الموضوع: الإسراء
والمعراج
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، أسرى بعبده ليلا
من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأراه من آياته الكبرى، عرج به إلى السموات
العلى، إلى سدرة المنتهى، إلى حيث شاء العليّ الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله،
وحده لا شريك له، كرّم نبيه وحبيبه ومصطفاه، فشرح صدره، ورفع ذكره، وأعلى قدره،
وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيما، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
وصفيه من خلقه وحبيبه، نال من التكريم ما لم ينله نبي قبله، ولا أحد بعده.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه
وأتباعه، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين، وسلـم تسليما.
أما بعد، فقد قال تعالى في
كتابه الكريم: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". الإسراء:1.
أيها المسلمون: تتقارب الأيام، وتطل علينا من
جديد ذكرى الإسراء والمعراج، فياضة بالمعاني، مفعمة بالحكمة، ناطقة بكل حديث.
قبل الهجرة بعام، كان الإسراء و المعراج، أو
بالأحرى كان الإعزاز والإكرام، كانت المعجزة التي أطلت بها السماء على الأرض، في
عام سجّله التاريخ الإسلامي تحت عام الحزن، وقتٌ عصيبٌ، وزمنٌ رهيبٌ، ابتليت فيه
القلة المؤمنة بأصعب ما يمكن أن يبتلى به الإنسان، وفَقَد الرسول صلى الله عليه
وسلم عزاءه بموت خديجة رضي الله عنها، وفَقَد المسلمون سندهم وعونهم في مكة بموت
أبي طالب.
وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف، وقد تورّمت
قدماه، بعد أن أغرت به ثقيف سفهاءها، وترتفع دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى
السماء.
"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة
حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من
تكلني، إلى عبد يتجهّمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي،
غير أنّ عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر
الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو أن ينزل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا
حول ولا قوة إلا بك". (سيرة ابن كثير).
ويهدأُ
الرسول الكريم، ويشرح الله صدره بعد هذا الدعاء، وتبدأ رحمات الله تنزل، فيسخّر
الله له من الكفار من يرقّ له، فيرسل إليه طعاما وشرابا. ويمرّ في هذا الوقت نفر
من الجن، يستمعون ما يتلى من آيات الله فيؤمنون به، وينطلقون إلى قومهم منذرين.
ويعود صلى الله عليه وسلم– إلى مكة- ، وتأتي نفحة الله
الكبرى لنبيه بعد هذا العناء، وتهتف السماء له، فسبحانه يدعوه في ليلة مباركة، حيث
السكون يلفّ مكة الغارقة في كفرها وعنادها ومجونها وجحودها، وحيث ملائكة الله
غدّاءة روّاحة في بيت الحبيب المصطفى. فيشعّ النور الإلهي المفعم بالإيمان والخشوع
والرهبة. ينتظر موكب الرسول الأعظم، صلى الله عليه وسلم إلى مسراه، ثم معراجه.
ويلبي الرسول
نداء ربه، بنفس مطيعة وقلب خاشع، ويتحرك الركب الملائكي بإرادة الله وقدرته جل
شأنه، إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وهناك جميع الأنبياء والمرسلين
في انتظار الحبيب سيد الخلق، فيؤمهم في الصلاة تكريما وتشريفا.
ثم يكمل رحلته النورانية إلى السموات العلى، ليرى من
آيات ربه الكبرى، حيث اقترب إلى أعتاب النور الإلهي، حيث لم يقترب نبي مرسل أو ملك
مقرب. وتكشّفت لعيني الرسول الخاتم، أسرار الزمن والأبد. فشاهد الموت والحياة، وما
بعد الموت، وشاهد الجنة والنار، وتلقىّ عن ربه التكليف بالصلاة إسراء ومعراجا لكل
مؤمن من أتباع هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وبعد هذه
الرحلة السماوية المباركة، عاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وآوى إلى فراشه ولم
يزل دافئا، والله على كل شيء قدير.
أيها المسلمون: ونحن نحتفي بهذه
الذكرى، فليس لنا أن نحتفل باجترار وقائعها وسرد قصتها دون أن نستفيد منها في
ديننا ودنيانا، وهي الزاخرة بصنوف الدروس والعبر.
ولعل أول درس
يستفاد منها: يتمثل فيما يجب أن يكون عليه المسلم من عروج روحي دائم إلى ربه في كل
زمان ومكان من خلال الصلاة التي شاء المولى عز وجل أن تكون منحته الجليلة في هذه
المناسبة. تنطلق فيها وبها أرواح المؤمنين، لتكون على أرفع منازل القربى من الله
عزّ وجل. "فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".
وليحذر الذين
هم عن صلاتهم ساهون، فلقد كان من مشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة
أنه: "أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالحجارة، كلما رضخت عادت كما كانت، لا يفتر
عنهم من ذلك شيء، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تثّاقل رؤوسهم عن
الصلاة". رواه البيهقي.
فاتقوا
الله–عباد الله–وحافظوا على هدية الله إليكم، واسألوا الله من فضله.
اللهم أعد علينا هذه الذكرى وأمثالها
باليمن والإيمان، واجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات
والنفـحـات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما، آمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد
أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. صلى الله عليه وسلم تسليما .
أما بعد، عباد الله: إن ذكرى الإسراء
والمعراج من أعظم الذكريات وأزكاها وأنفسها وأسماها، لكنها تحل هذا العام وككل
عام، في ظل محاولات إسرائيلية مستميتة لانتزاع القدس الشريف من الفلسطينيين والعرب
والمسلمين، والسيطرة عليه وعلى كل المقدسات الإسلامية، وفي مقدمتها الصخرة
المشرفة، وحائط الـبراق.
ووقوف المسلم
في شهر رجب من كل عام مع أحداث هذه الذكرى، لا يجب أن يكون وقفة استعراض للحدث
فقط، أو تذكر وقائعه بما يثير العاطفة، بل يجب أن يكون للعظة والعبرة والدرس،
فيستنير بهذه السيرة، ويقتدي بهذه الأسوة، ويستعين بهديها، فيطهّر أرضه من
الغاصبين، ويحافظ على مقدساتها، ويجلي عنها المعتدين، ويعمل على جمع شتاته وتوحيد
صفه .
وفقنا الله لذلك، اللهم اجعلنا نحتفل بهذه الذكرى
في عامنا المقبل من داخل المسجد الأقصى، فقوّنا وأعنّا، وألف بين قلوبنا وانصرنا
على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، وانصرنا على أعدائنا حتى نسعد بظهور دينك، وآتنا
ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة يا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا
حـسـنة وفي الآخرة حسنة و قنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد.