الموضوع: غزوة بدر والسنة المتروكة.
الخطبة الأولى
الحمد لله رب
العالمين، كتب العزة والنصر لعباده المؤمنين، وجعل السعادة والفوز لعباده المتقين،
سبحانه القائل في كتابه المبين: "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ
جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ". الصافات: 171ـ173. نحمده ونستعينه ونستهديه
ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده
الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك
له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير،
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله
بإذنه وسراجا منيرا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في
سبيل ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى كل من اهتدى بهديه
وسار على نهجه واستن بسنته ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد
الله: أوصيكم
ونفسي بتقوى الله، والعمل بما فيه رضاه، فاتقوا الله وراقبوه، وامتثلوا أوامره ولا
تعصوه، واذكروه ولا تنسوه، واشكروه ولا تكفروه.
واعلموا أن في سيرة النبي العطرة، وآثاره الجميلة الجليلة النضرة،
أسوة للمؤمنين، وقدوة للأخيار والصالحين،
وفي ثنايا هذا الشهر المبارك كانت ملحمة من ملاحم الإسلام،
ويوم من أيامه الجليلة العظام، يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، يوم أعز الله فيه
جنده، ونصر فيه عبده، وأذل فيه من عاداه، يوم خاضه رسول الله بالثبات واليقين
والإيمان، خاضه مع الصحب الكرام -رضي الله عنهم وأرضاهم-، وبوَّأهم دار السلام،
ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً ما على وجه الأرض يومها أحب إلى الله منهم، ثلاثمائة وأربعة
عشر رجلاً كتبت لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً نادى
عليهم منادي الله: يا أهل بدر: "اعملوا
ما شئتم فقد غفرت لكم"، ثلاثمائة
وأربعة عشر رجلاً أقدامهم حافية وثيابهم مرقعة بالية، وأحشاؤهم ظامئة خاوية، ولكن
قلوبهم نقية زاكية، وهممهم شريفة سامية عالية، الصحب الكرام -عليهم من الله
الرضوان والسلام-.
إن غزوة بدر الكبرى ـ أيها المسلمون ـ مَعلَمًا
عريقًا، و دستورًا منيرًا للدعاة والمصلحين والمجاهدين في معاركهم مع الباطل، يوم
الفرقان يوم التقى الجمعان.. غزوة بدر الكبرى التي كان السبب الحقيقي لها "لِيُحِقَّ
الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ".
وفي مقامي هذا لن أقوم بسرد تفاصيلها، فقد
تناولها الكثيرون بالبحث والتأليف والتصنيف والخطابة، وما أظنني سأضيف شيئا، وإن
الدروس المستفادة من غزوة بدر لا تنتهي، ولكن ليس الغرض كثرة الحديث وإنما كثرة
الاستفادة..
فكثيرة هي تلك القيم الحضارية التي ظهرت في غزوة بدر كأحداث رئيسة في المعركة،
ولكن في هذه العجالة أقف معكم حول هذه اللطيفة التي ذكرها ابن إسحاق في سيرته،
فقال:
حدثنا حَبَّان بن
واسع، عن أَشياخ من قومه: أَن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عَدَّل الصفوف يوم بدر،
وفي يده قِدْح يُعدّل به القوم، فمرّ بسواد بن غَزِيّة، حليف بني عَدِيّ بن
النجار، وهو مُسْتَنْتل من الصف، فطعنه رسول الله بالقدح في بطنه، وقال: "استَو
يا سواد"،
فقال: يا رسول الله، أَوجَعْتني، وقد بعثك الله بالحق، فأَقِدْني. فكشف رسول الله
عن بطنه، وقال: "استَقِدْ"
(اقتصّ) فاعتنقه، وقَبّل بطنه، وقال:
"مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ"؟ فقال: يا رسول الله، حَضَر ما
ترى، ولم آمن القتل، فإني أُحِبّ أَن أَكون آخر العهد بك أَنْ يمس جلدي جلدَك،
فدعا له رسول الله بخير
أيها
المسلمون: إنها ساعة الحسم في المعركة، وفي أجوائها وبين صهيل الخيول وصليل
السيوف، والخطب شديد، ولكن حقوق الناس أولى، وما أدراك ما حقوق الناس؟. أي عظمة هذه سيّدي يا رسول
الله؟.
يا سيدي يا رسول الله معذرةً * إذا كبا فيك
تِبياني وتـعبيري
مـاذا أُوَفّيكَ من حقّ وتَكْرُمةٍ * وأنت تعلو على ظني وتقديري
مـاذا أُوَفّيكَ من حقّ وتَكْرُمةٍ * وأنت تعلو على ظني وتقديري
كيف بالله لا يحبه أتباعه أكثر من أولادهم
وأنفسهم، ويفدونه بأموالهم ويهجرون من أجله بيوتهم وقراهم، بحيث يكون مسّ جسده
الشريف أكبر أمنية لهم قبل لقاء العدو، وقد يكون فيه موتهم في سبيل الله تعالى بعد
أن جاءهم بهذه المفاهيم العظيمة ورسخها في مجتمعهم بدءا من نفسه
أيها المسلمون: إنه لا نصر بدون عدل وإنصاف،
فبالعدل قامت السموات والأرض، وبالعدل يصلح أمر الدنيا، ومتى لم تقم بعدل لم تقم..
العدل أن تحب لغيرك من الحق مثل ما تحب أن تناله أنت لو كنت مكانه. فيا ليت قومي
يعلمون، أو يفيقون فيعقلون.
ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر
الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أوَلسْنا أحوج إلى هذا من نبينا صلى الله عليه وسلم؟.
فهل يا تُرَانا نحن نصنع هذا مع من نخطئ معهم في حياتنا؟.
ألا إن سنّة التحلل من المظالم ـ أيها المسلمون
ـ سنّة متروكة، فهل أحييناها. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: "من
كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار
ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من
سيئات صاحبه فحمل عليه". فلنتدارك
أنفسنا، فالدُّنيا تمرُّ وتزول، ويوم القيامة يوم العدل والحساب، والذي لا يُؤدِّي
الحقوق في الدُّنيا فسيؤديها يوم القيامة. ولات ساعة مندم..
أيها المسلمون: إن غزوة بدر بأحداثها وتفاصيلها
مدرسة نبويّةً متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من الدروس العظيمة والفوائد الجليلة،
التي تلبّي احتياجات الناس وتحلّ مشاكلهم، وترسم لهم منهج التعامل مع مواقف الحياة
ومجرياتها. فمن أسباب النصر فيها والتي كان القائد حريصا عليها العدل وقوة الترابط
وتآلف القلوب وتراحمها قال تعالى فيها للصحابة رضوان الله عليهم: "وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"، يقول الزمخشري: إن معنى
الريح هنا الدولة، أي تذهب دولتكم. وقال الإمام النووي في
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".
وفي قوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى
منه.." هذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض وحثهم على
التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه. وقد كان أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم في قلة من العدد والعدة، ولكنهم كانوا متراحمين متعاطفين متآلفين
متكاتفين متناصرين متآزرين شعارهم: لا إله إلا الله. ليس باللسان فحسب، بل في
القلوب والسلوك، فأعزهم الله وهم أذلاء، وأغناهم وهم فقراء، ورفعهم وهم وضعاء.
فسلامٌ
عليهم يوم سمعوا وأطاعوا، وسلامٌ عليهم يوم قال قائلهم: "يا رسول الله: امض لما
أمرك الله، وصل حبال من أردت، واقطع حبال من شئت، فإنا سِلمٌ لمن سالمت، وحرب لمن
حاربت، وخذ من أموالنا ما شئت، والله ما أخذت منها أحب إلينا مما تركت". سلام عليهم من الله ورحمات، "رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ" الأحزاب: 23.
فاللهم يا فاطر الأرض والسموات أسبغ عليهم شآبيب الرحمات،
وبوئهم المنازل العلا في الجنات، واجمعنا معهم مع الآباء والأمهات والإخوان
والأخوات والأبناء والبنات، فبمنك وفضلك تتمّ الصالحات..
الخطبة الثانية
الحمد
لله الواحد القهار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب
والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى
آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه الأخيار ومن اهتدى بهديهم وعلى نهجهم سار.
أما بعد، عباد
الله: أنعم الله علينا بهذه النعمة العظيمة والمنة الجليلة الكريمة فبلغنا شهر
رمضان وما كنا لنبلغه إلا بفضل الحليم الرحمن، وها هي أيام الشهر قد تتابعت ولياليه
الغر قد تلاحقت، فبعد ثلاث سنستقبل العشر الأواخر، ختام شهر رمضان ووداعه، بينها
ليلة خير من ألف شهر، من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، عشر إذا
دخلت على الأخيار والصالحين فروا إلى بيوت الله ركعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا،
قد فارقوا النوم والكرى والهجود، يرجون رحمة الله الحليم الودود ويسألونه مقامًا في
نعيم الجنات.
اللهمّ بديع السّماوات والأرض، قيّوم السّماوات والأرض لك الملك كلّه ولك
الحمد كلّه، لا إله إلا أنت الحي حين لا حي ووجهك أكرم الوجوه وعطيّتك أحسن
العطايا واسمك الأعظم أحسن الأسماء، أنت الله لا إله إلا أنت، لا رب غيرك ولا شريك
معك، أسألك اللهم بمحامدك كلها يا ذا الجلال والإكرام أن تعتقنا من النار وأن
تدخلنا الجنّة مع الأبرار، وان توفّقنا اللهم لقيام رمضان وصيامه على الوجه الذي
يرضيك عنّا، اللّهم وفّقنا لصالح الأعمال لا موفّق إلاّ أنت، وارزقنا حلاوة في قلوبنا
بطول السّجود بين يديك وحسن تدبّر كتابك وحسن الإنصات إليه، ووفّقنا إلى العمل به
بحبّ الخير والدّعوة إليه ورحمة المساكين وتفريج كرب المكروبين، اللهمّ لا تدع لنا
في يومنا هذا وفي شهرنا هذا همّا إلاّ فرّجته ولا دينا إلاّ قضيته ولا مريضا إلاّ
شفيته ولا ضالاّ إلاّ هديته ولا مظلوما إلاّ أنصفته اللهمّ ارحم موتانا واجعل
الجنّة مأواهم ومأوانا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصلّ
اللهم في البدء والختام على سيّد الأنام سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على
المرسلين والحمد لله ربّ العالمين .