14 مارس 2019


الموضوع: اليوم الوطني لذوي الإحتياجات الخاصة
الخطبة الأولى

     الحمد لله الذي أعلى كرامة بني الإنسان، وجعلهم خلفاء في الأرض، كتب على نفسه الرحمة، وأزال على الناس بدينه الغمّة، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أبدع الكون بقدرته، وملك الخلق بربوبيته، خلت الطرق كلها إلا طـريـقه، وفسدت المشارب طُرًّا إلا رحيقه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، نشر التراحم بين الناس، فما أمر حتى أقنع، وما بنى حتى جمع، فكان سيد الرحماء، وإمام الحكماء، تركنا على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك. فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأخيار البررة، وصحابته والتابعين لهم بإحسان.
   أما بعد، قال تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم". التوبة:128.
    أيها المسلمون: لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، عزيزا عليه ما أعنتهم وشقّ عليهم. حريصا على هدايتهم، رءوفا رحيما بهم، لا يكلفهم من الأمر عُسرا، ولا يحملهم من المشقة نُكرا، قال تعالى: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القـلب لا نفضوا من حولك". آل عمران:159.
     لقد كان صلى الله عليه وسلم رءوفا بأصحابه وأتباعه، ومتحنّنا عليهم ومقدّما لهم في المصالح على نفسه. إذا رأى الضعفاء ونظر إلى الشيوخ والنساء والأطفال خفض لهم جناحه ووطّأ لهم كنفه، إذا دعوه لبّاهم وإن اتجه إلى الله بهم في العبادة خفّف عنهم. أليس هو القائل: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوّز في صلاتي ممّا أعلم من شدّة وجد أمه ببكائه". رواه البخاري. وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف، فإن منهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة، وإذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء". كان-صلى الله عليه وسلم-يستميل القلوب، ويجذب العواطف، ويشرح الصدور بالإحسان، كان يتخذ من المستضعفين أصدقاءه وجلساءه وجنود دعوته وحملة رايته، يقول لأصحابه: "أبغوني ضعفاءكم–أي هاتوهم– فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم". رواه الترمذي.
      وما أكثر المواقف التي تجلّت فيها رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضعفاء، ويكفي أن تعود – أيها المسلم-إلى كتب السيرة والشمائل، فتجد الفيض الكبير من الأدلة والشواهد على ذلك.
    أيها المسلمون: والجزائر تحتفل باليوم الوطني لذوي الإحتياجات الخاصة، فيجب أن نلتفت إلى مدى عناية الإسلام بهم، وكيف فجّر في قلوبهم ينابيع السعادة، فأصبحوا راضين عن الحياة والكون من حولهم، لأنهم علموا أن هذا الكون الفسيح، "صنع الله الذي أتقن كل شيء". "خلق فسوّى وقدّر فهدى". وسمعوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من همّ ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها خطاياه". متفق عليه.
    سمعوا ذلك فكانوا نماذج صنعها الإيمان، فهذا ابن أم مكتوم– الأعمى– الذي لم تسمع به الدنيا قبل الإسلام، ولم يكن له ثِقل بين القبائل، فلا كان بطلا مغوارا، ولا ممّن له الرأي والكلمة، ولكن بفضل إيمانه حمل القرآن اسمه إلى الدنيا، فهو الذي عوتب فيه رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم. حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفعه حسن النية وطهارة القصد إلى الإقبال على أحد السادة مِن قريش يدعوه إلى الإسلام، مرجئا لهذا السبب، الإهتمام بأحد فقراء المسلمين - عبد الله بن أم مكتوم الأعمى – الذي جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستهديه، وينزل الوحي بأسرعَ من الضوء حاملا إليه عتاب ربه في أسلوب محذر، قال تعالى: "عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكّى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدّى وما عليك أن لا يزكّى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهّى".  عبس:1ـ 10. وتلقّى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدرس من ربه، فلم يعُد أبدا يأبَهُ بأولئك العَلِيّة، وعاد إلى الفقراء والمستضعفين، فكان يلقى ابن مكتوم فيرحب به ويقول: "أهلا بمن عاتبني فيه ربي". انظر الجواهر الحسان ص:561.
ولقد شارك هذا الأعمى المسلمين حياتهم الإجتماعية والسياسية، ومنذ وصوله إلى المدينة شارك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد، ولم يتخلف عن صلاة واحدة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأمره بالأذان للصلاة إذا غاب بلال، وكان صوته عذبا، بل جعل صلى الله عليه وسلم الأذان في شهر رمضان المبارك لبلال لإيقاظ النائم، وتنبيه الغافل، وعندما يؤذن ابن أم مكتوم يكون إيذانا بالامتناع عن الطعام والشراب وإمساك الصائمين. كـما كـان صلى الله عليه وسلم يستخلفه على المدينة عند خروجه إلى غزواتـه، فاستخلفه حين خرج إلى أحد والخـندق وعمرة الحديبية وغـيـر ذلـك.
وهذا أيضا عمرو بن الجموح الأنصاري – أعرج شديد العرج – كان له أربعة بنين شباب، يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوم أحُد طلب إلى بنيه أن يُعدّو له عدّة الجهاد، فقال له بنوه: "إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد". فأتَى عَمرو الرسول صلّى الله عليه وسلم. فقال: "إنّ بنيّ هؤلاء يمنعوني أن أجاهد معك، ووالله يا رسول الله، إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة". فقال الرسول– صلى الله عليه وسلم: "أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد"، وقال لبنيه: "وما عليكم أن تدَعُوه لـعل الله يرزقه الشهادة؟"، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل شهيدا. وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "إنّ منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبرّه". رواه البيهقي في السنن الكبرى.
   أيها المسلمون: أعمى وأعرج وغيرهما كثير، ما أحسّوا بالدونية، وما ضعفوا، وما انسحبوا من تبعاتهم، لم يشعر أي فرد ضعيف أو معوقّ، أنه ضئيل أو هَمل، فلقد اعطاهم الإسلام حقوقهم، وحرص على دمجهم في المجتمع، وحقق لهم ما يعيشون به بين أفراد المجتمع أعزاء لا يذلون لأحد سوى الله. فهم وأمثالهم لم يخرج عن كونهم أشخاصاً ابتلاهم الله تعالى بما أفقدهم من قدراتهم أو حواسهم وأصبحوا معوّقين عن الحركة والعمل والكسب أو العطاء كغيرهم من الناس، ومن ثم احتاجوا إلى مزيدٍ من الرعاية والعناية، والله سبحانه وتعالى خلق الخلق وجعلهم متفاوتين ومختلفين فمنهم القوي ومنهم الضعيف ومنهم المريض والسليم ومنهم المعافى والمبتلى، ليبلوهم أيهم أحسن عملا، فمن رحم الضعيف وساعد المحتاج ورحم صاحِب البلاء وأعان العاجز، رفع الله قدره وأكثر خيره وأوسع لَه في رزقه وغفر ذنبه وأحسن إليه كما أحسن إلى خلقه وأدخله الجنة برحمته، قال صلى الله عليه وسلم: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
    وفقنا الله وإياكم للخير، وبارك لنا ولكم بالقرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
   الـحمد لله رب العالمـين، سبّحت الكائنات بحمده، وعنت الوجوه لعـظـمته ومـجـده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
   أما بعد، فيا رحمكم الله: اذكروا في هذا اليوم– اليوم الوطني للذوي الإحتياجات الخاصة– هؤلاء. واعلموا أن الدهر قُلّب، والناس في سفينة تتقاذفها أمواج الحياة ترفعها تارة. وتخفضها أخرى– ولا عاصم إلا من رحم الله – وإنما يـرحم الله من عبـاده الرحـماء.  
ثمانـــية لابد منها على الـفتى *  ولابد أن تجرى عليه الثمانية
سرورٌ وهمٌّ واجتماع وفرقة   * ويسر وعسر ثم سُقم وعافية
   ولقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراعي أصحاب الحاجات الخاصة في كل أحوالهم، فكان يأمر أصحابه فيقول: "من صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض وذا الحاجة". يقول لأصحابه: "أبغوني ضعفاءكم–أي هاتوهم– فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم". رواه الترمذي. وكذلك كان الصحابة الكرام يفعلون، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما روى أبو نعيم في الحلية، كان يخرج في سواد الليل فرآه طلحة، قد دخل بيتا ثم دخل بيتا آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجلِ يأتيك؟ قالَت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصلحُني، ويخرج عني الأذَى. وفِي عهدِ الخليفة عمر بن عبدِ العزيز - رضي الله عنه- كتبَ إلى أمرائه أن يحصوا له ذوي الاحتياجات الخاصة، وجعل لكل أعمى قائدا، ولكل مقعد خادما، وفرض للزَّمِن رزقا مخصوصا. حتى قيل: إن الزَّمِن أصبح أحبّ إلى أهله من الصحيح. (إصلاح المجتمع ص:219).
       عباد الله: إن مكانة هؤلاء في المجتمع كبيرة وعظيمة، وذلك بمساهمتهم في خيره وإسعاده من حيث نشعر أولا نشعر، لقد رأى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن له فضلاً على من دونه، فقال صلى الله عليه وسلم: "هل تنصرون، وترزقون إلا بضعفائكم". رواه البخاري، وعند النسائي: "إنما نصر الله هذه الأمة بضعفتهم بدعواتهم وصلا تهم وإخلاصهم".
       ومن بيننا فئةٌ من ذوِي الاحتياجات الخاصة، كالأعمى والأصمِّ وقليل الإدراك وضعيف الحركةِ، وأمثالهم، وهم قادرون بغيرهم  على العطاء في حياتهم بتعاوننا جميعا معهم، وكم في ذلك من الأجر الكبير، قال صلى الله عليه وسلم، فيما رواه ابن حِبان: "إِنَّ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ: التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ... وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَتُسْمِعُ الأَصَمَّ، وَتَهْدِي الأَعْمَى، وَتَدُلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ".
    فتعرّفوا ـ أيها المسلمون ـ إلى الله في الرخاء، يعرفكم في الشدة، وكونوا كما أمركم الله، وكما كان سلفكم الصالح الذين وقّفوا أموالهم وحبّسوها كلها أو بعضها على إطعام الجائع وسقاية الضمآن وكسوة العريان، وإيواء الغـريـب وعلاج المريض وكفالة اليتيم وإعانة المحروم، فتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون..   
    اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بك من أن نغتال من تحتنا، اللهم إنا نسألك صحة في إيمان، وإيمانا في حسن خلق وعمل، وأنزل رحمتك وشفاءك على المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين..