27 يوليو 2014




الخطبة الأولى

      الله أكبر - 6  مرات- الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، الله أكبر ما صامت الأمة المحمدية شهر رمضان، الله أكبر ما باتوا لربهم سجّدا وقياما يقرؤون القرآن، وكان فضل الله عليهم بذلك عظيما.
    الحمد لله.. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله تضّاعف الأجور والحسنات، يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، نحمده على نعمه التي لا تحصى ولا تشكر، ونشكره على فضله وإحسانه، وحُقّ له أن يشكر. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، خلق الخلق فقدّر، وسيّر العوالم ودبّر، مُعيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد. وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، خير من صلى وصام وحجّ واعتمر، ورغب الطائعين وبشّر، وهدّد العصاة وأنذر، ورغّب في صالح الأعمال، ودعا إلى الله بلسان الحال والمقال، اللهم صل وسلم عليه وعلى صحبه وآله، خير صحب، وأفضل آل، وعلى كل المخلصين في الأقوال والأفعال.
    أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، وأبشروا برحمة من الله وأجر كريم، فإن الله يقول: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا، هو الذي يصلى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيما، تحيتهم يوم يلقونه سلام، وأعد لهم أجرا كريما". الأحزاب:41ـ43. الله أكبر.
    الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر..  معشر المسلمين: إن يومكم هذا يوم عظيم، وعيد كريم، إنه يوم شكر لله على إكمال عدة رمضان، ويوم ذكر لله على ما هدانا للإيمان، قال تعالى: "ولتكملوا العدة، ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون". البقرة: 18.
   هذا يومٌ يوفي الصابرون فيه أجورهم بأحسن ما كانوا يعملون، ويكرم الله فيه عباده بالفضل العظيم على ما كانوا يصنعون.. عن أبي سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الفطر، وقفت الملائكة على أبواب الطرق، فنادوا: أغدوا معشر المسلمين إلى رب كريم، يمنّ بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا، نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة". رواه الطبراني في المعجم الكبير.
     فبشرى لكم– أيها الصائمون– إيمانا واحتسابا، عاقبة حميدة، وقدوم على الله مفرح. قال صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه". رواه البخاري.
وتلك حقيقة – أيها المسلم – فإنك إذا ألقـيت نظرة على المجتمع اليوم، لأحسست بشيء من الغبطة والإبـتهاج يغمُران النفوس ويهزّان الكيان." قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".
لكن ينبغي لنا– ونحن في يوم عيدنا– حين نفرح بفضل الله، أن نحذر مكر الله سبحانه، لأن الفرح  قد يجعل صاحبه ينسى المُنعم، وهو الله سبحانه، فيكون سبب لسلب النعمة، ولو بلغ العبد من الطاعة ما بلغ، لا ينبغي له أن يفارقه الحذر، فالفرح متى كان لله، وبما منّ الله به، مقارنا للخوف والحذر، لن يضر صاحبه. ومتى خلا من الحذر ضرّ وأفسد. وهذا كتاب الله جل جلاله، يشير إلى ألوان من الفرح المنحرف الضار، فيقول في سورة الأنعام: "فلما نسوا ما ذُكروا به  فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون". أي أن أهل الشرك والعناد والمعصية، نسوا أوامر الله واعرضوا عنها، وجعلوها وراء ظهورهم، ففتح الله عليهم أبواب الإستدراج والإمهال، فأعطاهم من متاع الحياة ما يريدون، حتى إذا فرحوا بالأموال والشهوات، أخذهم الله على غفلة، فإذا هم بائسون محرومون من كل خير. ولذلك لما قيل لأحد الرهبان: متى عيدكم؟.  أجاب: "يوم لا نعصي الله فيه". الله أكبر...
    أيها المسلمون: كيف يفرح في هذا اليوم، من كان له والدان غاضبان عليه أو أحدهما؟.
كيف يفرح في هذا اليوم، من كانت له رحم مقطوعة، أو أخت محرومة، أو عمّة أو خالة مصرومة، أو قرابة مهجورة؟.
   كيف يفرح في هذا اليوم تارك الصلاة؟.  وكيف يفرح المفطر في نهار رمضان من غير عذر شرعي؟.  كيف يـفـرح في هذا اليوم من بينه وبين أخيه شحناء؟.
  فكيف حالك– أيها العاصي– حينما يفرح المؤمنون بفضل الله وبرحمته؟.
  لا شك أنها حال سوء، قال تعالى: "يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبـتــه وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه، كلا، إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوعى". المعارج:11ـ18.
        فتدارك– أخي- ما أنت فيه من الغفلات، قبل أن تصيبك القوارع، وتحيط بك الخطيئات، وقبل أن تنزل بك السكرات والحسرات، فتتمنى وتقول: "يا ليتني قدمت لحياتي"، ولا تنفع الأُمنيات وقت الممات. فخذ حذرك ما دمت في زمن العافية والحياة.
      لقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم، يعملون الأعمال الصالحة، ويخلصون فيها لوجه الله وطلبا لمرضاته، ومع ذلك يخافون أن لا تقبل منهم، قال علي بن أبي طالب كرم الله وجه في يوم عيد الفطر: "اليوم عيدُ من قُبل بالأمس صيامه وقيامه، عيدُ من غُفر ذنبه، وشُكر سعيه، اليوم لنا عيد، وغدا لنا عيد، وكل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد". الله أكبر ..
     الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر..  نعم -أيها المسلمون– حقّ لنا أن نفرح بفطرنا في يوم عيدنا، الذي هو أولى الفرحتين اللّتين بينهما النبي الكريم بقوله صلى الله عليـه وسلم في الحديث السابق: "للصائم فرحتان ..".  فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ يربط بل يعقد قرانا مباركا بين يومنا هذا– يوم عيد الفطر- ويوم لقاء الله، بين فرحة المؤمن يوم العيد، وفرحته يوم يلقى الله.
   ففي يوم العيد يتلاقى الأحبّة، وتكاد القلوب المؤمنة تتعانق، وما لقاؤنا اليوم في مسجدنا هذا وبدون أذان أو إعلان، ما حقيقته إلا مؤتمر إسلامي كبير، يهدف إلى غرس الحب والوئام في قلوب المؤمنين في كنف السرور والإبتهاج، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج نساءه وبناته في العيدين، ليشاركن مـؤتمر الفرح والسرور والتآلف الكبير، وهو الذي يفخر ويزدهي بهذا اليوم، فيقول لأبي بكر رضي الله عنه: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيد، وهذا عيدنا".  وكان أصحابه رضوان الله عليهم إذا التقوا يوم العيد، يقول بعضهم لبعض: "تقبل الله منا ومنك".
     ذلك ليتأكد الوئام والحب بينهم..  ذلك في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يتلاقى الأحبة المؤمنون في الجنة، في رحاب الرضوان الإلهي العظيم، وظلال الفرح الدائم الذي لا انقطاع له. فلقد رُوي أنه: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، اشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض. قال:  فيسير سرير هذا إلى سرير هذا، وسرير هذا إلى سرير هذا، حتى يجتمعا فيقول أحدهما لصاحبه: تعلم متى غفر لنا؟. فيقول صاحبه: يوم كنا في موضع كذا، فدعونا الله فغفر لنا"!.
   نعم: كذلك يتلاقى الأحبة في ظلال الفرحة الكبرى، كما كانوا يتلاقون من قبل في ظلال فرحة العيد، وينعمون برضوان الله، فرحة في الدنيا، وفرحة يوم القيامة. حقق الله لنا ولكم ذلك..
     أيها المسلمون: وإذا كانت أيام العيد مدعاة للفرح بفضل الله تبارك وتعالى، فهي في الوقت نفسه أيام تتجلى فيها ظاهرة المساواة والحس الإجتماعي في الأمة الإسلامية، فالذين لفّهم ذلك الإطار النوراني إمساكا عن الطعام والشراب من الفجر إلى الغروب خلال شهر رمضان، هم ... هم الذين يشاركون بعضهم البعض الفرحة بهذه الشرعة المباركة.
   وما مشروعية زكاة الفطر، وتقديمها على صلاة العيد، واستحباب تأخير صلاة العيد، إلا لتصل الزكاة إلى أيدي مستحقيها قبل أن يرتفع الضحى وتذهب بهجة العيد، فما العيد في نظر الإسلام إلا لمسة حنان ورحمة، يمنحها المسلم فيمسح بها الدموع من العيون، ويزيح الكآبة من النفوس، ومن أولى بالمسلمين بأن يكونوا متضامنين متعاونين متحابين؟. فنبيهم صلى الله عليه وسلم يقول: "والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، افشوا السلام بينكم تحابوا". رواه أبو داود وغيره.
  فيا أيها المسلمون، ويا أيها المترفون، اذكروا الذين لا يجدون ما ينفقون على أهليهم، ويا أيها المعيدون، ويا أيها الآباء الذين مازالوا  يتمتّعون باجتماع الشمل ورؤية الأولاد والأهل، اذكروا اليتامى الذين اغتال الموت آباءهم، والأيامى اللاّتي فقدن أزواجهن، فأيُّ عيد لمن ينعم بالعيش الرغيد، وحوله إخوان له في جهد جهيد؟.   قال صلى الله عليه وسلم:  "مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ". رواه مسلم عن النعمان بن بشير.
   نعم ـ أيها المسلمون ـ   وبالمناسبة فإنّ عيوننا وقلوبنا مشدودة إلى هناك.. إلى غزّة، وإلى ما يعانيه أهلها، من ضرب الطائرات، وأزيز المدافع  والدبابات،  مئات البيوت هدّمت، مئات الأنفس أزهقت، كم من نساء أيّمت، وكم من أطفال يتّمت، وكم من مقابر جماعية أقيمت، فإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا به..  
   شعب "فلسطين " ـ عباد الله ـ منذ أكثر من سبعين عاما يعيش تحت وطأة الإحتلال، مساكنهم الملاجئ والمخيمات، والملايين منهم يعيشون في التشريد والشتات، شعب "فلسطين" حياته كلها خوف وتعذيب، واعتقال وتهديد، ومع الحصار الإقتصادي المفروض عليهم، نفذت المخازن، وأغلقت المعابر، لتسدّ عنهم أبواب الرزق ووسائل الحياة، تجويع وبطالة، واستخفاف وإهانة. والمحتلّ يلاحق من يشاء، ويتّهم من يشاء، ويقتل من يشاء، وينفي من يشاء، ثمّ يزعم أنه يريد السلام!!
  قد حصحص الحقّ لا سلم ولا كلم * مع اليـهود وقد أبدت عواديـــــــها
قد حصحص الحقّ لا قول ولا كلم *ولا مواثيق صدق عند داعـــــــيها
    أين السلام الذي نادت محافلكم؟ * أين الشعارات؟ يامن بات يطريها
      تآمرٌ ليس تخـــــــفانا غوائــــــــــــــــله * وفتنة تتوارى من أفاعــــــــــــــــــيها
   الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. إننا ـ عباد الله ـ  ولله الحمد، نعيش منجاة من القتال وأهواله، والحروب وبلاياها، ومالنا عدو يحاربنا،  وما عدونا إلا من يحارب إخواننا في الملة والدين.  أولئك هم أهلنا في فلسطين، الذين يبتلون في سبيل الله، ويُبدون من الصبر والثبات والشجاعة ما هو جدير بأمثالهم. فلا يسعنا ـ ونحن في يوم عيدنا ـ إلا أن نعلن عن تضامننا معهم، ونضم أصواتنا إلى أصواتهم، ونرفع احتجاجنا ضدّ أعدائهم، ونسأل الله أن ينصرهم ويثبت أقدامهم. فاللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين،  اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم انصر  إخواننا في فلسطين، وأنزل باسك ورجزك على الظالمين، ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين،  واجعل فرحتنا في الدنيا صلاة في بيت المقدس، وفي الآخرة يوم نلقاك يا رب العالمين، اللهم و اجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما برحمتك يا أرحم الراحمين، هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

 الخطبة الثانية

       الله أكبر -6- الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. الحمد لله الذي علا بحوله، خلق فسوّى، وقدّر فهدى، سهّل لعباده طرق العبادة ويسّر، وتابع لهم مواسم الخيرات، لتزدان أوقاتهم بالطاعات .أنعم علينا بتيسير الصيام والقيام، وجعل ثواب من فعل ذلك تكفير الخطايا والآثام، ودخول الجنة دار السلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحـده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الأوليــن والآخرين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
     الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. أما بعد، فيا أيها المسلمون: هذا يوم مبارك، جمعكم الله فيه على طهارة وتقوى، تودّعون شهر رمضان الذي انصرم وصعد إلى ربه ومعه صحائف أعمالنا، وسوف نحاسب عليها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ ، والله تبارك وتعالى إذا قبل عمل العبد وفقه للعمل الصالح بعده، فقد قيل: "ثواب الحسنة الحسنة بعدها"، فمن عمل حسنة ثم أتبعها سيئة، كان ذلك دليلا على عدم قبولها. لقد سئل بعض الصالحين عن رأيه فيمن يعبدون الله في رمضان ثم يعودون بعده إلى العصيان؟، فقال: "هم بئس القوم،  لا يعرفون الله حقا إلا في رمضان".
     فيا رعاكـم الله: تابعوا فعل الحسنات، يمح الله لكم بهنّ الخطيئات، قال تعالى: "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى".  طه:82. الله أكبر .
    الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. عباد الله– آن لكم أن ترجعوا راشدين إلى بيوتكم على غير الطريق التي أتيتم منها، واعلموا أنكم في الدين إخوة، فحققوا هذه الإخوة بالتآلف والتحابّ بينكم. فتصافحوا وتزاوروا وتبادلوا التهاني، وليسلم بعضكم على بعض، فالسلام يغرس المحبة والألفة، والهجر يوجب البغضاء والوحشة. واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا هجرة فوق ثلاث، فمن هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار". رواه الإمام أحمد. وليست المحبة قولا باللسان، ولا تعبيرا بالأركان، وإنما هي ميل القلب واطمئنانه إلى الأخ المسلم، فلتتصافح القلوب قبل أن تتصافح الأيدي، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين.
    فاللهم لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، اللهم تقبل منا الصيام والقيام، واحشرنا في زمرة خير الأنام. اللهم اجعل شهرنا شاهدا لنا بأداء فرضك، ولا تجعلنا ممن جد واجتهد ولم يرضك، اللهم أوزعنا أن نشكر نعمتك ونسأل تمامها في الأشياء كلها، والشكر لك عليها حتى ترضى وبعد الرضا. اللهم أعد علينا من بركات هذا اليوم وأعد أمثاله علينا ونحن نتمتع بالإيمان والأمن والعافية، اللهم واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين. ووفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وانصر المسلمين في كل مكان واجعلهم في الخير متعاونين، وأيّد بروح منك إخواننا في فلسطين وأهلك عدوهم، واستخلفهم في أرضهم وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا، وجميع المظلومين، إنك على كل شيء قدير، اللهم واحفظنا في ديننا وفي بلدنا وفي أنفسنا وفي زوجاتنا وأبنائنا وبناتنا وأهلينا أجمعين، إنك خير الحافظين. اللهم أصلح نساء المسلمين، وجنّبهن التبرج والسفور، اللهم جنّبهن منكرات الأخلاق والأسواق والأفـراح والأقراح، واجعلهن من المسلمات القانتات يا رب العالمين، اللـهـم وأصلح أحوال المسلمين أجمعين.  ربنا اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. الله أكبر كبير، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

11 يوليو 2014




الموضوع: رمضان..  ولكن غزة تقصف..

الخطبة الأولى

    الحمد لله الذي عم برحمته جميع العباد، وخص أهل طاعته بالهداية إلى سبيل الرشاد، ووفقهم بلطفه لبلوغ شهر رمضان، ففازوا ببلوغ المراد، أحمد حمد معترف بجزيل الإرفاد، وأعوذ به من وبيل الطرد والإبعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ادخرها ليوم المعاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أبان طريق الهدى والسداد، وقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأجواد ، صلاة وسلاماً نبلغ  بها الأمل والمراد..
    أما بعد: فأُوصِيكم - عباد الله - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، لاسيَّما ونحن نعيشُ موسِمًا من أجلِّ مواسِم التقوى، فجوهرُ الصيام وفحواه، ولُبُّه ومغزاه: تحقيقُ تقوى الإله ـ جلَّ في عُلاه ـ يقول - سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". البقرة: 183
فيا أيها الإنسان بادِر إلى التُّقَى * وسارِع إلى الخيراتِ ما دُمتَ مُمهَلُ
فما أحسنَ التقوى وأهدَى سبيلَها* بها يرفعُ الإنسانُ ما كان يعملُ
    أيها المسلمون الصائمون: ها أنتم تعيشون هذه الأيام المباركة من أيام شهر رمضان، في خير وصحة وأمن وسؤدد، فاحمدوا الله الذي بلغكم وفي أعماركم أمدُد.
      شهر رمضان شهر كريم، وموسم عظيم، يحمل خيراتٍ كبيرة، وبركات كثيرة، ونعم وفيرة، فيه مضاعفة للحسنات، وتكفير للسيئات، وإقالة للعثرات، مخصوصٌ بأسمى الصفات، وأزكى الدرجات، إنه شهر رمضان، شهر الهبات والأعطيات، شهر الانتصارات والفتوحات.
      ألا وإن بلوغ هذا الشهر نعمة عظمى، وإدراكه منة كبرى، تستوجب الشكر، وتقتضي اغتنام الفرص، بما يكون سبباً للفوز بدار القرار والنجاة من النار، يقول الله العزيز الغفار: "يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
     أيها المؤمنون: وبرؤيةٍ مقاصديَّة في تنزيل مقاصِد الشريعة على أحكام الصيام وحِكَمه، يُدرِك المُكلَّفون أن الصيام إنما شُرِع لمقاصِد عُظمى وأحكامٍ جُلَّى، بها يُجدِّد المُسلمُ شِيَمَه التعبُّديَّة المحمودة، ويُعاوِدُ انبِعاثتَه في الخير المعهودة، فيترقَّى في درجات الإيمان، وينعمُ بصفات أهل البرِّ والإحسان؛ حيث لم يقِف الشارعُ الحكيمُ عند مظاهر الصوم وصُوره؛ من تحريم تناوُل المُباحات والطيبات فحسب؛ بل عمِدَ إلى سمُوِّ الروح، ورُقِيِّ النفس وحفظِها، وتكيةِ الجوارِح والصعود بها من الدَّرَكِ الماديِّ إلى آفاق السمُوِّ الروحيِّ، والعلوِّ الإيمانيِّ والقِيَميِّ.
    وما أحوج الأمة إلى شهر الصيام وهو يجمع الكلمة الواحدة، ويوحِّد الصفوف ويؤلِّف، يَفطِر أهل كل قطر في زمان واحد، إنه مذكر بوحدة المسلمين ودعوة إلى تآخيهم وتوادهم وشيوع المحبة بينهم، "إنما المؤمنون إخوة". "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
   لقد روى البخاري رحمه الله، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".
    تأملوا معي أيها المسلمون: قوله: "أجود بالخير من الريح المرسلة"، الريح المرسلة، المعنى: المطلقة، يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، الريح المرسلة التي أمرها الله وأرسلها فهي عاصفة سريعة، ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام أسرع بالخير في رمضان من هذه الريح المرسلة، وعبر بالمرسلة: إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة, وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه..  
   نعم - أيُّها الإخوة - لقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعلم ما رمضان، وما فضل العمل فيه، ومِن هنا، فقد كان يضاعف فيه جوده، هذا وهو محمدٌ رسول الله، أفضل خَلْق الله، وأتقى عباد الله، مَن غُفِرَ له ما تَقَدَّم مِنَ الذُّنوب، وما تَأَخَّر، ومع ذلك يضاعف الجود في رمضان، ويسارع إلى الخير، ويغتنم فضيلة الوقت، وشرف الزَّمان..
    فالإضاءة المشرقة في هذا الحديث الشريف: الحثّ على الجود في كل وقت وخاصة في هذا الشهر المبارك شهر رمضان..
     وكذلك كان هدي سلف الأمة رضوان الله عليهم فقد كان كثير منهم يواسون من إفطارهم، ويؤثرون ويطوون.
    فقد كان ابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه: يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم، لم يتعشَّ تلك الليلة، وكان إذا جاءهُ وهو على الطعام، أخذ نصيبهُ من الطعام، وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة، فيصبح صائمًا ولم يأكل شيئًا.
   واشتهى بعض الصالحين طعامًا، وكان صائمًا فوُضع بين يديه وهو صائمٌ، فسمع قائلاً يقول: من يقرضُ المليء الوفيَّ؟ فقال: عبده المعدمُ من الحسنات، وأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاويًا.
   وجاء سائلٌ إلى الإمام أحمد: فدفع إليه رغيفين كان يعدُّهما لفطره، ثم طوى وأصبح صائمًا. وكان الحسن يُطعمُ إخوانه وهو صائمٌ، ويجلسُ يروِّحُهمُ، وهمُ يأكلون.
   أيها المسلمون: إن في الصيام مظهر تسوية بين الغني والفقير، ويقضة للضمير الإنساني الأخوي بما يقاسيه أنضاء الحرمان وتعساء الإنسانية من عنت وبؤس وشقاء في هذه الحياة.
   دخل على بشر الحافي أحد أصدقائه في يوم شديد البرد وقد تعرى من الثياب، فقال له: يا أبا نصر، إن الناس ليزيدون الثياب في مثل هذا اليوم وأنت تتعرى؟.
    فقال: ذكرت الفقراء وما هم فيه، ولم يكن لي ما أواسيهم به، فأردت أن أشاركهم في مقاسات البرد..
     إن يقضة الضمير هذه ـ عباد الله ـ هي التي يريد أن يحييها الصيام فينا لو كنتم تعقلون،  فشدّوا العزائم، وتنافسوا في الخيرات، واحمدوا الله أن يلغكم هذا الشهر، فكم من مؤمل ذلك خانه الأمل، فأضحى بين القبور.
  نفعني الله وإياكم بما قلت، وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية
     الحمد لله رب العالمين، وأشهد ان لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم..
     أما بعد، أمة الإسلام .. أمة الصيام والقيام: وها هي نعم الله جل وعلا علينا تتابع، وإحسانه لنا يكثر حيناً بعد حين، وكل يوم نحن من نعمه في مزيد، فما تأتي نعمة إلا وتلحقها أخرى، موائدنا منصوبة، وجمعنا مشتمل في رمضان ولكن غزة تقصف..
    نعم أقول والأسَى ليعتصِرُ قلوبَ المُسلمين وهم يعيشُون أيام هذا الشهر الغُرِّ وليالِيَه المُبارَكة الزُّهر لما يجرِي في عددٍ من بلاد المُسلمين من سفكٍ للدماء، وصِراعاتٍ سياسية هنا وهناك، وما يجرِي في الأرض المُبارَكة فلسطين والأقصَى، وبالخصوص في غزة من الظلم والعُدوان، وترويع الآمِنين.
    نعم.. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، على ما يحدث هذه الأيام من غزو مسلح على إخواننا في فلسطين، وخاصة في غزة، من تدمير لبلادهم، وسفك لدمائهم، وقبل ذلك وبعده، ما يحدث من حرب لدينهم وعقيدتهم.
   إن هذا لأمر تتصدع من هوله القلوب، وتنفطر منه الأفئدة الحية، وسط تخاذل مؤسف من أمة قوامها مليار، بل يزيدون.
    ها هي إسرائيل ترتكب جرائمها في وضح النهار، وتحت سمع العالم وبصره، لا تقيم وزنا لكل الشرائع والمواثيق والأعراف الدولية، حشدت قواها، وجمعت آلياتها، لم تراع شيخا كبيرا، ولا طفلا صغيرا..
نفسي تذوب أسى و القلب يجرحه * مما عدا ببــلاد الشام أرزاء
فأين مسرى رسول الله وقد وطـئت *به اليهود. فهل للحق أبناء؟
   ماذا أقول؟. وقد عاد سفّاحوا "صبرا وشاتيلا" إلى غزة متحدّين بذلك عزّة الإسلام، ومهينين لأكثر من مليار ممن يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسل.
    تقرحت أكباد الصالحين كمدا مما يجري هناك، مناظر مفزعة متتوالية، وعربدة صهيونية غادرة، قتلٌ بطريقة وحشية، مسلسلاتٌ من الرّعب، مناظر حفرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل في قلب كل مسلم، ملامح سطّرتها أشلاء الرجال بألوان الدم القاني وجماجم الشهداء.
قال الشاعر صالح علي العمري
وفي المحـيا سـؤال حـــائر قلـق * أين الفــداء وأين الحب في الديـــن؟
أين الرجــولة والأحــــداث دامـية * أين الفتـوح على أيـدي الميـامـــين؟
ألا نفــوس إلى العــليـاء نافـــــرة * تــواقـة لجنـــان الحـــور والعـــيـــن
يا غيرتي أين أنت؟ أين معــذرتي؟* ما بال صوت المآسي ليس يشجيني
أين اختفت عزّة الإسلام من خلدي* مـا بالها لم تعـد تغـذ شراييــــني؟
     وبعد، أيها المسمون: وإن كنا نحن الجزائريين قد تنوقلت عنا مقولة: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة". (الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله).
   فإنّي بلسانكم ولسان الجزائريين كلهم من الأجنة في بطون الأمهات، إلى الذين هم في الأجداث، وفي هذه الأيام الطيبات المباركات، أرفع الشكوى إلى الله، وأقول: اللهم إنّ هؤلاء الصهاينة أهلكوا الحرث والنسل، وأفسدوا في الأرض أيما إفساد، اللهم فشلّ أركانهم، ودمر كيانهم، واجعل الدائرة عليهم.
     نعم.. أيها المسلمون: إننا ولله الحمد نعيش منجاة من القتال وأهواله، والحروب وبلاياها، ومالنا عدو يحاربنا، وما عدونا إلا من يحارب إخواننا في الملة والدين. أولئك هم أهلنا في فلسطين، الذين يبتلون في سبيل الله، ويُبدون من الصبر والثبات والشجاعة ما هو جدير بأمثالهم.
   فلا يسعنا إلا أن نعلن عن تضامننا معهم، ونضم أصواتنا إلى أصواتهم، ونرفع احتجاجنا ضدّ أعدائهم، ونسأل الله أن ينصرهم ويثبت أقدامهم، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم هيئ لإخواننا في فلسطين، وفي كل مكان، نصرا عزيزا  تعز به أهل طاعتك، وتذل به أهل معصيتك.  ولا تجعل ـ اللهم ـ للكافرين على المؤمنين سبيلا، اللهم انصر إخواننا في فلسطين وأمددهم بقوة من عندك، الللهم وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وقوّ عزمهم، ووحّد صفّهم، واجعلهم في كفالتك يا رب العالمين.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.