الموضوع: استقبال شهر رمضان
الخطبة الأولى
الحمد لله، شرع الدين هداية للمؤمنين، وأذاق الطائعين حلاوة الطاعة واليقين، وجعل
السعادة للصائمين القائمين الخاشعين، وأشهد أن لا إله إلا الله، جعل الصوم حصنا
لأوليائه وجنّة، وفتح لهم أبواب الجنّة. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أفضل
من صلى وصام، واتقى وتهجّد وقام. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة
تتعاقب بتعاقب الضياء والظلام، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فيا عباد الله: عمّا قليل يطلّ على العالم
الإسلامي الشهر الكريم، ويبدأ المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها فريضة الصوم،
طُهرة للبدن، واستجابة لفريضة كتبها الله، فأروا الله–يا أيها المسلمون– في هذا
الشهر خيرا، فإن لله فيه نفحات، من حرمها حرم خيرا كثيرا .
لقد كان السلف الصالح– رضوان الله عليهم– يتأهّبون لقدوم هذا الشهر قبل
استهلاله، وتستبشر به نفوسهم، وتستشرف لنظره، استشرافها لقدوم غائب عزيز من سفر
بعيد. رُوي عن الإمام علي كرم الله وجهه، أنه كان لا يستشرف لهلال، إلا هلال
رمضان، وكان إذا نظر إليه قال: "اللهم أدخله علينا بالسلامة من الأسقام،
والفراغ من الأشغال، ورضّنا فيه باليسير من النوم". وروى البيهقي في شعب
الإيمان عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر
فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيامه ليلة تطوعا، من تقّرّب فيه
بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة،
وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه،
وعتقا لرقبته من النار، وكان له مثل أجره، من غـيـر أن ينقص من أجره شيء، قلنا يا
رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال صلى الله عليه وسلم: يعطي الله هذا
الثواب من فطّر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء، ومن سقى صائما سقاه الله
من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، عتق من
النار".
فيا لَسعادة من أدركه. وقام بما افترض الله عليه صومه، وأدى ما تيسر له من
قيامه.!
فرمضان–يا عباد الله– فرصة العمر، فيجب أن لا تفلت هذه الفرصة دون كسب يدّخره
المرء لعقباه، وإلا كان محروما من الخير في شهر الخير. قال صلى الله عليه وسلم:
"رغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له". رواه الترمذي.
فأسباب الرحمة والمغفرة في هذا الشهر من الكثرة بحيث لا يحصرها عدّ ولا بيان،
يعطي الله فيه الأجر الجزيل على العمل القليل، فتفطير الصائمين ولو باليسير من
التمر ومذقة اللبن وشربة الماء، يغفر الله بها الذنب ويعتق بها من النار. وهل
لمسلم غاية أرفع من الغفران، والعتق من جحيم النيران؟ .
لكنّ هذا الفضل لا يناله إلا من ارتفع بصومه عن الهفوات والسقطات، فليس الصوم
من الطعام والشراب، وإنما لكل جارحة صيام، قال صلى الله عليه وسلم: "من لم
يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". رواه
البيهقي. وروى أيضا: "ليس الصيام من الطعام والشراب، إنما الصيام من اللغو
والرفث".
فاحرصوا– يا رعاكم الله– كل الحرص على الإرتفاع بصومكم عن
الآثام، لتفوزوا بالجـنـة دار السلام، وخذوا بوصية الصحابي الجليل، جابر بن عبد
الله، قال: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم وأذى الجار،
وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك وفطرك سواء". رواه ابن
أبي شيبة في المصنف.
فاتقوا الله عباد الله، واستقبلوا ضيفكم بما هو أهل له،
واسألوا الله أن يعينكم على ذكره وشكره. ويغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين. أقول
قولي هذا.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله
وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، وعظموا هذا الشهر
المبارك، بالصيام والقيام والتنافس في صالح الأعمال. فقد جاء في الحديث عن الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم في حديث طويل أنه قال: "فاستكثروا فيه ـ أي في
رمضان ـ من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء لكم عنهما، فأما
الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلا الله والإستغفار. وأما
الخصلتان اللتان لا غناء لكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار
". رواه ابن خزيمة.
فاتقوا الله، وأروا الله من أنفسكم خيرا في هذا الشهر
المبارك، فإن لله فيه نفحات، من حُرمها حُرم خيرا كثيرا .
اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات
البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك،
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم ألف
بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، اللهم أهل علينا هلال رمضان
بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ووفق ـ اللهم ـ ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى
وسائر المسلمين يا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا
عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
آمين.