06 فبراير 2019


الموضوع: الأسرة هي حائط الصدّ الأول للوقاية من الآفات الإجتماعية

الخطبة الأولى
        الحمد لله الذي أمر بالإصلاح، ونهى عن الفساد، وحثّ على رعاية مصالح العباد، ورغّب في عمارة البلاد. أحمده سبحانه، فهو للحمد أهل، وأشكره على واسع المنّة والفضل. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أمر بشكر المحسنين، والتعاون عل ما فيه الخير للناس أجمعين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
     أما بعد، فخير الوصايا وصيّة رب البرايا، قال تعالى: "وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ". النساء:131، فاتقوا الله رحمكم الله، فإن تقوى الله خير لباس وزاد، وأفضل وسيلة إلى رضى رب العباد، وهي العِصْمة الباقية، والجُنَّة الواقية، جعلني الله وإياكم من المتقين..
    أيها المسلمون: إن المتأمل في الواقع الاجتماعي لكثير من المجتمعات بما فيه مجتمعنا الجزائري يدرك ما أحدثته المتغيرات الحضارية من نقلة نوعية في حياة الأفراد والأسر والبيوتات، انعكست آثارها السلبية على كافة المستويات، لا سيما في القضايا الاجتماعية. فبعد أن كانت قضايا الأمة الاجتماعية متَّسمة باليسر والسهولة انقلبت إلى صُور جديدة متَّسمة بالعَنت والمشقة والتعقيد، لتظهر أنماط جديدة وظواهر خطيرة، يُخشى أن تُسهم في خلخلة النظام الاجتماعي في الأمة إن لم يُتداركِ الأمرُ..
    نعم للأسف.. فلقد تفشَّت ظواهر العقوق، وتخلّى كثير من الأبناء والآباء عن أداء الحقوق، وعلَتْ نسبة العنوسة، وكثُرت المشكلات الاجتماعية، فارتفعت معدَّلاتُ الطلاق، وتعدَّدت أسبابُ الانحراف والجريمة والانتحار والمخدرات والمسكرات، وجنوحُ الأحداث وتشرُّدُ الأطفال، والعنفُ العائلي، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا به..
   ولا ريب أن من أهمّ الجوانب التي تولَّاها الإسلام بالعناية والرعاية، وأحاطها بسياج منيع من الصيانة والحماية:  الأسرة حائط الصد الأول للوقاية من الآفات الاجتماعية بكل أنواعها، واستقرارُها والتلاحم والتراحم بين أبنائها وأفرادها هو الأساس في تحقيق سعادة المجتمع، وضمان استقراره، وهي الركيزة العظمى في إشادة حضارة الأمة وبناء أمجادها. ولذا لو حاولنا ان نعرف بعض أسباب هذه الأمراض والآفات الإجتماعية لوجدنا:

    أولاـ  ضعفُ الوازع الديني، سوءُ الخلق الراجع لعدم تربية الأبناء تربية إسلامية من طرف الوالدين، ممّا يخوٍّل لبعض الأبناء التصرّفَ خارج الضوابط الإسلامية. فمسؤولية تربية الطفل تقع على الآباء فهم الذين لهم أثر كبير في صقل خلق الطفل و تربيته تربية حسنة ليصبح فردا صالحا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.. ". الحديث. رواه البخاري
   ثانياـ  انعدام الرقابة من قبل أولياء الأمور، إما لانشغالهم في العمل طوال النهار، و منْحُهُم الحريةَ و الثقةَ المطلقة لأبنائهم في تصرفاتهم دون أي ضوابط.. فالتفريط في تربية الأبناء، أو التخلِّي عن المسؤولية تجاههم، ذلكم هو الغدر وتلكم هي الخيانة وذلكم هو الغش الموصل إلى النار، أخرج البخاري ومسلم واللفظ للبخاري من حديث مَعْقِل بْن يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ". فارعوا أبناءكم، وأدوا أماناتكم، وانصحوا لأولادكم، فكلٌ مسؤول عن رعيته .
   ثالثاـ الصحبة الطالحة، وحب الإثارة والمغامرة يدفع ببعض الأبناء للتقليد الأعمى الذي يؤدي بهم إلى الانحراف. لذلك كان التوجيه النبوي في اختيار الأصدقاء والرفقاء في قوله عليه الصلاة والسلام: "مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة". صحيح مسلم. وطبقاً لهذا وغيره فإنّ الحذر من رفقاء السوء يساوي في المقدار والأهمية ضرورة تهيئة الصحبة الصالحة للأبناء، ولقد نبًه على ذلك كثير من العلماء المسلمين، موجهين خطابهم إلى الوالدين وكل من قام على تربية الأبناء، فهذا الإمام ابن الجوزى رحمه الله يقول: "أمّا تدبير الأولاد فحِفْظُهم من مخالطةٍ تُفسد أخلاقهم، وليُحْمَلَ الولدُ على صحبة الأشراف والعلماء، وليُحَذَّر من مصاحبة الجهال والسفهاء، فإن الطبع لص". ابن الجوزى، صيد الخاطر:220.  وينقل - رحمه الله- عن إبراهيم الحربي- وهو من علماء التابعين رضى الله عنهمقوله: "أول فساد الصبيان بعضُهم من بعض". ابن الجوزى ـ ذم الهوى:97.
   رابعاـ  جهل الأبناء بأمور الحياة، قد يقودهم إلى المهالك والمزالق والانحرافات دون أن ينتبهوا إلا بعد فوات الأوان، أي بعد أن يكون أحدهم قد دفع ضريبة جهله ثمناً باهضاً، سجناً أو طرداً من البيت أو هجراناً من قبل الأصدقاء، وبكلمة أخرى يصبح منبوذاً اجتماعياً يتبرّأ أهله وأصحابه منه. فالصغير ـ أيها المسلمون ـ لن يتعلم إلا بالإحتكاك مع الكبير، وعلماء الاجتماع يقولون: "إن الطباع يسرق بعضها بعضا".  وانظروا إليه صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام البخاري عن مسلمه بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس يوما إلى نفر من أصحابه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فأتي بإناء فيه لبن ليشرب، فشرب ثم يريد أن يُعطي الموجودين بعده، فمن السنة أن يعطى من عن يمينه والغلام عن يمينه، ولكن يريد أن يعطى الأشياخ لسنهم، فقال يا غلام: ائذن لي أن أسقي الأشياخ قبلك؟. فقال: يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا. راوي الحديث يقول: فسلمه النبي صلى الله عليه وسلم في يده.
   إنها قمّة احترام الطفل وتعويده علي مجالسة الكبار وإبداء رأيه، فلم ينهره ولم يقل له كما يفعل البعض مع الصغار، عندما يأتي الضيوف ادخل عند النساء لأنه عيب أن يجلس الصغار مع الكبار، ومن هنا يتربى الولد ضعيف الشخصية، فإذا لم يجلس الولد أو يمشي مع الكبير ليتعلم، فمتي يتربّى؟.
   خامساـ التأثير السلبي الذي تلعبه وسائل الإعلام من أنترنيت، وفضائيات تلفزية وغيرها.. والإعلام بشكل عام سلاح ذو حدين: من الممكن أن يكون نافعًا للشاب، ومن الممكن أن يكون عاملاً من عوامل الانحراف، بحيث أن وسائل الإعلام تَعرض الأفلام والمسلسلات الأجنبية البوليسية، أو الإثارة أو الرعب، مع التفصيل في مواطن الانحراف كالرقص والزنا وشرب المخدرات وجرائم السرقة. وهذا ما هو إلا طريقٌ للانحراف الفكري والسلوكي لدى الشاب.
   أيها المسلمون: وما من مشكلة يعاني منها المجتمع إلا ونحن جميعاً مسؤولون عنها، أفراداً وجماعات  ومنظمات وهيئات رسمية وغير رسمية، فالمجتمع كلٌّ متداخل، فلا بد من الوعي، ولا بد من الحركة نحو الإصلاح، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وليس في تقصير البعض ما يبرر إعراض الآخرين عن القيام بالواجب، لأن الخطأ لا يبرره خطأً آخر. وإن صلاحَ المجتمعِ والأمةِ الإسلامية من صلاح الفرد، وكل المعاملات والسلوكات البشرية تبدأ من حسن أو سوء الخلق. ومن هنا تكمن أهمية الاهتمام بالنشء في تربيته تربية حسنة، وبمساره في المجتمع ينتهي به لأن يكون رجلَ الغدِ الصالحَ والمثقفَ منه الطبيبُ والمعلم والإمام والمدير والشرطي والصانع والتاجر وغير ذلك، النافعون لبلدهم وللأمة الإسلامية جمعاء.
      فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ وتعاونوا على الخير، وحاربوا الشر؛ فإن الله تبارك وتعالى جعل من صفات المؤمنين المسلمين أن يوصي بعضُهم بعضاً لكل خير، وأن يتآمروا بالمعروف وأن يتناهوا عن المنكر. قال تعالى: "وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ".  سورة العصر
   بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
    الحمد لله رب العالمين خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالتعاون على البر والتقوى ونهى عن الإثم والعدوان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرُ الناس للناس، وخيرُ الأهل لأهله، اللهم صلّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
    أما بعد، عباد الله: إن للأسرة دورًا كبيرًا في رعاية الأولاد – منذ ولادتهم – وفي تشكيل أخلاقهم وسلوكهم، وما أجمل عبارة : ” إن وراء كل رجل عظيم أبوين مربيين”، وكما يقول بعض أساتذة علم النفس : “أعطونا السنوات السبع الأولى للأبناء نعطيكم التشكيل الذي سيكون عليه الأبناء”. وكما قيل : “الرجال لا يولدون بل يُصنعون". وكما عبر الشاعر
وينشأُ ناشئُ الفتيانِ مِنا * على ما كان عَوَّدَهُ أبُوه
وإهمال تربية الأبناء جريمة يترتب عليها أَوْخَم العواقب على حد قول الشاعر:
إهمالُ تربية البنين جريمةٌ  * عادت على الآباء بالنكبات
    نعم.. للأسفِ الشديدِ- إن كثيراً من الآباء -أصلحَ اللهُ أحوالَهم- يكونون سَبَباً لشقاءِ أولادِهِم وفسادِهِم، قال ابن القيم رحمه الله: "وكمْ ممن أشقى ولدَه وفلذةَ كبِدِه في الدنيا والآخرةِ بإهمالِه، وتركِ تأديبِه، وإعانتِه على شهواتِه، وهو بذلك يزعُمُ أنه يكرِمُه، وقد أهانه، ويرحمُه وقد ظلمَه، ففاتَه انتفاعُه بولدِه، وفوَّت على ولدِه حظَّه في الدنيا والآخرةِ، وإذا اعتبرتَ الفسادَ في الأولادِ رأيتَ عامَّتَه من قِبَلِ الآباءِ".
   أيها المسلمون: إن المسلمَ الحقَّ يهمُّه ويكرثه مسلكُ بنِيه نحوَ ربِّهم وإخوانِهم، وليست وظيفتُه ومهمتُه أن يُزحمَ المجتمعَ بأولادٍ ترَكَ حبلَهم على غاربِهم، وهذا هو هديُ الأولين من المؤمنين. فهذا خليلُ اللهِ إبراهيمُ عليه السلام يقول: "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ". وهذا نبيُّ اللهِ نوحُ يدعو ابنَه ويُلِحُّ عليه فيقولُ: "يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ". وهذا يعقوبُ يتعهَّد أولادَه في الرَّمَقِ الأخيرِ كما قصَّ الله تعالى: "أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ". وهذا ركْبُ المؤمنين الصادِقين المتبعين، ركبُ عبادِ الرحمنِ يلهجون قائلين: "رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً". 
    فاتقوا الله -رحمكم الله وقوموا بمسؤولياتكم تجاه أبنائكم وسلوا الله صلاحها، وأن يحفظ عليكم دينكم وأن يثبتكم على الحق إلى الممات، وأن يحييكم في عافية مما أحاط بكم من الشرور والأمور المهلكات، واشكروه على نعمه وآلائه، فبالشكر تدوم النعم وتُحفظ. واعلموا أن سعادة الدنيا والآخرة بصلاح القلوب وانشراحِها، وزوالِ همومِها وغمومِها وأتراحِها، فألزموا طاعة الله وطاعة رسوله، تدركوا هذا المطلوب، واذكروا الله كثيرا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب..
   اللهم احفظنا واحفظ أبناءنا وبناتنا بما تحفظ به عبادك الصالحين، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، اللهم واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، ووفق ـ اللهم ـ ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.