الموضوع: حول شهداء مأساة تحطم الطائرة العسكرية.
الخطبة الأولى
الحمد لله المنفرد بالبقاء والقهر، الواحد الأحد ذي العزة
والستر، لا ندّ له فيبارى، ولا شريك له فيدارى، كتب الفناء على أهل هذه الدار،
وجعل الجنة عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار، قدر مقادير الخلائق وأقسامها، وبعث
أمراضها وأسقامها، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، جعل للمحسنين
الدرجات، وللمسيئين الدركات. وأشهد أن لا إله إلا
هو مفرج الهموم ومنفس الكروب ومبدد الأشجان والأحزان والغموم، جعل بعد الشدة فرجاً
وبعد الضر والضيق سعة ومخرجاً، لم يُخلِ محنة من منحة ولا نقمة من نعمة ولا نكبة
ورزية من هبة وعطية، نحمده على حلو القضاء ومرّه، ونعوذ به من سطواته ومكره ونشكره
على ما أنفذ من أمره، وعلى كل حال نحمده. ونشهد أن محمداً عبده
ورسوله، دعانا إلى الجنة وأرشدنا إلى إتباع السنة، وأخبر أن أعلانا منزلة أعظمنا
صبراً، من استرجع واحتسب مصيبته كانت له ذخراً ومنزلة عالية وقدراً، وكان مقتفياً
هدياً ومتبعاً أثراً. صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وأزواجه وذرياته الأخيار وسلم
تسليماً كثيراً متصلاً مستمراً.
أما بعد، فاتقوا
الله عباد الله واستغفروه واعلموا أنكم إليه راجعون، واعلموا أن أقدامكم على النار
لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم،
فـ "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها،
وتمنى على الله الأماني ".
إن الحبيب من الأحباب مختلس لا يمنع الموت بوّاب ولا حرس
وكيف يفرح بالدنيا
ولذَّتــــــــــــــها فتًى يعدُّ
عليه اللفظ والنفس
أيها المسلمون: من تأمل في أحوال الخلائق علم
علم اليقين أنه ما من مخلوق إلا وكان له نصيب من آلام الدنيا وأحزانها، كما قال
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " لكل فرحةٍ ترحة، وما مُلئ بيت فرحاً إلا
وملئ ترحاً".
حكم المنية في البرية جاري * ما هذه الدنيا
بدار قرار
بينما يرى الإنسان فيها مخبرا * ألفيته خبرا من الأخبار
بينما يرى الإنسان فيها مخبرا * ألفيته خبرا من الأخبار
ذكر
ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب أن ذا
القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها وبلغ أرض بابل مرض مرضاً شديداً، فعلم
أنه مرض الموت وأشفق على نفسه فكتب لأمه معزياً في ذكاء قائلاً: يا أماه، إذا جاءك
كتابي فاصنعي طعاماً واجمعي من قدرت من الناس ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة،
وتسألي هل وجدت لشيء قراراً. إني لأرجو أن الذي أذهب إليه خيراً مما أنا فيه. فلما
وصل كتابه صنعت طعاماً عظيماً وجمعت الناس وقالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة. فلم
يتقدم أحد من هذا الطعام، فعلمت مراد ابنها فقالت: بني، من مبلغك عني أنك وعظتني
فاتعظت وعزيتني فتعزيت فعليك السلام حياً وميتاً. (تسلية أهل المصائب صـ20،21(.
فيا من ابتليتم بفقد قريب أو حميم، أو بفقد ابن أو وبنت، أو
زوج أو زوجة، أو ولد أو والد في مأساة تحطم الطائرة العسكرية "أليوشين"
المخصصة للنقل والإمداد صباح يوم الأربعاء 11أبريل 2018 ببني مرّاد قرب مطار
بوفاريك العسكري بالبليدة، اعلموا أن ذلك ليس في الموت ببديع ولكن نحسبهم شهداء، فاصبروا
وأبشروا، فقد بشّر الله أصحاب المصائب إنْ هم صبروا بالأجر العظيم والكبير، فلله
الحمد على فضله وجزيل عطائه، قال تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ" الزمر:10
روى الشيخان البخاري
ومسلم عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب
الهدم، والشهيد في سبيل الله".
وزاد
أحمد فيما رواه بسند صحيح على هذه الخمس "صاحب
ذات الجنب، والمرآة تموت بجمع شهيدة". قال الحافظ ابن حجر: وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر
من عشرين خصلة. وذكر منهم: اللديغ، والشريق، والذي يفترسه السبع، والخار عن دابته،
والمائد في البحر الذي يصيبه القيء، ومن تردّى من رؤوس الجبال. قال النووي: قال
العلماء: وإنما كانت هذه الموتات شهادة يتفضل الله تعالى بسبب شدتها وكثرة ألمها.
اهـ. قال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد صلى الله
عليه وسلم بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء.
اهـ
فمن جمعت له هذه الأوصاف أو وصف منها فهو شهيد
في الجزائر أو في أي بلد
من البلاد متى كان مسلما موحداً للمولى تبارك وتعالى. فهؤلاء الذين قضوا في
الطائرة المذكورة ـ وكما ذهب جمهور الفقهاءـ لهم
وصف الشهادة في الدنيا، ونحسبهم كذلك في الآخرة
دون قطع أو إيجاب على الله تعالى إلا
إنهم يغسلون
ويصلى عليهم. ولقد سئل ابن تيمية: عن رجل ركب البحر للتجارة فغرق فهل مات شهيدًا؟ أجاب:
نعم مات شهيدًا إذا لم يكن عاصيًّا بركوبه. اهـ
أيها المسلمون: والموتُ إذا أقبلَ هيَّأَ اللهُ سبحانه له
الأسباب، فمنهم من يموت بمرض من الأمراض، ومنهم من يموت بالقتل، ومنهم من يموت
بالخنق أو التردي من شواهق الجبال أو غيرها ومنهم من يموت في حوادث السيارات وما
شابهها، قال ابن نُباتة السعدي -بضم النون توفي سنة خمس وأربعمائة-:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره * تعددت
الأسباب والموت واحدُ
ومنهم
من يموت مِيتة مشرِّفة، كمن يموت في سبيلٍ من سُبُل الخير؛ يموت غاديا إلى المسجد
أو رائحا، أو ساعيا على أهله، أو يموت شهيدا في سبيل الله، فيُذكر على إثرها
بالخير، ويورث الثناءَ الحسن، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: مُرَّ بِجَنَازَةٍ
فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، (أي مدحوا صاحبها) فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، وَمُرَّ
بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، (أي ذموا صاحبها) فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"،
قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ
عَلَيْهَا خَيْرٌ، فَقُلْت: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ"، وَمُرَّ
بِجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ، فَقُلْتَ: "وَجَبَتْ، وَجَبَتْ،
وَجَبَتْ". فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ
أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ
عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ،
أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ".
رواه البخاري،
ومسلم واللفظ له.
أيها المسلمون: ونهاية المطاف، وثمر القطاف أن رجال الجزائر
الذين قضوا في هذه المأساة، لا نحسبهم إلا من الشهداء والله حسيبهم، ذهب كل واحد
منهم إلى ربه ومعه تفاصيل حياته، أحسن الرحمن وفادتهم وطيب ثراهم وأكرم مثواهم.
وجعل أرواحهم في اجواف طير خضر تسرح من الجنة حيث شاءت.
وفي فترات المحن والمصائب تختبر المبادئ
والشعارات المرفوعة، وتوضع معاني الأخوة والتضامن على المحك فيظهر الصادقون من
الكاذبين، ويتميز الأوفياء عن المتنكرين، ولقد اختُبر الجزائريون في هذا المصاب
فتضامنوا حتى لكأنما بلاياهم أعياد، لأن مثل هذه الأحوال تواجه بالصبر والاحتساب،
والتحرك السريع لتضميد الجراح والتضامن والمواساة، ولقد كان الجزائريون كذلك،
فاللهم زدهم ولا تنقصهم وأكرمهم ولا تهنهم. اللهم وتقبل شهداءنا في الصالحين،
واجعل درجاتهم في عليين، في مقعد صدق مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وحسن أولئك رفيقا، اللهم آمين..
أقول قولي هذا،
وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو
الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله
الولي الحميد الفعال لما يريد، أحمده سبحانه، خضعت له الرقاب، وذلت له العبيد،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نديد، وأشهد أن نبينا محمدا عبده
ورسوله صاحب القول السديد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوعيد.
أما بعد: أيّها المسلمون، إنكم في
دارٍ ليست للبقاء وإن تراخى العمر وامتدَّ المدى. أيّامُها مراحل، وساعاتها قلائل،
والمرءُ لا شكَّ عنها راحِل. شبابُها هرَم، وراحتُها سَقَم، ولذّاتُها نَدَم. الدنيا قنطرةٌ لمن عَبَر وعبرةٌ
لمن استبصَر واعتبر، "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ". آل
عمران:185 .
فاستبقوا
الخيرات، وبادِروا قبل أن تتمنّوا المهلةَ وهيهاتَ هيهات، ولا تغترّوا بحياةٍ تقود
إلى الممَات، لا يُرى في حُشودِها إلاّ الشتات، ولا يُسمَع في ربوعِها إلا "فلان مرِض" و"فلان
مات".
وإذا
كان الموت مصير كل حي ونهاية كل شيء ألا يتعظ العاقل وينزجر الغافل من الغفلة عن
المصير، والسؤال عن الكبير والصغير؟ "قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي
تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ". الجمعة:8
اليوم تُعزِّي وغدا يعزى فيك، واليوم تبكي وغدا يبكى عليك، وإذا
حَملتَ إلى القبور جنازة فاعلم بأنك بعدها محمول ،أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". آل
عمران: 185.
تزود من التقوى فإنك لا تدري * إذا جن ليل
هل تعيش إلى الفجـر
فكـم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا * وقد نسجت أكفانه وهو لا يـدري
وكم من صغار يرتجى لهم طول العمر * وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبـر
وكـم من عروس زينوها لعرسـها * وقد قبضت أرواحهم ليلـة القـدر
وكـم من صحيح مات من غير علة * وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
فـمن عـاش ألفـا وألفيـن إنـه * لابـد من يـوم يسـير إلى القبر
فكـم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا * وقد نسجت أكفانه وهو لا يـدري
وكم من صغار يرتجى لهم طول العمر * وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبـر
وكـم من عروس زينوها لعرسـها * وقد قبضت أرواحهم ليلـة القـدر
وكـم من صحيح مات من غير علة * وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
فـمن عـاش ألفـا وألفيـن إنـه * لابـد من يـوم يسـير إلى القبر
اللهم أيقضنا من سنة الغفلة، ووفقنا للتزود ليوم
النقلة، اللهم ارحم غربتنا في القبور، وآمنا يوم البعث والنشور، واجعل خير أعمالنا
خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم وإنا نسألك في هذه اللحظات المباركات بقلوب
خاشعة ونفوس موقنة مطمئنة أن تغفر لمن فقدناهم في هذه المأساة، اللهم اغفر لهم
وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم، واغسلهم بماء وثلج والبرد، ونقهم من الذنوب
والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اشكر حسناتهم واغفر سيئاتهم،
وأعذهم من عذاب القبر، واجمع لهم برحمتك الأمن من عذابك، واكفهم كل هول دون الجنة،
اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم. واغفر لنا ولهم، اللهم وصُبّ
على أهليهم وذويهم من الرحمات عدد ما سكبوا من العبرات وكظموا من الأنات،
واجعل مصابهم من الباقيات الصالحات، اللهم بارك فِي الجزائر أَرْضها وسمائها وأكثر
خيرها في بَرِّها ومائِها واحفظ أمنها وعقيدتها من كيد الأعداء ودسائس المغرضين
واجعلها آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين. وسلام
على المرسلين، والحمد لله رب العالمين..