَّــدَمِ
واحْذَرْ أُخَيَّ مِنَ المَظْلُومِ دَعْوَتَهُ ... لا تَأْخُذَنْكَ سِـهَامُ الليلِ فِي الظُّلَمِ
تَنَـامُ عَيْنَاكَ وَالـمَظْلُـــــومُ مُنْتَبِهٌ ... يَدْعُــــــو عَلَيْـكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ
لا شَكَّ دعوةُ مظلومٍ تَحِـــــلُّ بِهَا ... دارَ الهَـــــــوانِ ودارَ الذُّلِ والنِّقَـمِ
يقول سفيان الثوري - رحمه الله ـ ( إن لقيت الله تعالى بسبعين ذنباً فيما بينك وبين الله تعالى أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد ). ويقول الشافعي رحمه الله: (بئس الزاد إلى المعاد، العدوان على العباد ).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أتدرون ما المفلس؟. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاه ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طُرح في النار) رواه مسلم .
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واتقوا الظلم بجميع أنواعه فإن مرتعه وخيم وعاقبته سيئة وجزاء صاحبه النار. قال تعالى: ( إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ).
اللهم من علينا بالتوبة النصوح، واغفر ذنوبنا جميعها أولها وآخرها، اللهم كفر عنا السيئات . اللهم منّ علينا بعفوك وكرمك يا عفو يا كريم، ويا أرحم الراحمين، اللهم طهر قلوبنا وجوارحنا من كل منكر وظلم، وطهر مجتمعاتنا ومجتمعات المسلمين من الربا والزنا والفواحش والمنكرات، اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره، ومزقه كل ممزق وأدر عليه دائرة السوء يارب العالمين. اللهم ارحم حالنا وتفريطنا وهواننا وضعفنا يا قوي يا عزيز. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم فرج همّ المهمومين ، ونفس كرب المكروبين ، واغفر لنا ولجميع المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |
|
الموضوع: آداب استعمال الهاتف
|
الخطبة الأولى
|
الحمدُ للهِ الواحدِ الأحَدِ، الفَردِ الصّمَدِ، الّذي لم يلِد ولم يولَد، ولم يَكُن لَه كفوًا أحَد، أحمدُه سبحانه وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستَغفِره، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له، وأشهد أن محمّدًا عبد الله ورسوله وصفِيّه وخليله، بلّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونَصَح الأمّةَ، وتَرَكَنا على المحجّة البَيضاء، ليلُها كنهارها، لاَ يزيغ عنها إلاَّ هالِك، فصلوات الله وسلامه عَليه، وعلى آلهِ الطيِّبين الطَّاهِرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامِين، وعلى التَّابعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله كفاه، ومن اتقى الناس لن يغنوا عنه من الله شيئًا. أوصيكم ونفسي بتقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، الواعظون بها كثير، والعاملون بها قليل، جعلنا الله وإياكم من المتقين.
أيها المسلمون، يُعرف عصرنا هذا بأنه عصر المعلوميات والتكنولوجيا ووسائل الإعلام والاتصال السريعة المتطورة، وعصر الثورات العلمية الهائلة والكشوفات العظيمة، وعصر الصواريخ والأقمار الصناعية، وغير ذلك مما جادت به العقول المفكرة والأيدي المبتكرة والطاقات العلمية المشكورة التي سخرها الله ـ من حيث تدري أو لا تدري ـ بقَدَره وقُدْرته، وأمدَّها بالتفكير والتدبير لخدمة الإنسانية على اختلاف عقائدها ومِللها وأجناسها ولغاتها وأماكنها، وتقديم النفع لها، وتيسير سبل العيش عليها في هذه الدنيا المترامية الأطراف، ذات الجبال والصحاري والبحار والقِفَار، لعلها تَذَّكّر فتكون هذه المخترعات والوسائل رسلَ خير توصل للإنسانية دين الله، وتصلها به، ممن كتب الله له في سابق أزله الإيمان والاستجابة.
أيها المؤمنون، لقد أصبح سكان العالم اليوم يعيشون متقاربين متواصلين، وكأنهم في قرية صغيرة متشابكة متصلة بخيوط عنكبوتية مرئية وغير مرئية، وكل هذا بفضل الله ثم بفضل وسائل وشبكات الاتصال الهائلة الحديثة من هاتف وناسوخ وإنترنت، وأجهزة متطورة ناقلة للصوت والصورة في بث حي مباشر عبر الأقمار الصناعية التي تتجول في الجو لهذا الغرض، إذ لولاها لما قامت الأجهزة الأرضية بعملها، حتى أصبح في مقدور الإنسان في أي بقعة من العالم كان أ ن يتصل متى شاء بمن شاء ويتواصل معه، ويقضي منه مآربه وحاجياته بشكل ميسَّر وفي أقرب وقت وبأقل التكاليف المادية والمعنوية.
أيها المسلمون، يجب على المؤمن أن يعتقد اعتقادًا جازمًا أن كل هذا حدث بتسخير وتقدير القادر الوهاب سبحانه، الذي خلق فسوّى وقدَّر فهدى، والذي خلق كلَّ شيء فقدره تقديرا، فالله عز وجل هو الذي أوجد هذا الكون، وأودع فيه كل ما يحقق السعادة للإنسانية، ويجعلها تعيش في راحة وهناء واطمئنان، وجعل فيه من الإمكانيات والمواد التي تُستخدَم لصالح الإنسانية، وهدى إليها العقول المبتكرة المخترعة، فاخترعت وأبدعت وصنَّعت وطوَّرت، فسبحان الذي خلق فسوّى، وقدَّر فهدى، وأوجد فأرشد، وأنذر فأعذر. قال الخالق الهادي سبحانه وهو يمتنّ على عباده: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}, وقال: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
أيها المؤمنون، ومما ابتكرته العقول المفكرة الذكية المبدعة التي سخرها الله لنفع الإنسانية، وجعلها واسطة في تبليغ نعمه لخلقه، الهاتف أو ما يُسمّى بالتلفون، هذه الوسيلة العجيبة الغريبة التي انتشرت في السنوات الأخيرة بشكل واسع ملفت للانتباه، التلفون هذا الجهاز الصغير الكبير ـ فهو صغير في حجمه، كبير في نفعه ـ تُقضَى به المآرِب، ويقرِّب بين الأحبة، ويحقق الاتصال والتواصل والقرب بين الأحباب، وينقل الناس من عالم إلى آخر، حيث يتقارب الزمان، وتُطوَى المسافة، وتوصل الأخبار من بعيد الأقطار في أوقات قصَار، ويُخفّف من المشاق والمتاعب، ويقي من الهموم والمصائب لمن أحسن استعماله، ويوصل بين الأرحام والأصدقاء الأباعد، إنه نعمة عظمى أنعم بها الله سبحانه على أهل هذا العصر رحمة بهم وتخفيفًا عنهم لمَّا تداخلت الأمور، وتُبُودِلت المصالح بين الناس، وحينما احتاج بعضهم إلى بعض في بقاع هذا العالم المتباعدة أقطاره، إنه بحق نعمة كثُر نفعها، ووجب شكرها، وتحتَّم معرفة آداب استعماله؛ حتى لا يأثم مستعمله، بل يؤجر وينتفع ولا يضُرّ ولا يتضرّر.
أيها الإخوة المؤمنون، وهذه بعض الآداب والتوجيهات الإسلامية جمعتُها لمن يستعمل الهاتف، ومن منا اليوم لا يستعمل هذه الوسيلة في حياته؟! ومن إحسان الله بخلقه أنه كلما كثرت البشرية وتعقّدت الأمور أظهر ما يُخفف من الأزمات، ويحلُّ المشكلات، ويقرِّب الشُّقَّة، ويزيل المَشَقَّة، ويُيسّر الصِّعَاب، ويزيل الأتعاب، فسبحان الرحيم بخلقه اللطيف بعباده، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌْْ}، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.
أولاً: على كل من أراد أن يتصل هاتفيًّا بأحد أن يختار الأوقات المناسبة لذلك، ويتجنب الاتصال بالناس في أوقات صلاتهم أو نومهم أو أكلهم أو عملهم؛ حتى لا يُقلقهم، ويؤذي مشاعرهم، ويُفسِد نومهم، ويقطعَهم عن أكلهم أو عملهم أو حاجاتهم، فيحصل بذلك الإيذاء النفسي، وإيذاء الغير منهي عنه في الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تؤذوا المسلمين)) رواه الترمذي عن ابن عمر في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في تعظيم المؤمن. فلا ينبغي الاتصال في مثل هذه الأوقات، إلا في حالات الضرورة والاستعجال والطوارئ مع سابق الاعتذار والتلطّف.
ثانيًا: على كل من أراد أن يتصل هاتفيًّا بأحد أن يتأكد من صحة الرقم الذي يطلبه قبل بدء الاتصال، حتى لا يركِّب رقمًا خاطئًا؛ لكي لا يوقظ نائمًا، أو يزعج مريضًا، أو يقلق آمنًا، أو يُروّع مطمئنًّا، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((لا يحل لرجل أن يُروّع مسلمًا)) رواه الطبراني في الكبير عن النعمان بن بَشِير ورواته ثقات.
ثالثًا: على كل من طلبه أحد في الهاتف أن يجيبه، ولا يقطع عنه مكالمته، فكثير من الناس إذا اتصل به أحد ولم يرغب في الكلام معه قطع عنه المكالمة، وأغلق الخط، وأطفأ الجهاز، وربما كذَب وقال له: أنا لستُ الذي تطلبه، أو لستُ في مكان قريب منك. وهذا ليس من أخلاق الإسلام؛ لأن إجابة المنادي وردّ الجواب وإجابة الدعوة من الواجبات، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((للمسلم على المسلم ست))، وذكر منها: ((ويجيبه إذا دعاه)) رواه الترمذي عن الحارث بن علي في كتاب الأدب، باب: ما جاء في تشميت العاطس. قال صاحب تحفة الأحوذي شارح جامع الترمذي: "أي: إلى دعوة أو حاجة"، ومن لم يرغب في الكلام مع أحد فيصارحه بذلك، وليصدق معه، وليعتذر له بعذر مقبول كالمَعَارِيض، روي عن الرسول أنه قال: ((إن في المَعَارِيض لَمَنْدُوحَة عن الكذب))، وعلى منِ اعتُذِر إليه أن يقبل الأعذار، وليحسِّن الظن بمن اعتذر له.
رابعًا: من اتصل بأحد أو اتصل به غيره مُشافَهة أو بالرسائل الصوتية أو المكتوبة فليكن أول كلامه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهي تحية الله للمؤمنين في الجنة، {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}، وتحية الملائكة لأهل الجنة، وتحية المرسلين، وبها يُبدأ الكلام عند المسلم كما بها يُختم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلاً سأل رسول الله: أي الإسلام خير؟ قال: ((تُطعمُ الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) متفق عليه، وقال الرسول الكريم: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم عن أبي هريرة. وعلى المسلم عند بدء المكالمة أن يتجنّب استعمال الكلمات الأجنبية مثل: "ألو" وغيرها؛ لأنها ليست من تحياتنا نحن المسلمين.
خامسًا: وإذا كان الجهاز مُزوَّدًا بآلة تصوير (كاميرا) فلا ينبغي لمستعمله أن يُصوّر به الأجسام العارية، ولا المناظر القبيحة الفظيعة، ولا كل ما يحرُم النظر إليه، ولا يصور به إلا المناظر الطبيعية، وما لا يلحق ضررًا نفسيًّا أو مادّيًّا بأحد.
سادسًا: أن يتجنّب المسلم استخدام أسلوب الجواسيس في اتصالاته، كأن يتصل برقم مجهول ،أو يغير صوته أو لا يعرِّف بنفسه ولا بقصده من مكالمته، بل بمجرد ما يُلقِي المتصل السلام على من اتصل به، عليه أن يُعرِّف بنفسه وبالمكان الذي يتكلم منه، ويصرِّح بقصده، ويُفصِح عن غرضه من مكالمته بأدب واحترام وحسن تحية وفصيح كلام، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.
سابعًا: إذا اتصل بنا أحد فلا ينبغي أن نطيل معه الكلام إلا إذا رغب في ذلك، وليكن كلامنا معه مختصرًا موجزًا هادفًا نظيفًا لطيفًا ، اقتداء بالرسول الذي كان كلامه قَصْدًا وخاليًا من الفُحْش والإيذاء، كما ينبغي أن لا ندخل في غير الموضوع، أو نُكثر الكلام معه فيضيع رصيده من المكالمات، فنؤذي مشاعره فنأثم، ونتسبب في ضياع ماله بغير رضاه، وإضاعة مال الغير محرَّم ممقوت، وكذلك إذا استعملنا هاتف غيرنا، وإن بعض الناس أثناء المكالمة يمزحون ويلغون، قال النبي الكريم: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب البر والصلة والآداب. فتطويل المكالمة وتمديدها بغير رضا المتكلم مساهمة في ضياع ماله وارتفاع فاتورة مكالماته واستنزاف جيبه، وهذا ما لا يرضاه الإسلام في التعامل مع الناس، وإذا كان الله قد كَرِه القيل والقال في الكلام العادي الذي لا يضيع معه مال، فكيف بالكلام الكثير الفارغ التافه الذي كلما زاد واسترسل ازداد معه المال ضياعًا؟! قال الرسول الكريم: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا))، فذكر ما يرضاه الله وقال: ((ويكره قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)) رواه مسلم عن أبي هريرة، والكراهة هنا تحريمية.
ثامنا: على المؤمن أن يكون حازمًا في استعماله للهاتف، ولا يستعمله إلا في الحالات المهمة، حتى يحفظ ماله، ويضعه في موضعه، ولا يبذِّره تبذيرًا؛ لأن التبذير حرام، والمبذِّر أخو الشيطان، والمؤمن مسؤول عن ماله يوم لقاء الله، وإن كثيرًا من مستعملي الهاتف اليوم من السفهاء والمبذّرين والطائشين يركِّبون الأرقام بغير معرفة لأهلها، فيتصلون بهذا، ويتكلمون مع هذه، كل ذلك من أجل التشويش والإحراج والفتنة والبحث عن عشيقة بواسطة الهاتف، فيفتِنون ويفتَننون، ويضيِّعون أموالهم وأوقات غيرهم، ويؤذونهم بغير حق.
تاسعا: وإذا كنت ـ أيها المسلم ـ في المسجد فلا ينبغي أن تترك هاتفك مُشغّلاً؛ حتى لا نؤذي عُمَّار بيت الله من الملائكة والمؤمنين، فتشوّش عليهم، وتذهب خشوعهم وطمأنينتهم في الصلاة إذا اتصل بك أحد وأنت في المسجد، فتضيع هيبة المسجد، وتزول السكينة منه، فَرَنِين الهواتف المحمولة يحدث أصواتًا مُلْفِتة، وانشغالاً مُلْهِيًا عن صدق التوجه وكمال الحضور، قال الرسول الأكرم : ((ائتُوا الصلاة وعليكم السكينة)).
عاشرا: على المسلم المؤمن أن يستعمل هذا الجهاز الخفيف الظريف لقصد نبيل وشريف؛ لصلة أرحامه الأباعد الذين ربما لا يتمكن من زيارتهم مباشرة، إما لكثرة المشاغل، أو لكثرة تكاليف السفر، أو لبُعد المكان ومشقّة الوصول إليه، فبالهاتف يمكن الاتصال بهم والتعرُّف على أحوالهم وتهنئتهم في أفراحهم وتعزيتهم في مصائبهم، فيهنأ المتصل، وتقرُّ عينه على أحوالهم، ويقضي هدفه دون كثير عناء ودون مشقة السفر وتكاليفه. وعلى المسلم أن يستعمله في الاتصال بأهل الفضل من العلماء والدعاة البعيدين عنه؛ للتواصل معهم، وسؤالهم عن أمور الدين؛ حتى يسترشد بفتاواهم، ويتبين له طريق الحق والصواب.
حادي عشر: كما يحسُن بك ـ أخي مستعمل الهاتف المحمول ـ أن تكون رَنّة الإشارة بالمكالمة في جهازك عاديّة تُرضي الأذواق السليمة، ولا تثير العواطف ولا تحرك الغرائز، فلا ينبغي أن تكون رَنّة هاتفك موافِقة للنغمات الموسيقية التي تصاحب الأغاني الفاحشة الماجنة، كما يجب عليك أن لا تستعمل في رسائلك الصوتية أو المكتوبة أو المرسومة الكلمات أو العبارات أو الصور الفاحشة، فكل ذلك منهي عنه، وسبب في الإثم والوزر.
ثاني عشر: على المؤمن الذي تم الاتصال به خطأً أو في وقت غير مناسب أن يتلطّف في الرد، ويلتمس الأعذار لمن اتصل به، وليكن حليمًا رحيمًا واسع الصدر، فلا يغضب ولا يسب ولا يؤذي أحدًا، وإن أوذي صبر وغفر، قال الله يوجِّه من قد يُؤذَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، والإسلام الحنيف ينهى عن الغضب واستعمال العبارات الفاحشة البذيئة، وما كان رسول الله فاحشًا ولا مُتفحّشًا قط.
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه هو كان غفّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد الله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
أما بعد، أيها الناس، اتقوا الله واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
أيها المسلمون: هذه الأجهزة والوسائل التي سخرها الله للناس في هذا العصر من مِذْياع وتلفاز وتلفون وناسوخ وإنترنت وحاسوب وغيرها غير محرمة، ولا قُبح فيها لذاتها، وإنما يَحرُم استعمالها إذا استُعملت في الحرام، أو كانت سببًا فيه أو سبيلاً إليه، وتَحسُن ويُطلب استعمالها إذا نشرت الخير، وأوصلت إليه، وكانت سببًا فيه، وداعيًا إليه، فيجب استعمالها بمراعاة تامة لأخلاق الإسلام وآدابه، ووفق ضوابط الدين الحنيف، ولنشر تعاليمه، وإيصال الدعوة الإسلامية لمن يجهلها في هذا العالم.
وأخيرا أقول يا عباد الله: إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى، ويجب علينا أن نقابل هذه النعم بالشكر، ونستعين بها على البر والتقوى لتستقر وتزيد وتبقى ، قال تعالى:{وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}. هذا.. وصلوا – رحمكم الله – على خير البرية وأزكى البشرية محمدٍ بن عبد الله ؛ فقد أمركم الله بذلك- فقال - جل وعلا - : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" .. اللهم صلِّ وسلِّم وزِدْ وباركْ على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر ، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - وعن سائر أصحاب نبيك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ونفث كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها, اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم ، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت. أنت الغني ونحن الفقراء.. أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
|
|
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع : توديع العام الهجري
الخطبة الأولى
الحمد لله بارِئِ النسمات، ومصوِّرِ المخلوقات ، وفاطر الأرض والسموات، نحمده على ما أسبغ من النِّعم، ودفع من النقم، سبحانه من إله يَخْفِضُ ويَرفع، ويُعطي ويمنع، له الحمدُ كلُّه، وله الثناء كله، وله المجد كله ، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً ....
أما بعد، فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله،فتقوى الله جماعُ الخيرات، وحصولُ البركات، وهي وصيةُ اللهِ للأولين والآخرينَ: «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـاكُم أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ" .
عباد الله : كان الفاروق عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ كثيراً ما يتمثل قول الشاعر:
لا شيء مما ترى تبقى بشـاشتـُهُ يبقى الإلهُ ويفنى المـالُ والولـدُ
لم تغنِ عن هُرْمُزٍ يومـاً خزائنـُهُ والخلْدُ قد حاولت عادٌ فما خَلَدُوا
ولا سليمانُ إذ تجري الرياحُ لـه والإنسُ والجن فيما بينهـا تـردُ
أيـنَ الملوكُ التي كانت لعزتهـا من كـل أوْبٍ إليها وافِدٌ يَفِـدُ
حَوْضٌ هنالك مورودٌ بِلا كَذِبٍ لابُدَّ من وِرْدِهِ يوماً كمـا وَرَدُوا
هذه الدنيا – عباد الله - ظِلُّ زائل، وسراب راحل، غناها مصيره إلى فقر، وفرحُها يؤول إلى ترح، وهيهاتَ هيهاتَ أن يدوم بها قرار، أيامُها سريعة ُالانقضاء ، والناسُ فيها راحلٌ أحلامُ نومٍ أو كظل زائلٍ ..إن اللبيبَ بمثلها لا يُخْدَعُ روى ابن ماجه بسننه عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الساعدي – رضي الله عنه - قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا فَقَالَ (( أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا )).
عباد الله : كنا بالأمس في أولالعام، ونحن اليوم في آخره ، سينقضي عام ويدخل غيرُه!! فهل يا تُرى ذهبت بركةُ الأوقات فلم نشعر بتصرُّمِها ؟! أم أننا قد أدركنا علامةً من علامات الساعة؟! تكون السنة فيها كالشهر؟ فوالله كأن سنينا شهورٌ, أم أنها نعمة من نعم الله على عباده، قد وسَّعَ لهم في الرزق، وعافاهم في البدن، وأنعم عليهم بالأمن؛ فلم يشعروا بمضي الأوقات، ولا بتعاقب الليل والنهار؟! عن عبيد الله بن مُحصِن الأنصاري _قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أصبح منكم آمنًا في سِرْبِه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن .
عباد الله : مضى عام كامل بأيامه ولياليه , وبحلوه ومرِّه ، كم ودعنا فيه من أب وأم، وكم نعينا فيه من ولد وبنت، وكم دفنا من أخ وأخت وجار وصاحب ، كم حصل فيه من فتن وكم توالت فيه من خطوب ،عزيز يذل , ووضيع يرفع , غنىً وفقر ، وتشريد وتهديد. مضى عام وجراح المسلمين تنزف ومآسيهم تزداد، مضى عام والأعداء بمختلف طوائفهم تجاوز طمعهم
وحقدهم لأهل الحق الخطوط الحمراء.
عباد الله: كيف ـ يا ترى ـ سيكون عامنا الجديد؟ هل ستتواصل الهموم وتتجدد الأحزان وتزداد المخاوف، أم هل سيشهد هذا العام نقلة نوعيةً وتحولاً عجيباً لأحوالنا ولأمتنا تتمثل بصدق إخلاص العبادة لله، وبصدق الإتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فيتحقق في العام الجديد : النّصرُ والعِزّ والتمكين :"وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ".
والخوف كل الخوف – عباد الله – من أن يتحقق في عامنا الجديد قول المصطفى :
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ (( حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ )) أخرجه أبو داود ، وصححها الألباني رحمه الله . هل سيكون الناسُ – في العام الجديد - في سباقٍ على الطاعات وإقبال على الجمع والجماعات أم في سباقٍ على الدنيا وشهواتها ، فيصدق على الناس قول سعيد بن مسعود رحمه الله تعالى: "إذا رأيتَ العبدَ تزداد دنياه وتنقُص آخرته وهو بذلك راضٍ فذلك المغبونُ الذي يُلعَب بوجهه وهو لا يشعر". وقول محمد بن واسع: "إذا رأيتَ في الجنة رجلاً يبكي، ألستَ تعجَب من بكائه؟!" قيل: بلى، قال: "فالذي يضحَك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجبُ منه".
أخي الحبيب: ما الذي أهمّك في عامك الماضي وأقضّ مضجعَك: لقمة تأكلها ولباسًا تلبسه ، مالاً تقتنيه وتجمعه فتعوض به خسارتك ، منصبٌ لم تستطع تحصيلَه ودنيا لم تبلغ مناك فيها .فيا أخي ذلك ماضٍ لا حيلةَ لإرجاعه، وإن كنتَ تملك محوَ ذنوبه وسيّئاته بالتوبة والاستغفار.أمّا عامُك الجديد فإنّك تملكه إن كتب الله لك فيه أجلاً. فاحرص على أن تكون همّتُكَ فيه عاليةٍ, وعزيمتُكَ وقّادة، كُن مع الله يكن معك، ولا تبكي على الدنيا وزينتها وابكي على خطيئة اقترفتها, وسيئة ارتكبتها كُن في عامك الجديد زارعًا للخير، تغرس بكلماتك الفضائل، وتنثر العطرَ بأفعالك، دعوةُ الله تختلج في نفسك، فإذا علا منارُها ، وارتفع لواؤها خفق قلبُكَ فرحًا، وتهادت نفسُكَ سرورًا، وإذا أصابتها العواصفُ والأدواء! دمعت عينُكَ وتكدّرت نفسُكَ ، وضاقت عليك الدنيا بأكملها.
اللهم إنا نسألك فَواتِحَ الخيرِ ، وخواتِمَه، وجوامِعَه ، وأولَه وآخرَه، وظاهِرَه وباطِنَه. اللهم أنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بك. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون : اتقوا الله حق تقواه ، وتوبوا إليه وأطيعوه تدركوا رضاه ، واستدركوا عمرا ضيّعتم أوله، ولا تضمنون عمل الخير في آخره، فرحم الله عبدا اغتنم أيامه ولياليه .
عباد الله : تمرّ الأعوام والأمّةُ الإسلاميّة حُبلى بالمشكلاتِ وثَكلى بالفِتن والمغرِيات، فلا بدَّ مِن نَفضِ الغُبار ومراجعةِ المسار، وإنَّ بدايةَ كلِّ عامٍ هجريّ يذكِّرنا بحدثٍ عظيم غيَّر مجرَى التأريخ، حدَث غيَّر فسادَ البشريّة إلى صلاح، وشقاءَها إلى سعادة، حدَثٌ سَعِدَت به البشريّةُ كلُّها وصلحت به الأحوال جميعُها، إنّه حدَث الهجرَة المحمديّة على مهاجِرِها أفضل الصلاة والسلام، حدَث جعله الله طريقًا للنّصر والعِزّة ورَفعِ رايةِ الإسلام وتشييدِ دولتِه وإقامة صرحِ حضراته، فعَسى الأمّة اليومَ أن تعلَمَ أنّ صلاحَها وسَعادتها وعِزَّها مرهونٌ بمِثل هذا الحدَث وما تضمَّنه من مضامينَ خيِّرة ومعالم واضِحة، مَرهونٌ بالتّمسّك بالإسلام والالتزام بحقائِقِ الإيمان والاعتصامِ بحبلِ الرحمن، فلن تحَقِّقَ الأمّة قوّةً ولن تحصِّل عِزّة ولن تبلُغَ مكانة مرموقةً حتى يتحقَّق في واقعها وفي واقع حياتها العملُ الكامل الشامل بالإسلامِ عقيدةً وشريعة، عِلمًا وعملاً، سلوكًا وتحرُّكًا، حُكمًا وتحاكمًا.
وفي توديع عام واستقبال آخر – يا عباد الله - تَعْظُمُ مسؤوليةُ المسلم في محاسبة نفسه، فها نحن نخرج من سنة وندخل أخرى، ووالله لكأنه بالأمس القريب حين دخل العامُ المنصرم، وها هو ينتهي وكأنه ما كان، وهكذا الدنيا. وفي هذا عباد الله تذكيرٌ بانقضاء الآجال، وانتهاء الأعمار، والانتقال إلى الدار الآخرة حيث الجزاءُ والمحاسبة، والمنصرفُ إما إلى جنة وإما إلى نار.عباد الله: كمْ يفرح المرءُ أحياناً بذهاب الليالي والأيام، لرغبة أو مطمع، ولكنه مع ذلك يجب أن لا ينسى أن ذلك يُنْقِصُ من عمره، ويدني إلى أجله، وأنها مراحلُ يقطعها من سفره، وخطواتٌ يمشيها إلى قبره، فهل يفرح بذلك إلا من استعدّ للقدوم على الله بعمل صالح
يُرضي الله عنه؟.
فتذكروا رحمني الله وإياكم بانقضاء العام انقضاء الآجال، وبسرعة مرور الأيام دنو الآجال، وحلول هادم اللذات. عباد الله: لقد رأينا من يملك هذه الدنيا الفانية، وقد رحلَ منها بكفن، ومن لا يملك منها شيئاً قد رحل بكفنٍ مثله، فالجميعُ لا شك متساوون في القبور، المعظّم والمحتقر، ولكن بواطن القبور مختلفة، إما روضةٌ من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران عياذاً بالله، فمن عمل في هذه الحياة صالحاً واستعد للقاء الله، واستثمر أوقاتَها فيما يعود عليه بالنفع فرح يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله َبِقلب سليم.
ألا فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وحاسبوا أنْفُسَكُم قبل أن تُحاسَبوا، واعملوا صالحاً ما دمتم في فسحة الأمل،
فاللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها ، وخير أيامنا يوم نلقاك ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، اللهم اجعل من ذكرى الهجرة في هذا العام للجزائريين قوّة ، اللهم ارفع بها شأنهم ، وركّز سلطانهم ، وقوّ إيمانهم ، وانزع الحقد والغل من قلوبهم يارب العالمين .ربنا نسألك بعزتك التي أبطلت بها كيد الكائدين لنبيك وطمست بها أعينهم، فأخرجته من بيته وقد طوّقوه بالحديد والنار ، وحفظته هو وصاحبه في الغار، نسألك بهذه العزة أن ترد عنا كيد الكائدين الطامعين المفرقين، وأن تنشر علينا رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا ، وتصلح بها حالنا ، وتؤلف بها بين قلوبنا يا أرحم الراحمين .اللهم وفّق من قلدته أمرنا ، واجعل عمله في رضاك ، وارزقه البطانة الصالحة التي ترشده إلى الخير وتعينه عليه ، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وأعد هذا اليوم علينا بالأمن والإيمان والخير والبركات يا ذا الجلال والإكرام .ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع: الزيارة أحكام وآداب
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أتم علينا نعمته، وأكمل لنا الدين ، وشرع لنا من الأعمال الصالحات أنواعا وأصنافا لنتقرب بها إلى رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أكرم الأكرمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على جميع المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما .
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، قال الله عزَّ وجلَّ:(يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
أيها المسلمون: الإنسان بطبعه يحب التآلف مع غيره، والإسلام دين تجمع وأُلفة، والاختلاط بالناس والتعارف بينهم من تعاليمه الأساسية، وقد فضّل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يخالط الناس على من هجرهم، ونأى عنهم فقال: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)) .
والزيارة وسيلة من وسائل المخالطة، وهي تفضي إلى التواصل، وبها تشيع المودة، وتتآلف القلوب، وتقوى الروابط، ويتذكر الناس، وينبّه الغافل، ويّعلم الجاهل، ويروح بها عن النفوس، وتخفف المصائب والأحزان، ومصالح أخرى لا تخفى. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم زار عدداً من أصحابه، وكان يزور أبا بكر رضي الله عنه باستمرار، فعن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي رضي الله عنها قالت: (لم أعقل أبويَّ إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشياً، فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لم يكن يأتينا فيها". عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار أهل بيت من الأنصار، فطعِم عندهم طعاماً، فلما أراد أن يخرج أمر بمكان من البيت فنضح له على بساطٍ فصلى عليه ودعا لهم".
الزيارات -عباد الله- أنواع، منها الواجب والمستحب، وهي حقوق يُجْمع الخلق على الإقرار بها، وحديثنا عنها ذكرى و(ٱلذّكْرَى تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ). ولئلا تطغى المغريات والملهيات فتنسى هذه الحقوق. ولا يخفى أن ضغط الواقع، والانفتاح اللامع، أصاب كثيراً منا بالذهول، فالتبست عليه الأوليات، وقدمت المباحات على الواجبات والمستحبات، كما أن الضخ الإعلامي الهادر ضخّم أموراً لا قيمة لها في الحياة، فأهملت على ذلك بعض الحقوق الواجبة والمستحبة، ولعل من نافلة القول، أن زيارة الوالدين من برهما، زيارة دائمة تشمل أداء حقوقهما، بتفقد أحوالهما ومساعدتهما والتلطف معهما، ومهما بلغت المشاغل فلا عذر للأبناء في تجاهل الوالدين، أو تحول برّهما إلى مجرد مغريات عابرة، وقد جعل الله حقهما عظيماً وتكليمهما واجباً، قال تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰاهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً).وإني لأعجب لأناس حينما أسأل أحدهم كيف حال أبيك أو أمك ؟ يقول : ما رأيته أو ما رأيتهما منذ كذا وكذا!. ألم يسمع هذا وأمثاله ما رواه جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : « لا يدخل الجنة قاطع » ، يعنى قاطع رحم ( متفق عليه ) . وأعظم القطيعة "قطيعة الوالدين "، ثم من كان أقرب من القرابة ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث مرات"، قلنا بلى يا رسول الله قال :" الإشراك بالله وعقوق الوالدين »، سبحان الله ما أعظم عقوق الوالدين ما أشد إثمه إنه يلي الإشراك بالله تعالى وإن عقوق الوالدين قطع برهما والإحسان إليهما.
أيها المسلمون: إنه لا يليق بعاقل مؤمن أن يعلم فضل بر الوالدين وآثاره الحميدة في الدنيا والآخرة ثم يعرض عنه ولا يقوم به أو يقوم بالعقوق والقطيعة فلقد نهى الله تعالى عن عقوق الوالدين في أعظم حال يشق على الولد برهما فيها فقال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيٌ والداك))؟ قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)) .
أيها المسلمون: والزيارة للأرحام بنية صلة الرحم، ودوام الترابط، وتفقد أحوالهم، ومساندتهم مادياً ومعنوياً، فقد جعل الله صلة الرحم من صلته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى، يا رب، قال: فهو لكِ، قال رسول الله فاقرؤوا إن شئتم: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ) .
ومن أنواع الزيارات زيارة الجيران لتفقد أحوالهم ومساعدتهم ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، ولعظم حق الجار ومكانته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) .
وزيارة المرضى من حق المسلم على أخيه المسلم، ولها آثار طيبة على المريض، فهي تُطَمْئن قلبه، وتشرح صدره، وتنسيه مرضه، وتخفف آلامه، خاصة إذا قارنها ذكر ودعاء، إن التكاسل عن زيارة المريض تفريط في حق من حقوق الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو زرته لوجدتني عنده)).
ومن الآداب أيها المسلم إذا دخلت على المريض هوّن عليه مرضه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على من يعوده قال: ((لا بأس طهورٌ إن شاء الله)) . علِق رجاء المريض في الله وحده، ذكِره بأن الله هو الشافي، ذكِره بأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ذكِره بفضائل الصبر والرضا بقضاء الله وقدره.
والزيارة – عباد الله – تكون لتعزية أهل الميّت، لما روى ابن ماجه عن عمرو بن حرام مرفوعاً: ((ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة)) .
ومن الزيارة زيارة الأيتام، والعطف عليهم، تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما شيئاً ، قال النووي – رحمه الله -: "كافل اليتيم القائم بأموره" .
ومن الزيارات المثمرة زيارة العلماء وأهل الصلاح والتقى، يقتبس فيها من عبادتهم وزهدهم ووقارهم وخشيتهم، قال ابن المبارك: "كنت إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن، ومقت نفسي" ثم بكى. ومع زيارة العلماء المعاصرين لك أن تتجول مع العلماء المتقدمين – رحمهم الله – بزيارتهم في بطون الكتب التي حكت سيرتهم.
والزيارة في الله بين المسلمين تدخل البهجة في القلوب، وهي سبب محبة الله للعبد، فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته . قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ)) .
للزيارة – عباد الله – آداب، تجعل المخالطة تقوم على أساسٍ سليم، وتتحقق بها هدف الزيارة، من بث روح المودة والمحبة، وحسن الأجر والفائدة، أبرز آداب الزيارة اختيارُ الوقت المناسب واليوم المناسب، فإن الهجوم على البيوت دون استئذان يتنافى مع آداب الإسلام. وفي غير الزيارات الواجبة فإن الزيارة الطويلة المكررة تفضي إلى الملل، وتضيع الأوقات، وتجعل الزائر ثقيلاً، وقد تُذهب وده. خفيف الكلام وحسن الاستقبال ليس مسوغاً للاسترسال والإكثار من الكلام، يتأكد هذا مع أصحاب المسؤوليات من حكام وعلماء ونحوهم، ممن تضيق بهم الأوقات لكثرة الأعباء، فأوقاتهم ثمينة، ودقائق حياتهم غالية، والخير كل الخير في التوسط والقصد. وكثرة الزيارات غير الهادفة قد تتحول إلى ثرثرة وقيل وقال، وغيبة ونميمة، وممارسة ألعابٍ محرمة.
هذه – إخوة الإسلام – تربية إسلامية تصحح مسار الحياة الاجتماعية، وتغرس فيه أنبل المشاعر وأرق الأحاسيس، وأصدق المعاني الأخلاقية الفاضلة، فالله يريد أن يبني أمة سليمة الصدور والنفوس، مهذبة المشاعر، طاهرة القلوب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه منادٍ أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي ربط بين المؤمنين بالأخوة الإيمانية ونماها، وشرع لهم من الأسباب المتنوعة التي تثبت بها أركان تلك الإخوة وتقوي عراها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فأعظم به ربًّا وإلَهًا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل البرية، وأهداها صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بما أوجب الله عليهم من حقوقه وحقوق عباده على أكمل الوجوه وأعلاها وعلى التابعين لهم بإحسان ما طلعت الشمس، وأشرق ضياءها، وسلم تسليما.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وكونوا مع الصادقين. واعلموا أنه من الزيارة المتسحبة للرجال دون النساء زيارة القبور، فهي تلّين القلوب القاسية، وترققها وتزهدك في الدنيا، وتولد العظة والعبرة، وتذهب الغرور، وقد حضّ النبي صلى الله عليه وسلم على زيارتها فقال: ((نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)). إذا زرت القبر تذكرت الموت، وسلّمت على الموتى، ودعوت لهم، رأيت القبور المحفورة، التي لا شك أنك سترقد فيها يوماً من الأيام. وكلّما غفل قلبك، واندمجت نفسك في الحياة الدنيا، أُخرج إلى القبور، تفكر في هؤلاء القوم، الذين كانوا بالأمس مثلك على الأرض، يأكلون ويشربون، ويتمتعون، الآن أين ذهبوا؟! صاروا مرتهنين بأعمالهم لا ينفعهم إلا ما قدّموا. إن زيارة القبور تجعل الإنسان يفكر فيما بعد الموت، فيستعد له بالعمل الصالح، يتذكر ما عند الله، فيصرف همّه في أن يجتنب [ما يقربه] من عذاب النار، وعندئذٍ يلوم نفسه على كل تقصير وتفريط في جنب الله.
وفقني الله وإياكم للعمل بما فيه صلاحنا وصلاح أقاربنا وأرحامنا، وجعلني وإياكم ممن غنموا أوقاتهم، واكتسبوها، واستهلكوها في طاعة الله وعمروها، وأعاذني وإياكم من الخيبة والخسران، وجنبنا الإثم والفسوق والعصيان. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم هيء لنا من أمرنا رشدا اللهم احفظ علينا ديننا وثبتنا عليه إلى الممات فإنه عصمة أمرنا اللهم أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. اللهم أصلح ولاة أمورنا وأصلح رعيتنا ووفقنا لما تحب وترضى إنك جواد كريم، اللهم احفظ لهذه الأمة دينها وقها شر أعدائها وأيقظ القلوب من الغفلة عما يراد بنا يا رب العالمين، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع: اسباب الرزق ووسائله المشروعة
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا .يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فوزا عظيما ,
أما بعد.. فيا أيها الناس: إن من المعلوم بداهةً أن المال قوام الحياة وزينتها، والناس يستقبلون صباحهم في كل يوم، وشئون الرزق مستوليةٌ على أفئدتهم مستحوذةٌ على أفكارهم.. المقل منهم يريد سعة، والموسع يريد مزيداً ، فإما غني فيه طمع ، أو فقير عنده قلق .. وقليل من هم بين ذلك. وللناس مع الرزق في هذه الحياة مذاهبٌ شتى، ودروبٌ متفاوتة، كلٌّ بحسب ما يحمله قلبه واعتقاده عن مفهوم الرزق ومفهوم طلبه واستيعاب الواجب تحقيقه من الوسائل المؤدية إليهما .. بسم الله الرحمن الرحيم: "وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ".
فمن الناس قلق متوجِّس لا يهنأ بنوم ولو أغمض عينيه .. ويتجرع طعامه وشرابه على شرق ولا يسيغهما، لأن هاجس الرزق مستولٍ عليه وجاسمٌ بقلبه ؛ فهو لا يثق بوعدٍ ولا يستحضر قدراً قدره الله ولا يأمن سبيلا .. يرى نفسه بين الحياة والموت إن لم يلهث وراء الرزق بلا شرط ولا قيد، بل تستوي عنده وسائل التحصيل حلالاً كانت أم حراماً ما دامت غايته المشوشة تبرر الوسيلة .. ومثل هذا إذا رأى أول الرزق سال لعابه لآخره .. حتى يأكل ولا يشبع ويشرب ولا يرتوي ؛ ليصدق عليه قول المصطفى – صلى الله عليه وسلم - : " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديًا ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " رواه مسلم. ومن هذه حاله يستبد به الجشع والشراهة فيجعلانه لا يكتفي بقليلٍ ولا يشبع بكثير .. لا يكفيه ما عنده، فيمتد إلى ما عند غيره فيُصِبه سعار الكانز، وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد نهى عن منعٍ وهات فإن شعاره هو هاتٍ وهات. وفي الناس من هو عكس ذلك تماماً.. قد أخلدت نفسه إلى الراحة وآثر الدعة وجلس حلس بيته لا يهش ولا ينش ينتظر السماء أن تمطر ذهباً أو فضة .. يرى أن القاعد كالساعي أو خير منه ، بل يرى أن السعي لطلب الرزق جهدٌ مهدر وثلمٌ لقدح التوكل والقناعة ..والواقع عباد الله أنه قِناعٌ وتواكلٌ وليس قناعةً وتوكلاً . والغر من هؤلاء من إذا حاججته قال لك : ألم تسمع قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " رواه أحمد والترمذي .
فانظروا يا راعاكم الله إلى استدلال القَعَدَة من المتواكلين كيف أخذوا من الحديث توكل الطير ولم يأخذوا منها غدوَّها ورواحَها. لقد ظَلم فئامٌ من الناس القناعة فحسِبوها الرضا والدون، فعموا وصموا عن غير هذا المعنى ثم عموا وصموا عن تصحيحه؛ فضعفت الهمم عن طلب معالي الأمور، وهلت همة تمجيد الفقر والجوع .. وهؤلاء وإن كانوا هم القلة في المجتمعات في سائر العصور إلا أنهم يرفعون عقيرتهم بهذا أحيانًا كثيرة . وقد رأى الفاروق – رضي الله عنه – قوما قابعين في ركن المسجد بعد صلاة الجمعة ، فسألهم من أنتم ؟ قالوا : نحن المتوكلون على الله ، فعلاهم عمر – رضي الله عنه - بدرته ، ونهرهم ، وقال : ( لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول : اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ، وإن الله يقول :" فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ " وكان سفيان الثوري – رحمه الله – يمر ببعض الناس وهم جلوس بالمسجد الحرام فيقول : ما يجلسكم ؟ قالوا : فما نصنع ؟ قال: اطلبوا من فضل الله ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.
أيها المسلمون: إن المسلم السعيد هو الذي تعتدل أمامه مسالك الحياة في طلب الرزق فيعمل ويتصبب منه عرقه ليتطهر من فضلات الكسل وجمود النفس ، ويكسب الكسب الحلال الطيب ؛ إذِ المسلم ليس درويشاً في معتكف أو راهبًا في دير لا عمل له ولا كسب ؛ لأن الإسلام لا يعرف المؤمن إلا كادحاً عاملاً في هذه الحياة آخذاً منها معطياً لها : "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ". ولقد تعوذ النبي – صلى الله عليه وسلم – من الفقر وأمر بالتعوذ منه لأن الإسلام يريد من أهله أن يكونوا أقوياء أغنياء لا مهازيل ضعفاء .. ومعنى أن يكونوا أغنياء أي لا يكونوا عالةً يتكففون الناس ؛ فالإسلام لا يريد الفقر المذل لأتباعه، كما أنه لا يريد الغنى المطغي لصاحبه؛ فلا هو مع الكسول المحتال باسم التكفف ولا هو مع الذين يحبون المال حباً جماً، يعميهم عن دينهم وأخلاقهم. ثم إن المال غادٍ ورائح ومقبل ومدبر .. يغتني بحصوله أقوام ويفتقر بعدمه آخرون قال تعالى: "وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا ملكت أيمانهم فَهُمْ فِيهِ سَوَاء".
وما على العبد المؤمن إلا أن يبذُلَ الأسباب ويبتغي عند الله الرزق ؛ فلا يدري أين خبأ الله له رزقه.. فمصادر الرزق ليست سواء ، والناس يتناوبون على معايش الحياة يطلبونها على صورة تناوب لا يقدر عليه إلا الله – سبحانه - :" أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ " .ولهذا مكن الله للناس في الأرض لتتنوع مصادر أرزاقهم كما قال– تعالى-: "وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ". فالله–جل وعلا– قسم المعاش وقدر الأرزاق والناس أجمعون لا يملكون لك عطاءً ولا منعاً.. وإنما الناس وسائط، فما أعطوك فهو بقدر، وما منعوك فهو بقدر الله ، وما كان لك فسوف يأتيك على ضعفك .. وما كان لغيرك فلن تناله بقوتك: "وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ". وما عليك أيها المسلم إلا أن تجد وتعمل، وتضرب في آفاق الأرض، وتأخذ بأسباب الرزق؛ فمن جد وجد ومن زرع حصد.. فلا كسب بلا عمل ولا حصاد بلا زرع. روى الإمام أحمد عن رجلين من الصحابة دخلا على النبي– صلى الله عليه وسلم– فأعاناه على شيء كان يصلحه ، فقال لهما: " لا تيأسا من الرزق ما تحززت رؤوسكما ؛ فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ثم يرزقه الله - عز وجل -". ومسألة الرزق - عباد الله – أدقّ من أن يفهم الناس أغوارها، وأعظم من أن يدركوا حكم الله فيها، لأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.. ولننظر إلى شيء من مطالب الرزق على وجه التدبر واستحضار حكمة اللطيف الخبير فيها لنجد أن من الناس من لم يكتب له رزقه إلا في أعماق البحار كالغواصين أو في ثبج الهواء بين السماء والأرض كالطيارين والملاحين .. أو تحت الأرض يجدون لقمة عيشهم في كسر صخرٍ صلدٍ كأصحاب المناجم والمحاجر.. والعجب كل العجب فيمن رزقه كامنٌ بين فكي الأسود وهو مروضها .. أو بين أنياب الفيلة وخراطيمها وهو يسوسها .. أو مثل بهلوان يمشي على حبلٍ ممدودٍ في الهواء ليجد لقمة عيشه بالمشي عليه في مخاطرةٍ تدهش العقول وترعد الفرائص.
هل لنا عباد الله– أن نتصور أرزاق أناسٍ مرهونةً بالأمراض والأوجاع– عافانا الله وإياكم – أليس للمرض طبيب ؟ أليس له حقنة ؟ أليس رزق هذا الطبيب وذلك الممرض مرهونة بهذا المرض وذاك الوجع؟ أفلا نعلم أن من الناس من قوتهم مناط بالبرد القارس ليبيع مدفأة أو ملحفة ، أو من قوتهم مناط بالحر الشديد ليبيع ماء مثلجا أو آلة تبريد ؟ أليس هناك من رزقه مناط بفرح زوجٍ وزوجةٍ ليؤجر لهما وسائل الفرح ؟ أليس هناك من رزقه مناط بأتراح الناس وأحزانهم فيحفر قبراً لفلان أو يبيع كفناً له؟ وقولوا مثل ذلكم في رزق ..إنها حكمة الله وعظمته وتسخير عباده بعضهم لبعض: "إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ". وقد قال الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه : " وجعل رزقي تحت ظل رمحي " .
ألا رحم الله عبداً كسب فتطهر، واقتصد فاعتدل، وذكر ربه ولم ينس نصيبه من الدنيا، ويا خيبة من طغى ماله ورزقه عليه وأضاع دينه وكرامته وكان من الذين قال الله فيهم : "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا". المؤمن الحق هو الراضي بما قسم الله له من رزق ، وهو الموقن بعدل الله فيما قسم من أرزاق لحكمة يعلمها – سبحانه - : "وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء" . ذكر ابن الجوزي -رحمه الله - عن ابن الراوندي -الضال الذي اشتهر بالذكاء في القرن الثالث الهجري - أنه قد جاع يوماً واشتد جوعه فجلس على الجسر وقد أمضَّه الجوع فمرت خيل مزينة بالحرير والديباج ، فقال: لمن هذه ؟ فقالوا : لعلي بن بلتق – غلام الخليفة - فمرت جوار مستحسنات ، فقال : لمن هذه؟ فقالوا : لعلي بن بلتق – غلام الخليفة - فمر به رجل فرآه وعليه أثر الضرّ ، فرمى إليه رغيفين فأخذهما ورمى بهما ، وقال : هذه الأشياء لعلي بن بلتق وهذان لي ، وما علم أنه بهذا الاعتراض أهل لهذه المجاعة . .قال الحافظ الذهبي – رحمه الله – فلعن الله الذكاء بلا إيمان ورضي الله عن البلادة مع التقوى . فالرزق – عباد الله – لا يُرَد إلى كياسة المرء وعقله ، فربما رأينا أكيس الناس قد أفنى عمره في الكسب ،قد يفوقه في الغنى من هو أجهل منه وأقل عقلاً وذكاء ، ولقد أحسن الشافعي–رحمه الله – حين قال:
ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيب وضيق عيش الأحمق
فما الذكاء سبباً في الغنى، كما أن الفقر ليس سببه الغباء:" قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، قد قلت ما قلت فإن صواباً فمن الله وإن خطئاً فمن نفسي والشيطان ، وأستغفر الله إنه كان غفاراً .
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد..
فاتقوا الله– عباد الله– واعلموا أن الإسلام دينٌ وسطٌ بين الغال والجافي والمفْرط والمفَرِّط ؛ فهو يأمر بطلب الرزق ويحض على السعي فيه ، وفي الوقت نفسه يذم القعود عنه والإخلاد إلى الاتكال وتكفف الغير ، ولقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "اليد العليا خير من اليد السفلى" رواه الشيخان . ويقول ابن قتيبة –رحمه الله – : (اليد العليا هي المعطية؛ فالعجب عندي من قوم يقولون هي الآخذة ، ولا أرى هؤلاء القوم إلا قوم استطابوا السؤال . إن العمل مهما كان حقيراً فهو خيرٌ من البطالة؛ لأن العزة بلا سؤالٍ خيرٌ من ذلةٍ بسؤال، وإن الإسلام نظر إلى المكلف نظر اعتبار.. حيث دعاه إلى نزول ميادين العمل على أنواعها إما مأجوراً أو حرًّا مستقلاً أو مشاركاً في المال إن استطاع، وقد سئل النبي– صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أفضل ؟ قال: "عمل الرجل بيده، وكل بيعٍ مبرور " . وقال– صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحدٌ طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" رواه البخاري .
والحاصل– عباد الله– أنه يجب على المسلم أن يسعى في الرزق ويبذل وسعه وأن يرضى بما يقسم الله له ، وأن يجعل الغنى والذلة مطيتان لا يبالي أيهما قسم له .. فإن كانت القلة فإنها قد تسمو كما سمت قلة المصطفى– صلى الله عليه وسلم - مع أن فيها الصبر والاحتساب، وإن كانت الغنى فإن الغنى قد يدنو كما دنا غنى قارون، كما أنه في الوقت نفسه محلٌّ للبذل والإنفاق من فضل الله .. وجماع ذلك كله مجموعٌ فيما قاله المصطفى– صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله .. فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته" . رواه الطبراني والحاكم وصححه.
هذا.. وصلوا– رحمكم الله– على خير البرية وأزكى البشرية محمدٍ بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بذلك- فقال- جل وعلا -: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" .. اللهم صلِّ وسلِّم وزِدْ وباركْ على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي- وعن سائر أصحاب نبيك محمدٍ– صلى الله عليه وسلم– وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار .. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ