19 سبتمبر 2017



الموضوع: وقفة حساب في مطلع العام الهجري الجديد.

الخطبة الأولى
       الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، وتبارك الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا من ذوي الألباب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، ومنه المبتدى وإليه المنتهى والمآب. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل من تعبد لله وأناب. اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم وسلم تسليما.
      أما بعد، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وتبصروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى دار الآخرة، حتى تنتهوا إلى آخر سفركم. وكل يوم يمرّ بكم فإنه يبعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبد اغتنم فرصها بما يقربه إلى مولاه، وطوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال، طوبى لعبد استدلّ من تقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار. "يـقـلـب الله اللـيـل والنهـار إن في ذلـك لعـبرة لأولي الأبصـار".       
    أيها المسلمون: ها نحن نودع عاما هجريا يمضي علينا شهيدا، ونستقبل عاما جديدا. فليت شعري! ماذا أودعنا في العام الماضي؟. وماذا نستقبل به العام الجديد ؟.
 فليحاسب العاقل نفسه، ولينظر في أمره، فإذا كان قد فرّط في شيء من الواجبات، فليتب إلى الله وليتدارك ما فات، وإن كان ظالما لنفسه بفعل المعاصي والمحرمات، فليقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات، وإن كان ممّن منّ الله عليه بالاستقامة، فليحمد الله على ذلك، وليسأله الثّبات إلى الممات.
    أيها المسلمون: إننا نستقبل عاما هجريا جديدا ليس من السنة أن نحدث عيدا لدخوله، أو نعتاد التهاني ببلوغه، فليس الغبطة بكثرة السنين، وإنما الغبطة بما أمضاه العبد في طاعة مولاه، فكثرة السنين خير لمن أمضاها في طاعة ربه، شرّ لمن أمضاها في معصية الله والتمرد على طاعته، فشرّ الناس من طال وساء عمله..
    روى البيهقي في شعب الإيمان أنّ الرسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما فقال: "يا أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية، فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين، بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد لنفسه من نفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت، والذي نفس محمد بيده! ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا دار، إلا الجنة أو النار".
   وحدّث عبيد بن عمير فقال: "كان لرجل ثلاثة أخلاء، فنزلت به نازلة، فبدأ بأقرب الثلاثة إلى نفسه، يناشده العون، فتنكر له وتخلى عنه، ثم ذهب إلى الثاني فأمده بقليل من العون ثم تركه. وذهب إلى الثالث فهبّ لنجدته، وقال: أنا معك حيث تذهب وأيّان تكون، فالأول هو المال يخلفه الإنسان لأهله ولا يتبعه منه شيء، والثاني هم الأهل والعشيرة والصحب، يشيعونه إلى قبره ثم يتركونه وحيدا، والثالث عمله الصالح يبقى معه إلى يوم البعث والنشور". رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.
قال أبو العتاهية :
نعى لك الشباب   المشـيـب     ونادتك باسم سـواك الخـطوب
فكـن مستعدا لريـب المنون     فــــإن الـذي هــــو آت قـريـب
وقبلك داوى الطبيب المريض   فعـاش المريض ومات الطبيب
يخاف على نفسه من يتـوب    فكيف تـرى حال من لا يـتوب
        فاتقوا الله-عباد الله-وليكن لكم من مستهل عامكم الجديد، بداية طيبة، بالإقبال على الطاعة، والبعد عن المعصية، واذكروا في ذكرى هجرة سيد الأنام المثل الرفيعة التي ضربها للأمة في الكفاح والصبر والإحتمال، ومكارم الأخلاق لتشقّوا بها الطريق إلى حياة العزة .
      وإن كانت الأمة الإسلامية تمرّ بما تمرّ به، فلنتذكر قول الحق تبارك وتعالى: "فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا". (الانشراح:5ـ6). وقوله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب".  الطلاق:2ـ3.
       فلقد اعترضت كل العقبات سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم في طريق دعوته، ولكن بفضل توكله على الله وثقته به، وبفضل خوفه منه، ويقينه فيه، فلقد شرح له صدره، ويسر له أمره، ذلل له كل صعب، ويسّر له كل وعر، ووقاه كيد الكافرين. "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ".
    فاتقوا الله أيها المسلمون: وليكن لكم في ذكرى الهجرة ما يعظكم في حاضركم، وينفعكم في أولاكم وآخرتكم، وقفوا وقفة المهاجر بنفسه، وإن لم يهاجر بحسّه.
فلنهاجر إلى الله تعالى بقلوبنا وأعمالنا، فالمهاجر "من هجر ما نهى الله عنه"، ولنلجأ إلى الله ليكون ناصرنا ومؤيدنا، "إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ". 
  نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وأجارني وإياكم من سخطه وعقابه الأليم. وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم، آمين.

الخطبة الثانية

     الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد، أيها المسلمون: فإنّ الزمان هو عنصر وجود الإنسان وسبب بقائه ووعاء عمره الّذي يسطِّر فيه تاريخه ويَرقُم فيه إنجازاته ويخلِد فيه مجده وذكره ويودِع في طياته أخباره وآثاره التي تتناقلُها من ورائه الأجيال وتتحدَّث بها بعده الأيّام؛ بل هو مادّة حياة العبد الّتي يزرع فيها سعادتَه أو يبوء فيها بشقاوتِه؛ كلّ ذلك بحسب اغتنامِه له، واستفادتِه منه.
      يروى أن رحّالةً في أحد العصور القديمة قام برحلة إلى مدينة نائية، وأثناء جولته في منطقة تضم المقابر، استرعى انتباهه أنه مسجل عليها أعمار الموتى، وقد تجاوز كثير منهم المائة عام، إلا أن حياتهم تراوحت ما بين سنوات قليلة، أو أيام معدودة. مثلا: كتب على قبر فلان بن فلان عاش سبعين سنة وعمره عشر سنوات. فاستغرب الرحالة لحال هؤلاء القوم.
فسأل أحدهم عن حقيقة الأمر، فأجابه: بأن العمر الحقيقية عندنا إنما تقدّر بالأعمال العظيمة التي قام بها كل واحد منا. فصمت السائل برهة، ثم قال له: إذا وافتني المنية في بلدكم فاكتبوا على قبري: هذا الرجل مات قبل أن يولد!.
        ولذا تتابعت نصائح العلماء ووصايا الحكماء في الحثّ على اغتنام الأنفاس واللحظات والأيّام والسّاعات فيما يرجع على العبد بالنفع والخيرات، ومن تلك الوصايا العظيمة: وصيّة الحافظ ابن الجوزيّ لولده أبي القاسم -رحمهما الله تعالى- في كتابه (لفتة الكبد في نصيحة الولد) (ص6)؛ حيث قال له: "واعلم يا بُنيّ أنّ الأيّام تبسط ساعاتٍ، وأنّ الساعاتِ تبسط أنفاساً، وكلُّ نَفَس خزانةٌ؛ فاحذر أن تُذْهِب نَفَساً في غير شيء؛ فترى يوم القيامة خزانةً فارغةً؛ فتندَم" !.
      أما الفضيل بن عياض فقد قال لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة. قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله و إنا إليه راجعون. قال الفضيل: أتعرف تفسيره، تقول: إنا لله و إنا إليه راجعون!. فمن علم أنه لله عبد وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسئول. فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل: فما الحيلة؟. قال: يسيرة. قال: ما هي؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك فيما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وما بقي، والأعمال بالخواتيم .
ألا فااتقوا الله ـ عباد الله ـ حق تقواه، وتوبوا إليه وأطيعوه تدركوا رضاه، واستدركوا عمرا ضيّعتم أوله، ولا تضمنون عمل الخير في آخره، فرحم الله عبدا اغتنم أيامه ولياليه.
     واعلموا- يا رعاكم الله- أنه قد أظلكم شهر حرام، الذي هو مفتاح لكل عام، وهو الإمتحان السنوي لإخراج زكاتكم، فأدوها طيبة بها أنفسكم، مبرهنين على إنسانيتكم وإيمانكم، كفكفوا دموع اليتامى والأيامى من إخوانكم وأخواتكم، وأروا الله فيه من أنفسكم خيرا، وأكثروا فيه من الصيام، واعمروه بالطاعة واجتناب الآثام، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
       فاللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعل من ذكرى الهجرة في هذا العام للجزائريين قوّة، اللهم ارفع بها شأنهم، وركّز سلطانهم، وقوّ إيمانهم، وانزع الحقد والغل من قلوبهم يا رب العالمين. ربنا نسألك بعزتك التي أبطلت بها كيد الكائدين لنبيك وطمست بها أعينهم، فأخرجته من بيته وقد طوّقوه بالحديد والنار، وحفظته هو وصاحبه في الغار، نسألك بهذه العزة أن ترد عنا كيد الكائدين الطامعين المفرقين، وأن تحقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم وانشر علينا رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتصلح بها حالنا، وتؤلف بها بين قلوبنا يا أرحم الراحمين. اللهم واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم أهل علينا  شهرك الحرام بالأمن والإيمان والخير والبركات يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.