الموضوع: "سمكة ابريل" والوقوعَ في مزالق الكذب
واستسهال أمره..
الخطبة الأولى
الحمد الله،
الحمد لله الصادق القيل، خصنا بأفضل شريعة وأحسن تنزيل، أحمده سبحانه وأشكره، وعد
الصادقين بأعظم المثوبة ومزيد الفضل والتبجيل، وأوعد بالعذاب الوبيل أهلَ الأكاذيب
والأضاليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها في دار
الكرامة الظلَّ الظليل، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، خير من
أرسل بأزكى خصال وأسطعِ دليل، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان
بأكرم الشيم وأقومِ السبيل، وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد، فيا عباد
الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله ذي العظمة والجلال ولزوم الصدق في الأقوال والأفعال
ليتحقق لكم الخير والفلاح في الحال والمآل، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ".
التوبة:119.
ألا وإنَّ من
أجلِّ نعمِ الله تعالى على العبد المسلم أن يُحبِّبَ إليه الصـــــدقَ، فلا ترتاحُ
نفسُهُ ولا يهــدأُ ضميرهُ إلا بالصدق، فإذا تردَّدَ في أمر: آثر الصمتَ على أن
يقول قـولاً لا يدري أفي حق هو أم في باطل؟، وفي الحديث: "دع ما يَريبُكَ إلى
ما لا يَريبُكَ، فإنَّ الصدقَ طمأنينةٌ، وإن الكذبَ ريبةٌ
".
والكذبُ ـ أيها المباركون-له صورٌ متفرقةٌ وأوديةٌ متشعِبة،
يجمعها وصفٌ واحدٌ هو: الإخبارُ بخلافِ الحقيقةِ عَمْدًا.
وَمَا شَـيْءٌ إِذَا فَكَّــرْتَ فِـيهِ *
بِأَذْهَبَ لِلْمُرُوْءَةِ وَالْجَمَال
مِنَ الْكَذِبِ الّذِي لَا خَيْرَ فِيْهِ *
وَأَبْعَد بِالْبَهَاءِ مِنَ الرّجَال
ألا ومن أنواع
الكذبِ المنتشرةِ بين الناسِ: الكذبُ لإضحاكِ الجلساءِ، فعن مُعَاوِيَةَ بْنِ
حَيْدَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ للذي
يُحدِثُ بالحديثِ ليضحِكَ به القومَ فيكذِبُ، ويلٌ له، ويل له". رواه
الترمذي وقال: هذا حديث حسن.
وللأسف تتجـدّد تتجدّد في كل عام المنـاقشات حول شهر
أبريل، وما اشتهر فيه من "كذبة
أبريل" أو
سمكة أبريل (le poisson d'avril)
تلك الكِذبة التي يتذرّع بها كثير من الناس للمزاح بالكذب؛ الأمر
الذي يتسبب في كثير من الأحوال في فواجع ومشكلات جمّة قد تصل إلى حالات من الفزع،
أو خسارة أموال أو ما شابه ذلك من المصائب دون أدنى قدر من المسؤولية أو العقل.
وكِذْبَةِ أبريل. أو سمكة أبريل موروث غربي
وتقليد أوربي قائم على المزاح يقوم فيه بعض الناس في اليوم الأول من أبريل بإطلاق
الإشاعات أو الأكاذيب، ويطلق على من يصدق هذه الإشاعات أو الأكاذيب اسم
"ضحية كذبة أبريل". التي يُذكَر في أصل نشأتها
كما ذهبت إلى ذلك أغلبية آراء الباحثين على أنها بدأت في فرنسا بعد تبنّي التقويم
المعدَّل الذي وضعه شارل التاسع عام 1564م، وكانت فرنسا أول دولة تعمل بهذا
التقويم، وحتى ذلك التاريخ كان الإحتفال بعيد رأس السنة يبدأ في يوم 21 مارس،
وينتهي في الأول من أبريل بعد أن يتبادل الناس هدايا عيد رأس السنة الجديدة،
وعندما تحول عيد رأس السنة إلى الأول من يناير ظل بعض الناس يحتفلون به في الأول
من أبريل كالعادة، ومن ثم أطلق عليهم ضحايا أبريل، وأصبحت عادة المزاح مع الأصدقاء
وذوي القربى في ذلك اليوم رائجة في فرنسا، ومنها انتشرت إلى البلدان الأخرى،
وانتشرت على نطاق واسع في إنجلترا بحلول القرن السابع عشر الميلادي...
وهناك باحثون آخرون يرون أن: (سمكة أبريل)، دلالة على انتقال
الشمس فيه من برج الحُوت -الذي ينتهي يوم 20 مارس
إلى برج الحمل الذي يبدأ يوم 21 مارس، وقد يكون دلالة على اصطياد المغفَّلين مثلما
تُصطاد السّمكة!.
والواقع أن هذه الأقوال وغيرها لم تكتسب الدليل
الأكيد لإثبات صحتها وسواء كانت صحيحة أم غير صحيحة، وفي كلِّ الأحوال فكِذبة أبريل
تقليدٌ أوروبي يقوم على إشاعة الأكاذيب بين النَّاس في اليوم الأوَّل من أبريل،
ويكون فيه من يُصدِّق هذه الأكاذيب ضحيَّة كذبة أبريل..
وللأسفِ.. أنَّ بعض
المغفلين في مجتمعنا، وفي وسائلِ الإعلامِ ومواقعِ الإنترنت وعلى صفحات الفايس
بوك، يقلدون أولئك بحجة المزاح، ويخالفون أخلاقَ المؤمنينَ وسنةَ خاتمِ المرسلينَ
عليه الصلاة والسلام، فقد جاء في الأثر: "لا يَصْلُحُ الكَذِبُ في جِدٍّ ولا
هَزْلٍ". رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.
ألا ليت هؤلاء يتأملون ذلك الموقف الذي حدّث به
أبو سفيان رضي الله عنه قبل أن يسلم، حينما كان في أرض الشام إذ جيء بكتاب من رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قَوْم هذا الرجل
الذي يزعم أنه نبي؟.
قالوا: نعم، قال: فدُعيت في نفر
من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسبًا من هذا الرجل
الذي يزعم أنه نبي؟ فقلت: أنا، فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا
بترجمانه، فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني،
فكذبوه، فقال أبو سفيان: "وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب
لكذبت".
فتأملوا ـ يا
مسلمين ـ كيف حاذر هذا الرجل الذي كان مشركًا يومئذ من الكذب؛ لأنه يراه عارًا
وسُبّةً لا تليق بالرجل الذي يعرف جلالة الصدق وقبح الكذب؟!.
إنها مروءة العربي
الذي كان يعد الكذب من أقبح الأخلاق، فكيف بكم أيها المسلمون، أفإن راجَت سوقُ
سمكة أبريل عندَ من لا خلاق لهم ولا دين فهل يجوز أن تجد لها رواجا ومكاناً بينكم؟.
ألا ..فإياكم
إياكم والكذبَ والوقوعَ في مزالقه واستسهال أمره، حتى ولو كان لإضحاك الناس أو
كذبا أبيض، فليس في الكذب ما هو أبيض، فكلّه أسود مظلم حالك مهلِك يجرّ الويل
والنكبات، فالكذب مذموم أصلا ولا يصلح في جد ولا هزل، كما قال ابن مسعود: إن
الكذب لا يصلح في جد ولا هزل.
ولعل من الحكمة في النهي عنه ولو في المزاح ما
ذكره بعض أهل العلم من أنه يجرّ إلى وضع أكاذيب ملفقة على أشخاص معينين
يؤذيهم الحديث عنهم، كما أنه يعطي ملكة التدرب على اصطناع الكذب وإشاعته فيختلط في
المجتمع الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ، وقد جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود
ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليكم
بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق
ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور
وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله
كذاباً.
ألا فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين، فأهل الصدق هم الناجون
يوم العرض الأكبر على ربهم، كما قال تعالى: "قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ
يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم". المائدة: 119.
جعلني الله وإياكم منهم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي
ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء
الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فاتقوا
الديان -عباد الرحمن-، والزموا الصدق فإنه مرقاةً للنعم، ولا تقربوا الكذب فإنه مِرْداةٌ
في النقم، ولا يَغُرَّنَكُم باللهِ الغَرور، ولا يَفتِنكُم كثرةُ الهالكين، وكونوا
مع الصادقينَ.
أيها المسلمون: إن الشريعة الإسلامية مبناها على شيئين: الصدق في الأقوال، والعدل
في الأحكام، قال تعالى: "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ
مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ". الأنعام: 115.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما عمل
الجنة؟ قال: "الصدق، وإذا صدق العبد برّ، وإذا برّ آمن، وإذا آمن دخل الجنة،
قال: يا رسول الله ما عمل النار؟ قال: الكذب، إذا كذب فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر
دخل النار".
فاتقوا الله عباد
الله وتحلوا بالصدق، واصدقوا في عبادتكم، وأعمالكم وجميع معاملاتكم، تسعدوا في
دنياكم، وتدخلوا جنة ربكم.. قال صلى الله عليه وسلم: "
أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ
الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ
الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ
حَسَّنَ خُلُقَهُ".
فاللهم اجعلنا من
الصادقين في إيماننا وجميع أقوالنا وأفعالنا، وطهّر قلوبنا من النفاق وأعيننا من
الخيانة وألستنا من الكذب، واسلك بنا سبيل الصادقين الأبرار، وجنبنا طريق الكَذَبة
الأشرار يا عزيز يا غفار. اللهم
مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك، واغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا، اللهم
أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا
آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في خير، واجعل الموت راحة لنا من
كل شر يا رب العالمين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في
قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار. وصل
اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله