25 يناير 2017



الموضوع : شكر الله على نعمة نزول الغيث، والدعوة إلى مواساة الفقراء والمحتاجين..  

الخطبة الأولى
     إنَّ الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. 
    أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ إذ بها المعتَصَم، ومنها الرِّبحُ والمغنَم، وبسبَبِها يدفع الله البلاءَ والمغرم، قال تعالى: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ". الطلاق:2، 3، وقال أيضا: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا". الطلاق:4.
     فلنتق الله عز وجل ولنتبصر في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة حتى ننتهي إلى آخر سفرنا، وإن كل يوم يمر بنا، بل كل ساعة، بل كل لحظة تبعدنا من الدنيا وتقربنا من الآخرة، وإن هذه الأيام والليالي خزائن لأعمالنا ومحفوظة لنا شاهدة علينا بما عملنا فيها من خير أو شر.
       عباد الله: إن مِنْ نِعَمِ اللهِ سبحانه وتعالى على عباده أن جعل لهم فصولاً أربعة يتقلب فيها الزمان، على حرّ مصيف، ويبس خريف، وبرد شتاء، وحسن ربيع، تبعًا لحكمته البالغة ومشيئته النافذة وقدرته الباهرة، "حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ". القمر:5. فأما المؤمن فيتذكر ويعتبر ويزداد إيمانًا إلى إيمانه.
     يأتي فصل الصيف بحرارته وشدته، فيتذكر حرّ النار وسموم جهنم، ويتذكر قوله تعالى: "قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا" التوبة:81، فيزداد يقينًا إلى يقينه، ويسارع إلى طاعة ربه وإلى مرضاة مولاه، وإلى أعمال صالحة مباعدة عن النار.
     ويأتي فصل الشتاء ببرده وقساوته فيتذكر زمهرير جهنم، ويعلم أنه في موسم من مواسم الإقبال على الله، فيتزوّد للقاء الله سبحانه وتعالى، كما قال أحد السلف: "الشتاء جنة المؤمن؛ طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه". هذا هو حال المؤمن، وأما الغافل فلا تذكّر ولا اعتبار، وإنما لهو ولعب وغفلة وبعد عن الله سبحانه وتعالى، حاله كحال القائل:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لِي متى؟.
    هكذا المعرض عن الله يبدّد حياته ويضيّع عمره في كل معصية ولهو، حتى يأتيه الأجل وهو على هذه الحالة، فيندم ولات حين مندَم، ويتمنى الرجوع إلى هذه الدنيا ليعمل، ولكن هيهات هيهات، قال تعالى: "وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ" سبأ:54، وقال سبحانه: "أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ". فاطر:37.
    أيها المسلمون: إننا في هذه الأيام نتقلب في نعمة من نعم الله وافرة، فسماؤنا تمطر، وأشجارنا تثمر، وأرضنا تخضرّ، وما هذا إلا نعمة ورحمة من المنعم الرحمن المنان. فوالله، ثم والله، لولا الله ما سقينا، ولا تنعّمنا بما أوتينا. قال تعالى: "أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ". الواقعة:68-70، أجاج أي: شديد الملوحة.   
    فكيف لا نشكر الله؟. وقد كنا بالأمس القريب فقط نشكو الجدب والقحط وقلة المياه، فنزلت رحمة الله الواسعة، فرويت الأرض، وجرت الوديان، وامتلأت الآبار، وسالت العيون، وفاضت السدود برحمة من الله وفضله. ألا إن رحمة الله بنا عظيمة، ونعمه علينا كثيرة، فالواجب علينا أن نشكر الله على هذه النعمة، وأن ننسب الفضل له، فما مطرنا إلا بفضل الله ورحمته. جاء في صحيح البخاري ومسلم عن زيد الجهني أنه قال: صلى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت بليل، أي: بعد ليلة ممطرة، فلما انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا أو كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب". فاللهم لك الحمد كله ولك الشكر كله..
   أيها المسلمون: وإننا في نعمة لا تقدر بثمن، نلبس ونُغيّر في كل وقت وحين، ونقتني كل واقٍ يقينا من الأمطار وشدة البرد، فننام متلحفين، ونخرج إلى أعمالنا ومساجدنا مثل ذلك، ويعيش بعضنا وكأنه في وسط الصيف ليس ذلك إلا من نعمة الخالق سبحانه عزّ وجل. فلله الحمد والمنة، لله الشكر والحمد، وهذه ـ والله ـ نعمة جليلة ومنحة جسيمة لا يشعر بها إلا من ذاق لسع البرد وسهر الليالي من شدة الصقيع والجوع، قال تعالى: "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ".  النحل: 80، 81. 
   اللهم لك الشكر على آلائك التي لا تعد ولا تحصى، اللهم لو شئت لجعلت ماءنا أجاجاً، ولكن رحمتك أدركتنا فجعلته عذباً زلالاً، فلك الشكر لا نحصي ثناءً عليك، فما بنا من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد أنت رب العالمين، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه..


الخطبة الثانية
    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
       أيها المسلمون: إننا نعيش الآن في فصل الشتاء، نحُسُّ بنفثات برْدِه، نستنشق نسمات هوائه اللاذع، نتأمل في كيفية تدرج برودته على بني البشر، يجعلنا نتأمل ونتفكر، آيات تترا، وحكم لا تعد ولا تحصى، وما يشعر به الناس من شدة البرد باختلاف مناطقهم ومناخهم هو نفسٌ من أنفاس نار جهنم، ومصداق ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عندما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر من سمومها}. [رواه البخاري ومسلم]. 
    وهذا التعاقب ـ عباد الله ـ ما بين الحر ارة والبرودة يذكِّر الإنسان في كل فترة من عامه، كيف أحواله مع ذهاب أيامه وأعوامه، وهو في غفلة عن الموت، قد انغمس في شهوات الدنيا وملذاتها.
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل وجاء رسول الموت والقلب غافل
نعيمك في الدنيا غرور وحسرة         وعيشك في الدنيا محال وباطل
   أيها المؤمنون: وممّا لا شك فيه أن الإنسان مجبول على طلب ما ينفعه، والبعد والتجافي عما يضره ويزعجه، وهذه فطرة بشرية، أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لِحُبّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). (العاديات:8). فها نحن قد أخذنا بالاستعداد لتهيئة بيوتنا بالمدافئ والملابس الشتوية وأجود أنواع الفرش، لكن في الوقت نفسه فإن كثيرا من جيراننا وأقاربنا وإخواننا المسلمين مَن يجلسون جلستهم العائلية بلا مدافئ، وترتعد أجسادهم في جنح الليالي من شدة البرد، ويذهب أطفالهم إلى مدارسهم من غير الكساء الذي يلبسه أبناؤنا وإخواننا، فيخترق البرد عظامهم، وليس ذلك إلا من قلّة ذات اليد وقلّة المحسنين. ونحن المسلمين كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. 
     فيا أيها المؤمنون: إننا نعيش هذا البرد، ويعيش معنا إخوان لنا قُدِرْت عليهم أرزاقهم، وقصرت بهم النفقة، وهم بأمس الحاجة إلى العون والمساعدة في برد الشتاء، فقدموا لأنفسكم وتفقدوا إخوانكم المحتاجين، وابدؤوا بأقاربكم وذوي أرحامكم ثم جيرانكم وأهل بلدكم ثم الأقرب منكم فالأقرب، ولا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتق النار ولو بشق تمرةّ.
     فاتقوا الله عباد الله، واذكروا في هذا الشتاء إخوانا لكم في الله، عضّهم الفقر، وأثقلت كواهلهم متاعب الحياة، واسوهم بالقليل من أموالكم، وأسعفوهم بالعيش الرخي، والثوب الرضي، وكونوا لهم عونا في الشدة، وعضدا في المحنة، فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
    اللهم اجعل ما أنزلته صيبا نافعا، واجعله عطاء مشفوعاً برحمة، تصلح بها حالنا وتستقيم بها قوبنا، اللهم وبارك لنا في أسماعنا وأبصرنا وأزواجنا وذريتنا وأموالنا واجعلنا مباركين أينما كنا، اللهم ارحم المنكوبين والجوعى والخائفين والمظلومين في كل مكان، اللهم اجعل لنا مع كل قطرة مطر تفريجا وسعادة ورزقا وعافية واستجابة لكل دعاء وتيسيرا لكل عسير ورحمة لكل ميت وشفاء لكل مريض وعافية من كل بلاء ومن كل ذنب مغفرة ورحمة، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد وعبادك الصالحين، برحمتك يا أرحم الراحمين، واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله، دقّه وجلّه، أولّه وآخره، سرّه وعلنه، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك أنت الغفور الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

05 يناير 2017



الموضوع: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا..

الخطبة الأولى
    الحمد لله، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمه التي تزداد بالشكر فلا تبور، وأستمنحه جلّ في عليائه التوفيق في كلّ الأمور، فهو سبحانه المؤمّل لكشف كل كرب وجبر كل مكسور. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له الغفور الشكور. وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله، بعثه بالهدى والنور، فأشرقت شمس الحقّ في كل الرّبوع والدّور فغدت في سعادة وسرور ورضوان وحبور. صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ليوث الوغى والثغور، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور.
     أما بعد: فأوصيكم ونفسي ـ أحبتي ـ بتقوى الله عز وجل، فإنها دليل الحيران وريّ الضمآن وأنيس الولهان، وخاصة ونحن في زمن لا يدري الواحد منا أيّ الأحداث يتابع، وأيّ المآسي ينازع.
تعددت يا بني قومي مصائبــــنا * فأقفلت بابنا المفـتوح إقفــــالا
كنا نعالج جرحا واحدا فغدت * جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا
    أيها المسلمون: إنه لا سعادة للبشرية عامة وللمسلمين خاصة إلا بالعودة لمنهج الله عز وجل الذي خلق الإنسان وحده، وهو وحده الذي يعلم ما يسعده وما يفسده "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ". الملك:14. وفي منهج الله قمة الخير للإنسانية كلها لتعيش الجماعة كلها في هدوء وأمان. والواجب على أهل الحق والمصلحين أن يأخذوا على أيدي الحمقى قبل أن تغرق السفينة بالجميع.
    فلقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم حال الناس وموقفهم مما يكون في المجتمع من منكرات وإخلال بأمن وهدوء الجماعة، بحال قوم ركبوا سفينة فاقتسموا أماكنهم فيها بطريق القرعة، فكان من نصيب بعضهم الجزء الأعلى من السفينة، وكان من نصيب الآخرين الجزء الأسفل منها، والحديث في كله يبين حال الناس في المجتمع فإنه لا يخلو مجتمع من بعض صور المنكر والفساد التي يقدم عليها ضعاف الإيمان، وقد يلتمس بعضهم لنفسه مبرراً في ما يفعل كأن يقول: هذه حرية شخصية، أو هذا حقنا..
     تعالوا نقرأ الحديث الذي رواه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في كتاب الشركة من صحيحه: (باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه) من حديث النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا".
    أيها الكرام: هذا حديث شريف قلت عدد حروفه وكثرت معانيه، فهو صلى الله عليه وسلم يبين أن الإخلال بأمن الوطن قد يقع من الطيبين خطأ أو جهلا، كما يقع من الأعداء المتربصين الذين يظهرون حب الأوطان ويبطنون الغش والكفران، والإخلال أو الفساد الذي يرتكبه الفرد لا يصيب صاحبه فقط بل يصيب المجموع.
       ضعوا سطرا تحت قول أولئك الذين كانوا في أسفل السفينة: "لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا". أضافوا النصيب إلى أنفسهم "نصيبنا"، هم يملكون الحق الكامل في هذا النصيب، وخَرقُهم ذلك النصيب هو ممارسة الحق بعينه..  
      وهنا صلى الله عليه وسلم يوضح أنه ليس للإنسان أن يستعمل حقّه إن أضرّ بحقوق الآخرين، وهذا ما يسمى في القانون الوضعي: "نظرية التعسف في استعمال الحق".  بمعنى: إن ممارسة الحقوق في المجتمع مرهونة بعدم مسّ حقوق الآخرين. والإسلام كفل حريِّة الرأي والتعبير بمفهومها الإسلاميّ، وحرية الرأي والتعبير تعني: تمتّع الإنسان بكامل حريته في الجهر بالحق وإسداء النصيحة في كل أمور الدين والدنيا ولكن فيما يحقق نفع المسلمين ويصون مصالح كلٍّ من الفرد والمجتمع ويحفظ النظام العام، وذلك في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    أيها الكرام: مع اهتمام الإسلام بحرية الرأي والتعبير إلاَّ أنَّه قد حرص على عدم تحريرها من القيود والضوابط الكفيلة بحسن استخدامها وتوجيهها إلى ما ينفع الناس ويرضي الخالق -جل وعلا -فهناك حدود لا ينبغي الإجتراء عليها وإلا كانت النتيجة هي الخوض فيما يغضب الله أو يلحق الضرر بالفرد والمجتمع على السواء ويخل بالنظام العام وحسن الآداب. والأمن والإيمان قرينان فلا يتحقق الأمن إلا بالإيمان، قال الله تعالى: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون".
وقال الشاعر:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان * ولا دنيا لمـــن لم يُحيِ دينا
ومن رضي الحياة بغير دين * فقد جــعل الفناء لها قرينـا
أيها المسلمون: إن ديننا يدعو إلى كلِّ عمل يبعَث على الأمن والاطمِئنان بين صفوفِ أفراده، وينهى عن كل ما من شأنه زرعَ الخوف والفزَع في المجتمع، والإخلال بوحدة الوطن. والإخلال أو الفساد الذي يرتكبه الفرد لا يصيب صاحبه فقط بل يصيب المجموع، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق الذكر: "فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا".
   روى عبد الرزاق في "المصنَّف" (11/450) عن طاوس رحمه الله قال: لمّا وقَعَت فتنة عثمان؛ قال رجلٌ لأهلهِ: أوثقوني بالحديد؛ فإنّي مجنون.  فلمّا قُتِلَ عثمان؛ قال: خلّوا عني؛ فالحمد لله الذي شافاني من الجنون، وعافاني من قتل عثمان".
      إيهٍ.. إيهْ... إنه أعقل مجنون إذ أوثق نفسه لينجُوَ من الفتنة؛ فلم يواقعها بخلاف مجانين عصرنا، نسأل الله لنا ولهم العفو والعافية. .
     نعم..للأسف... كم في زماننا هذا-زمن الفتن والمحن-مَن يحتاج لشدّ وثاقه وكَفِّهِ والإمساكِ به حتى لا تغرق السفينة وينجو المسلمون من شرِّه.
      فهذا الإنكار على غلاء الأسعار بهذه الصورة فيه تهييجٌ للناس وتدميرٌ للممتلكات وتخريبٌ للمنشآت وترويعٌ للآمنين، وفيه ـ أيضا ـ تسهيلٌ لدخول بعض اللصوص والمنحرفين للسرقة والنهب وتخريب الكثير من الممتلكات، بالإضافة إلى نشاط المرجفين ودخول المخربين الذين يندسون في الصفوف لإحداث الفساد في الناس ولضرب بعضهم ببعض.
     ومن يقرأ المَشاهد قراءة صحيحة ولو على عجل، يعرف أن أعداءً كثيرين لا يريدون لنا ولا لبلدنا أمانًا ولا استقرارًا ولا رخاء ولا ازدهارًا، فهم يحركون مَا ومَن يستطيعون لإحداث فتنة أو ثورة لإحداث الخلل وزعزعة الأمن، ليسهل التآمر والتفكيك لوحدة وطننا وزعزعة أمننا، هم يرغبونها فوضى ويبغونها عوجًا. ولكن الله المستعان وهو أعلم بما يصفون.
     فيجب أن يعي الجميعُ السُّبلَ القويمة لحراسة أمن الوطن، ولا بدّ من الحزم اللازم لتشديد المراقبة والمحاسبة حتى لا يغرق الجميع ويهلكوا. ففي الأزمات تزيغ قلوب أقوام وتزول أحلام أقوام وتتزلزل عقائد أقوام، ولكن بالمقابل يربط الله على قلوب أقوام فيزدادون إيماناً مع إيمانهم وثباتاً إلى ثباتهم وتسليماً على تسليمهم..
  أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم، ويهدي الجميع إلى سبيل الرشاد.. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

الخطبة الثانية

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
  أما بعد: قال اللهُ تعالى: "وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ". يس:6. ألم يكن فِي تلك المدينة غير هذا الرّجل؟!. بلى، كان رجال كثيرون، ولكنَّهم عجزوا عن مثل هذا الجميل من الفعل، فأَثنى القرآن الكريم على مؤمن آل (يس) وخلَّد ذكره لأَنّه أخلص لوطنه وساكنيه وعاش همومَ مواطنيه.
    فكونوا كذلك أنتم، وليقم كل واحد منكم بمسؤوليَّته وواجبه في المحافظة على وطنه، كونوا صفّا واحدا في كتيبة واحدة متراصّة، متعاونين على البرِ والتّقوى لا على الإثم والعُدوان، واشكروا الله على نعمه يزدكم، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
     هذا، وستظلُّ الجزائر بحول الله وقوته، ثم بعزَمات رجالها، وإيمان أهلها ـ رغم المؤامرات والدعوات المُغرِضة ـ بلدَ إسلامٍ وسلام وخيرٍ وإحسانٍ، آمنةً مطمئنة ساكنةً مستقرة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ورحم الله العالم الرباني سيدي عبد الرحمن الثعالبي، فخْرَ الجزائر المحروسة، وصاحب تفسير الجواهر الحسان رحمه الله إذ قال:
إنّ الجـزائر في أحوالـها عـجـب * ولا يدوم بها للناس مكــروه
ما حلّ عُسر بها أو ضاق مُتسع * إلا ويُسرٌ من الرحمن يتلوه
      اللهم بارِك فِي الجزائر، أَرْضِها وسمائها وأكثر خيرها في بَرِّها ومائِها واحفظ اللهم أمنها وعقيدتها من كيد الأعداء ودسائس المغرضين، اللهم احفظها وأكرم حماتها وحراسها وكن لهم وليا وحافظا ونصيرا، اللهم وإنّ بإخواننا في سوريا واليمن وليبيا والعراق وغيرها من بلاد المسلمين من البلوى واللأواء ما لا يرفعه إلا أنت، اللهم ألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وآمنهم في أوطانهم ولا تسلط عليهم من لا يخافك ولا يرحمهم يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ومتِّعنا بعودة القدس وأرض فلسطين عزيزةً مُظفَّرة يا حيّ يا قيّوم يا قويّ يا عزيز، يا ناصر المُستضعفين ومُغيث المُستغيثين ارحم المنكوبين والجوعى والخائفين والمظلومين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمع على الحق والهدى والصلاح كلمَتهم، وابسُط الأمنَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بَطَن، برحمتك يا أرحم الراحمين. ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين..