31 مايو 2018


الموضوع: غزوة بدر والسنة المتروكة.
الخطبة الأولى
    الحمد لله رب العالمين، كتب العزة والنصر لعباده المؤمنين، وجعل السعادة والفوز لعباده المتقين، سبحانه القائل في كتابه المبين: "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ". الصافات: 171ـ173. نحمده ونستعينه ونستهديه ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى كل من اهتدى بهديه وسار على نهجه واستن بسنته ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
    أما بعد، فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والعمل بما فيه رضاه، فاتقوا الله وراقبوه، وامتثلوا أوامره ولا تعصوه، واذكروه ولا تنسوه، واشكروه ولا تكفروه. واعلموا أن في سيرة النبي العطرة، وآثاره الجميلة الجليلة النضرة، أسوة للمؤمنين، وقدوة للأخيار والصالحين، وفي ثنايا هذا الشهر المبارك كانت ملحمة من ملاحم الإسلام، ويوم من أيامه الجليلة العظام، يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، يوم أعز الله فيه جنده، ونصر فيه عبده، وأذل فيه من عاداه، يوم خاضه رسول الله بالثبات واليقين والإيمان، خاضه مع الصحب الكرام -رضي الله عنهم وأرضاهم-، وبوَّأهم دار السلام، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً ما على وجه الأرض يومها أحب إلى الله منهم، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً كتبت لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً نادى عليهم منادي الله: يا أهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً أقدامهم حافية وثيابهم مرقعة بالية، وأحشاؤهم ظامئة خاوية، ولكن قلوبهم نقية زاكية، وهممهم شريفة سامية عالية، الصحب الكرام -عليهم من الله الرضوان والسلام-.
   إن غزوة بدر الكبرى ـ أيها المسلمون ـ مَعلَمًا عريقًا، و دستورًا منيرًا للدعاة والمصلحين والمجاهدين في معاركهم مع الباطل، يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. غزوة بدر الكبرى التي كان السبب الحقيقي لها "لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ".
       وفي مقامي هذا لن أقوم بسرد تفاصيلها، فقد تناولها الكثيرون بالبحث والتأليف والتصنيف والخطابة، وما أظنني سأضيف شيئا، وإن الدروس المستفادة من غزوة بدر لا تنتهي، ولكن ليس الغرض كثرة الحديث وإنما كثرة الاستفادة..
       فكثيرة هي تلك القيم الحضارية التي ظهرت في غزوة بدر كأحداث رئيسة في المعركة، ولكن في هذه العجالة أقف معكم حول هذه اللطيفة التي ذكرها ابن إسحاق في سيرته، فقال:  
    حدثنا حَبَّان بن واسع، عن أَشياخ من قومه: أَن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عَدَّل الصفوف يوم بدر، وفي يده قِدْح يُعدّل به القوم، فمرّ بسواد بن غَزِيّة، حليف بني عَدِيّ بن النجار، وهو مُسْتَنْتل من الصف، فطعنه رسول الله بالقدح في بطنه، وقال: "استَو يا سواد"، فقال: يا رسول الله، أَوجَعْتني، وقد بعثك الله بالحق، فأَقِدْني. فكشف رسول الله عن بطنه، وقال: "استَقِدْ" (اقتصّ)   فاعتنقه، وقَبّل بطنه، وقال: "مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ"؟ فقال: يا رسول الله، حَضَر ما ترى، ولم آمن القتل، فإني أُحِبّ أَن أَكون آخر العهد بك أَنْ يمس جلدي جلدَك، فدعا له رسول الله بخير
   أيها المسلمون: إنها ساعة الحسم في المعركة، وفي أجوائها وبين صهيل الخيول وصليل السيوف، والخطب شديد، ولكن حقوق الناس أولى، وما أدراك ما حقوق الناس؟. أي عظمة هذه سيّدي يا رسول الله؟.
يا سيدي يا رسول الله معذرةً * إذا كبا فيك تِبياني وتـعبيري
مـاذا أُوَفّيكَ من حقّ وتَكْرُمةٍ * وأنت تعلو على ظني وتقديري
         كيف بالله لا يحبه أتباعه أكثر من أولادهم وأنفسهم، ويفدونه بأموالهم ويهجرون من أجله بيوتهم وقراهم، بحيث يكون مسّ جسده الشريف أكبر أمنية لهم قبل لقاء العدو، وقد يكون فيه موتهم في سبيل الله تعالى بعد أن جاءهم بهذه المفاهيم العظيمة ورسخها في مجتمعهم بدءا من نفسه 
     أيها المسلمون: إنه لا نصر بدون عدل وإنصاف، فبالعدل قامت السموات والأرض، وبالعدل يصلح أمر الدنيا، ومتى لم تقم بعدل لم تقم.. العدل أن تحب لغيرك من الحق مثل ما تحب أن تناله أنت لو كنت مكانه. فيا ليت قومي يعلمون، أو يفيقون فيعقلون.
  ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أوَلسْنا أحوج إلى هذا من نبينا صلى الله عليه وسلم؟. فهل يا تُرَانا نحن نصنع هذا مع من نخطئ معهم في حياتنا؟.
     ألا إن سنّة التحلل من المظالم ـ أيها المسلمون ـ سنّة متروكة، فهل أحييناها. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: "من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه". فلنتدارك أنفسنا، فالدُّنيا تمرُّ وتزول، ويوم القيامة يوم العدل والحساب، والذي لا يُؤدِّي الحقوق في الدُّنيا فسيؤديها يوم القيامة. ولات ساعة مندم..
     أيها المسلمون: إن غزوة بدر بأحداثها وتفاصيلها مدرسة نبويّةً متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من الدروس العظيمة والفوائد الجليلة، التي تلبّي احتياجات الناس وتحلّ مشاكلهم، وترسم لهم منهج التعامل مع مواقف الحياة ومجرياتها. فمن أسباب النصر فيها والتي كان القائد حريصا عليها العدل وقوة الترابط وتآلف القلوب وتراحمها قال تعالى فيها للصحابة رضوان الله عليهم: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"، يقول الزمخشري: إن معنى الريح هنا الدولة، أي تذهب دولتكم. وقال الإمام النووي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". وفي قوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه.." هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قلة من العدد والعدة، ولكنهم كانوا متراحمين متعاطفين متآلفين متكاتفين متناصرين متآزرين شعارهم: لا إله إلا الله. ليس باللسان فحسب، بل في القلوب والسلوك، فأعزهم الله وهم أذلاء، وأغناهم وهم فقراء، ورفعهم وهم وضعاء.
       فسلامٌ عليهم يوم سمعوا وأطاعوا، وسلامٌ عليهم يوم قال قائلهم: "يا رسول الله: امض لما أمرك الله، وصل حبال من أردت، واقطع حبال من شئت، فإنا سِلمٌ لمن سالمت، وحرب لمن حاربت، وخذ من أموالنا ما شئت، والله ما أخذت منها أحب إلينا مما تركت". سلام عليهم من الله ورحمات، "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" الأحزاب: 23.
فاللهم يا فاطر الأرض والسموات أسبغ عليهم شآبيب الرحمات، وبوئهم المنازل العلا في الجنات، واجمعنا معهم مع الآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأبناء والبنات، فبمنك وفضلك تتمّ الصالحات..

الخطبة الثانية
    الحمد لله الواحد القهار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه الأخيار ومن اهتدى بهديهم وعلى نهجهم سار.
   أما بعد، عباد الله: أنعم الله علينا بهذه النعمة العظيمة والمنة الجليلة الكريمة فبلغنا شهر رمضان وما كنا لنبلغه إلا بفضل الحليم الرحمن، وها هي أيام الشهر قد تتابعت ولياليه الغر قد تلاحقت، فبعد ثلاث سنستقبل العشر الأواخر، ختام شهر رمضان ووداعه، بينها ليلة خير من ألف شهر، من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، عشر إذا دخلت على الأخيار والصالحين فروا إلى بيوت الله ركعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، قد فارقوا النوم والكرى والهجود، يرجون رحمة الله الحليم الودود ويسألونه مقامًا في نعيم الجنات.
      اللهمّ بديع السّماوات والأرض، قيّوم السّماوات والأرض لك الملك كلّه ولك الحمد كلّه، لا إله إلا أنت الحي حين لا حي ووجهك أكرم الوجوه وعطيّتك أحسن العطايا واسمك الأعظم أحسن الأسماء، أنت الله لا إله إلا أنت، لا رب غيرك ولا شريك معك، أسألك اللهم بمحامدك كلها يا ذا الجلال والإكرام أن تعتقنا من النار وأن تدخلنا الجنّة مع الأبرار، وان توفّقنا اللهم لقيام رمضان وصيامه على الوجه الذي يرضيك عنّا، اللّهم وفّقنا لصالح الأعمال لا موفّق إلاّ أنت، وارزقنا حلاوة في قلوبنا بطول السّجود بين يديك وحسن تدبّر كتابك وحسن الإنصات إليه، ووفّقنا إلى العمل به بحبّ الخير والدّعوة إليه ورحمة المساكين وتفريج كرب المكروبين، اللهمّ لا تدع لنا في يومنا هذا وفي شهرنا هذا همّا إلاّ فرّجته ولا دينا إلاّ قضيته ولا مريضا إلاّ شفيته ولا ضالاّ إلاّ هديته ولا مظلوما إلاّ أنصفته اللهمّ ارحم موتانا واجعل الجنّة مأواهم ومأوانا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصلّ اللهم في البدء والختام على سيّد الأنام سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين .

24 مايو 2018


الموضوع: أخلاق الصائمين والترفع عن الإساءات

الخطبة الأولى
     الحمد لله الذي أكرمنا برمضان، وجعله موسمًا للرحمة والعفو والغفران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيمُ الرحمن، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيدُ ولد عدنان، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقوى والإيمان.
    أما بعد، فيا عباد الله: أُوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-، فمن اتقاه وقاه وأسعده ولا أشقاه، ورمضان ـ أيها المسلمون ـ من أعظم مواسم التقوى، والصيام مسلك من مسالكها؛ لذا أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-أن الصيام جُنَّةٌ، أي: وقاية يقي أصحابه الفحش والمحرمات، وقد علّل الله الصيام بالتقوى، حيث قال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". البقرة:183.
    فمن أجَلِّ حِكَمِ الصيام: الحصولُ على التقوى، ولكن هل فهم المسلمون هذا المعنى من الصيام؟!.
       قال الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسير هذه الآية: "لعلكم تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة، لأنها تكسر الشهوة، وتضعف دواعي المعاصي"، وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده: "إِنَّ الصِّيَامَ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ". وقال الإمام القرطبي المالكي رحمه الله: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، أي تتركوا معصية الله بهذا الصيام.
    ومعنى ذلك أنكم بالصيام تتّقون المعاصي وتبتعدون عن الشهوات، وقيل: هو على العموم، لأن الصيـام وكما ورد: جُنٌّة ووِجاءٌ وسببُ تقوى. جُنة يتّقى بها الصائم عن المآثم والسيئات والمهلكات المؤدية إلى النار، كما يتقي المحارب بالجُنّة حين القتال.. فليس حقيقة الصيام أن يُترك الطعامُ، وليس الصيام أن يُترك الشرابُ، هذا من الصيام، لكن حقيقة الصيام أن يترك الإنسان ما حرم الله عليه، حقيقته أن ينقاد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيترك ما حرّم النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه.
    وهذا المعنى -أيها المباركون-أكّد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-في أحاديث كثيرة، ففي صحيح البخاري قال نبينا -صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل..."، ذكر ثلاثة أشياء "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
   أما قول الزور: فكل منكر يكتسبه الإنسان بلسانه، الكذب من قول الزور، الغيبة من قول الزور، النميمة من قول الزور، أن تُسمع أخاك كلمة تجرحه، تسيء إليه من قول الزور.
      أما العمل بالزور، فالعمل بالباطل؛ فكل من ارتكب حرامًا أو إثمًا أو ولج إلى باب معصية، فقد وقع في عمل الزور الذي حرمه النبي -صلى الله عليه وسلم-علينا.
    قال: "والجهل"، الجهل: الطيش، والجهل السفه، والجهل أن يتصرف المسلم تصرفات غير مسئولة، هذا الذي يتكلم في الحرام ويقع في معصية الله ويتقحّم المنكرات ويطيش بتصرفاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
    نعم.. فالصوم إنما شُرع ليزكي النفس، ويطهِّر الأخلاق، ويعدّ العبد في مستقبل أمره إلى عمل صالح، واستقامة على الهدى، فكما تغلّب المسلم على ترك مشتهيات النفس المباحة له، تركها لأن الله يريد منه تركها، فإن هذا وسيلة إلى أن يترك المحرمات التي حرمها الله عليه في الصوم وغيره، وبالاستمرار في الصيام لمدة شهر كامل يكون الانسان قد تعود على السلوك الحسن والخصال الحميدة، ومن غير توجيهٍ من أحد، ويقوّي في الإنسان الإرادة والعزيمة في التغلّب عل كل مصاعب الحياة. فالصوم وسيلة لغاية عظمى هي تحقيق التقوى في قلب المسلم، فكن -أخي-حريصاً على صيانة صيامك، وحِفْظه من كل ما يُنقصه ويقلل ثوابه، اسمع نبيك -صلى الله عليه وسلم-يقول: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في ترك طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"..
    ألا وإن من علامات الإخفاق التي نراها هنا وهناك، ما يظهر من مشاكسات، وتشنّج أعصاب ونزاعات، وسبّ وبذاءة لسان، في عمليات البيع والشراء وفي تعامل الزوج مع زوجته، وفي الشارع مع أصحاب السيارات، وفي علاقة الإداري بالمواطن..
     أقول: إن ما يظهر من تلك التصرفات تعبير عن عدم الاستعداد لتحمل المواقف الذاتية، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: "الصيام جنّةـ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفت ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم".
    فلقد بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم-أن الصائم لا يجاري أمثال هؤلاء السفهاء، قال: "فليقل: إِنِّي صَائِمٌ"، ينبغي أن يجهر بها لحكم ثلاثة:
   الحكمة الأولى: حتى يذكّر نفسه بهذه العبادة التي تلبّس بها، والحكمة الثانية: حتى يذكر غيره إنما كف عنه ليس عجزًا وليس خوفًا، بل لأنه من الصائمين، الحكمة الثالثة: من أجل أن يذكر الناس حوله بأن الصائم لا ينبغي أن يُستجرَّ وراء مثل هذه الخصومات ولا مثل هذه الأفعال التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم..
إذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَامُمٌ * وَفِي مُقْلَتِي غَضٌّ وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ
فَحَظِّي إِذَاً مِنْ صَوْمِيَ الجُوعُ والظَّمَا * وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي صُمْتُ يَوْمَاً فَمَا صُمْتُ
    فيا أيُّها المسلم: اعلم أن الصوم إنما جاء لتهذيب الأخلاق، وتعديل السلوك، جاء لينظم حياة المسلم، جاء ليقوي صلة المسلم بربه، وليكون العبد دائما على صلة بربه بفعل الأوامر واجتناب النواهي. فليس كل من كفّ عن الشهوتين بصائم، ويطمع في جزاء الصائمين حتى يضيف إلى ذلك صوم الجوارح والمشاعر، فللعين صيام، وللسمع صيام، وللسان صيام، ولكل جارحة في العبد صيام. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء".
    أيها المؤمنون: الصومُ الحقُّ يسوقُ المؤمنَ إلى تقوى الله سوقًا، ويحدُوه إلى العمل الصالح، والسعي والمسارعة إلى الحسنات تدارُكًا للزمن الفاضل، ومُبادرةً قبل الفوات؛ بَيدَ أن المُشاهَد في الحال أن رمضان لا يعدُو عند الكثيرين أن يكون توقُّفًا عن الطعام والشراب فحسب من غير زيادة عمل، ولا مزيد ورع، والله تعالى يقول: "لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
    فهل حقّق معنى الصيام من ملأ بطنه بأكل المال الحرام؟
   وهل صام فعلاً من أمسك عن المفطرات وأطلق لسانه وسمعه في الحرام؟
    وهل صام رمضان مَن تعدى على الآخرين في أعراضهم أو أموالهم أو أجسادهم أو شارك في ذلك؟ 
    وهل صام حقاً من أمسك عن الغذاء وقلبه وفكره مليئان بالأحقاد والدسائس على المسلمين وقضاياهم؟.
        ألا فتذكروا رحمني الله وإياكم قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لم يدَعْ قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
      فَحَرِيٌّ بالمسلم أن يبدأ بتدريب نفسه عملياً على الاستفادة من هذا الشهر، وأن يعتقد بأنها فرصة سنوية لبقية شهور العام، وأن من حِكَم مشروعية الصيام الوصول للتقوى، وكفى بها من فائدة. فإن لم يزدَد إيمانُك، وتكثُر أعمالُك، وينتهي عصيانُك، فراجِع نفسَك لئلا تكون من المُفرِّطين.
   فالحذر.. الحذر، فقد جاء في الحديث: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ".
    نسأل الله تعالى القدير الجواد الكريم العفو الرؤوف الحليم أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام، وأن لا يردنا محرومين ولا خائبين ولا منكسرين إنه جواد رحيم. 

الخطبة الثانية

     الحمد لله رب العالمين، اللهم إنا نشهد إنك الله، لا إله إلا أنت، لك الحمد كما أنت أهله، وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه كما هو أهله، وافعل بنا ما أنت أهله، فأنك أهل التقوى وأهل المغفرة..
     أما بعد، أيها المسلمون: روى الإمام البخاري رحمه الله، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله: "كلُّ عملِ ابنِ آدم يُضاعَف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلاّ الصيام؛ فإنه لي، وأنا أجزِي به، يدَع طعامه وشرابَه لأجلِي، للصائم فَرحتان: فرحة عند فِطره، وفرحة يوم لقاءِ ربّه، والصوم جنّة، فإذا كان يومُ صَومِ أحدِكم فلا يرفَث ولا يصخَب، وإن أحدٌ سابَّه أو قاتله فليقل: إني امرؤٌ صائِم، والذي نفسِي بيدِه لَخَلوف فمِ الصائم أطيَبُ عند الله من ريحِ المِسك".
     انظُر ـ أيها المسلم ـ كيف استوجبَ الصومُ تشريفَهُ بِنِسْبَتِهِ إلى الله،ِ مَع أنّ كلّ العبادات لله سبحانه،  وانظُر كيفَ أنّ أجره بدون حساب  لا كالأعمال الأخرى تضاعفُ إلى سبعمائة ضعف. وانظُر كيف وصفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنّهُ محضُ تركٍ لأجل الله جلّ وعلاَ. وانظُر كيفَ يترُكُ صاحبُهُ الرفثَ والمقاتلة والسبَّ والصَّخب، لأنَّهُ امرؤٌ صائم.
      يُرى، وهي تُربّي النفسَ الإنسانيّة على أن تدعَ لوجه الله جلّ وعلاَ، وهذا هو المقصودُ الأعظم.جميعُ هذه المعاني شرّفَ اللهُ بها عبادة الصيام؛ لأنَّها عبادةٌ تَركيَّةٌ في الأساس، لا فعلَ فيها
    فيا أيها الصائم: إذا لم يحمِلكَ صومُكَ على تركِ الخنا والكذبِ وقولِ الزورِ والعملِ الزورِ -وهي محرّماتٌ بيقين-؛ فكيف طاوعتكَ نفسُك في الحقيقةِ على تركِ الحلالِ لوجه الله جلّ وعلاَ؟.. ولا شكّ أنَّ تركَ الأوّل أولى وأعلَى..
     والعاقل الفطن لا يفكر في وقت الإفطار ولا في يوم العيد؛ بقدر تفكيره واهتمامه بقبول الله تعالى لعمله، إذ أن مصيبة المصائب أن تصوم ثم يرد عليك صيامك، وأن تصلي فلا تقبل صلاتك، وهذه والله مصيبة المصائب، قال علي ـ رضي الله عنه ـ: "كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: (إنما يتقبل الله من المتقين)".
     فاللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم تقبل منا الصيام والقيام، واحشرنا في زمرة خير الآنام، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، اللهم واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، ووفق ـ اللهم ـ ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وسائر المسلمين يا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.