11 أغسطس 2019

الموضوع: خطبة عيد الأضحى (1440هـ ـ2019م)

الخطبة الأولى
   الله أكبر (7)، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
   الله أكبر حقاً حقاً، الله أكبر محبة وصدقاً، الله أكبر عبودية ورقاً. الله أكبر تشدو بها الطيور على الفنن، وتلهج بها الألسن في كلّ زمن. الله أكبر، له الكبرياء والثناء، وإليه الرجاء ومنه النعماء. الله أكبر لم تحجبه سماء عن سماء، ولا شغلته أرجاء عن أرجاء، الله أكبر دعاه المريض على سريره، وفزع إليه المنكوب في أموره، وهتف باسمه الرُّبّان في البحار، ولهج بذكره من ضلّ في القفار. الله أكبر يُدعى للكرب الشديد، ويُنادى للخطب العتيد، يُفَرَّ إليه في الملمات، ويُركَن إليه في الأزمات. 
   الحمد لله كم أعطى من النعيم، الحمد لله كم منح من الخير العميم، الحمد لله كم تفضل به من النوال الجسيم، الحمد لله عمت نعمه، وانصرفت نقمه، وتضاعف كرمه. الحمد لله على تمام المنة، الحمد لله بالكتاب والسنة، والحمد لله على نعمة الإسلام، الحمد لله على تواتر الإنعام، الحمد لله ما توالت أفضاله، وعم نواله، وحسنت أفعاله، وتمت أقواله، الحمد لله وحمده أحسن قيل، وهو مولي الجميل، وواهب العطاء الجزيل، وشافي العليل، والمبارك في القليل، الحمد لله أجود من أعطى، وأصدق من أوفى.  
 وصلى الله  وسلّم على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، طاهر المظهر والمخبر، خير من دعا إلى الله وبشر وأنذر، وأفضل من صلى وزكى وصام وحج واعتمر، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مديداً وأكثر .
إنه العيدُ جاءَ ضيفًا عزيزًا  * فاكتُبُوا بالمِدادِ فيضَ التهاني
كبّرُوا اللهَ، عَلَّ تكبيرةَ العيدِ* تضخّ الضميرَ في الشريانِ
زلزلَتْ في القديمِ إيوانَ كسرَى* هلْ تهزُّ الغداةَ كِسرَى الزمانِ
    أما بعد :فاتقوا الله تعالى ـ عباد الله ـ واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعمة الدين العظيم، الذي أكمله لكم، وأتم عليكم به النعمة، ورضيه لكم ديناً، قال تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" . 
عباد الله: لئن فاخرتِ الأمم مَن حولنا بأيامها وأعيادها فإنما هي تضرب في تيهٍ، وتسعى في ضلال، ويبقى الحق والهدى طريق أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالحمد لله الذي هدى أمة الإسلام سبيلها وألهمها رشدها، وخصها بفضلٍ لم يكن لمن قبلها. فيا ربنا لك الحمدُ سرًّا وجهرًا، ولك الحمدُ دومًا وكرًّا، ولك الحمد شعرًا ونثرًا. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
    أيها المسلمون: هذا يوم عظيم، هو يوم الحجِّ الأكبر أفضل أيام السَّنة، وهو أكبر العيدين وأفضلُهما، وهو   خاتمة أفضل عشرٍ في العام، وهو الوسط بين أيام العشر وأيام التشريق، وكلُّها أيام ذِكرٍ وتكبير؛ قال تعالى: "وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ". الحج: 28، وهي أيام العشر؛ وقال تعالى: "وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ". البقرة: 203، وهي أيام التشريق، وهي أيام أكْلٍ وشربٍ وذِكرٍ لله تعالى كما جاء في الحديث.
   فما أعظمَ فضلَ الله تعالى علينا! وما أشدَّ رحمتَه بنا! إذ هدانا إلى ما يقرِّبنا إليه، فله الحمد دائمًا وأبدًا. .  الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.    
    اليوم -يا عباد الله -يومُ الذِّكر والشكر، وهو يوم الذبح والنحر، قال تعالى: "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ". الكوثر: 2.   يومٌ امتحن الله فيه قلوب عباده المؤمنين وأوليائه الصالحين، ليَعلم علم مشاهدةٍ ما تنطوي عليه هذه القلوب من الخير والطاعة والإستسلام والتضحية.
    يومٌ امتحن الله فيه نبيه ورسوله وخليله أبا الأنبياء إبراهيم على نبينا وعليه السلام لرؤيةٍ رآها، كما ذكر الله في كتابه العزيز، قال تبارك وتعالى: "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ". سورة الصافات: 99ـ11ـ1
    يا له من بلاء، ويا له من امتحان.. ولكن أمر الله يجب أن يطاع، والأنبياء أحرص الناس على طاعة الله، وقد صدّق إبراهيم الرؤيا، ورضي بقضاء الله وسلّم تسليما، ولم يجد من ابنه إسماعيل إلا الصبر والطاعة المطلقة والإستسلام التام: "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين".
         ويطرح إبراهيم ابنه على جبينه لينفّذ أمر الله فيه، فإذا برحمة الله التي هي دوما قريب من المحسنين، ويعلم الله من الأب والإبن إخلاصَهما وصفاءَ معدنهما فيجعل لهما من أمرهما مخرجا، فيأتي النداء من السماء: "يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين". وينظر إبراهيم على نبينا وعليه السلام فيجد الكبش محضرّا أمامه ويُؤمَر بذبحه ويَخلي سبيل ابنه، فذبحه وهو يكبر تعظيما لله وشكرا له، ويخلِّد القرآن هذا الحادث ويصفه بأنه البلاء المبين كما سمعتم.. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر.
     عباد الله: لقد مرّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بامتحان التّكليف فَوَفَّيَا، فهل نوفّ نحن أم ننتكس؟
       فبعض المغزى من قصة إبراهيم على نبينا وعليه السلام أن يمتثل المسلم أمر الله لا يتلكّأ ولا يتهرب، وأن يكون سخيّا معطاء، وأن يعتقد بأن الله جاعل له من أمره يسرا، قال تعالى: "إنا كذلك نجزي المحسنين".
     وما هذه الأضاحي التي تتقرّبون بها إلى الله في يومكم هذا إلا سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والتسليم، ولقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن لنا بكل شعرة منها حسنة وبكل صوفة حسنة، وإنها تأتي يوم القيامة شاهدة لصاحبها بما قام به من الشكر لله والتودّد إلى إخوانه. فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحبّ إلى الله من إهراقه دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدّم ليقع من الله عزّ وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا". رواه الترمذي.  الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
       فهنيئا لكم هذا اليوم، وهنيئا لكم بما منّ الله عليكم من بهيمة الأنعام، فاشكروا الله وكبروه، وضحّوا عن أنفسكم وأهليكم، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم حيث ضحّى عنه وعن أهل بيته. قال أنس رضي الله عنه: "ضحّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين– أي أبيضين خالصين– أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبر ووضع رجله على صفاحهما". رواه البخاري.
   ألا وإن السنة في ذبح الأضحية أن تكون بعد صلاة العيد، فقد روى البخاري بسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "إنَّ أوّلَ ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلِّي، ثم نرجع فننحَر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا، ومن نحر قبلَ الصلاة فإنما هو لحم قدّمه لأهله، ليس من النسُكِ في شيء". فاذبحوا أضاحيكم في هذا اليوم المبارك، وليكن رائدكم في عملكم هذا تقوى الله، قال تعالى: "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم". الحج: 137. وكلوا منها وأطعموا البائس الفقير والقانع والمعترّ، واعلموا أن ما تقدّمونه من خير فلأنفسكم، واشكروا الله وأكثروا من حمده وعظموا شعائر الله، "فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ". الحج:32،  واعلموا أنه ما عُبِد الله في يوم النحر بمثل إراقة دم الأضاحي، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، والذبح ممتد إلى غروب الشمس من ثالث أيام التشريق.. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
    واعلموا أنه يشرع في هذه الأيام التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبة، فكبّروا وارفعوا به أصواتكم، وأحيوا سنة نبيكم نَضَّرَ الله وجوهكم. جعل الله لنا ولكم مواسم الخيرات مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات إلى رحمتك طريقا وسلما، وصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه،  أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...   
الخطبة الثانية
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا..
   الحمد لله رب العالمين، نحمده حمد الشاكرين، سبحانه سبحانه، هو أكبر من كل كبير، وله الخلق والتدبير وإليه المرجع والمصير وهو نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.  وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد
أتاكم العيد بالأفراح فاحتفلوا ـ واكثروا من تهاني العيد واتصلوا
وبلّغوا الأهل والأصحاب تهنئة بالعيد يزهر فيها الحب والأمل
    أما بعد، فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأطيعوه، فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصل، وهي العدّة العتيدة لمن رام خيرًا وصلاحًا، ونَشَد عزًا وفلاحًا، وقَصد برًّا وتوفيقًا ونجاحًا.
أيها المسلمون: إن الأعياد ليست بعودة الأيام ولا بتكرّر السنين، وإنما بما يتحقّق فيها من القيم الإنسانية والأهداف النبيلة، قال أبو إسحاق الألبيري مبينا حقيقة معنى العيد:
ما عيدُك الفخْمُ إلا يومَ يُغفَرُ لَكْ * لا أن تَجُرَّ به مستكبراً حُلَلَكْ
كم من جديدِ ثيابٍ، دينُهُ خَلِقٌ * تكادُ تلعَنُه الأقطار حيث سَلَكْ
ومن مُرَقَّعِ الأطْمارِ ذي وَرعٍ * بكت عليه السَّمَا والأرضُ حين هَلَكْ
   فما الأعياد إلا مظهر من مظاهر الطاعة والتقوى والأخوة الصادقة والتعاون والتعاطف والتراحم بين المسلمين أينما كانوا وحيثما وجدوا، فيومكم هذا هو يوم تآخ وتصادق وتسامح وتصالح، أفرغوا صدوركم من الضغائن والحقد والغلّ والحسد، وصِلوا أرحامكم وأقاربكم وجيرانكم وأصلحوا ذات بينكم..
   واعلموا ـ عباد الله ـ أن ربنا أَمَرنا بأن نتعاون على كل خيرٍ مباركٍ فيه عزٌّ للإسلام و أهلِه، وعلى كلّ ما فيه نفعٌ للمسلمين. جاء في تفسير القرطبي عند تفسير قوله تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ  وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ". المائدة: 02، قال الماوردي: "ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبرّ وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومَن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمّت سعادته وعمّت نعمته". وقال ابن خُوَيْزٍ مَنْدَادُ في أحكامه: "والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه: فواجبٌ على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلّمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة، قال : "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم".الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله  كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
  عباد الله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظ النساء في صلاة العيد بعد الرِّجال، واقتداء بِه، أقول مستعينًا بالله ربي: أيَّتُها النساء: اتَّقِينَ الله في أنفسِكُن، فاحفظنَ حدودَه، واعملنَ بأوامره، واجتنبنَ ما نَهى عنه وزَجر، وقُمنَ بحقوق أزواجكنَّ وأبنائكنَّ وبناتكن، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واحذرنَ أشدَّ الحذَر أنْ تنجرِفنَ إلى ما تفعله بعض نساء المسلمين اليوم مِن الخروج إلى الأسواق والمستشفيات والمنتزهات والبِحار والطُّرقات وأماكن العمل مُتبرِّجات مُتجمِّلات مُتطيِّبات قد كشفنَ عن وجوههنَّ وشُعورهنَّ ونُحورهنَّ وسِيقانهن، ولبِسنَ الألبسة الضيقة التي تُجسِّد وتُفصِّل أعضاء البدن، فإنَّ ذلك لَمِن المحرَّمات الكُبرى، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا".

أيَّتُها النساء: أكثِرنَ مِن الصدقة، وزِدْنَ في الإنفاق في سبيل الله، كلما تيسَّر لكُن، واحذَرْنَ اللعن للأهل أو الرِّفقة أو الأباعد، وابتعِدْنَ عن مُقابلة إحسان الأزواج لكنَّ بالجُحود والكُفران وعدمِ الشُّكر، واحفظنَ جميلهم عليكُن دون نسيان ما استطَعْتُن، فإنَّ اللعن وكُفران الإحسان مِن أعظم أسباب كثرة النساء في النار، إذ صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على النساء في مُصلَّى العيد فقال لهن: " يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّار، فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ". والعَشير هو: الزوج.

هذا وأذكّركم ـ عباد الله ـ ونفسي آلاء الله، ونِعمَ الله، وعطاءَ الله، فاشكروه سبحانه وتعالى يزدكم، فإنه من لم يشكر الله عز وجل أصابه موعوده سبحانه وتعالى من الهلاك والدمار، قال تعالى: "وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ". النحل:112.
     فانظروا  أي نعمة نعيشها؛ نعمة الأمن في الأوطان واجتماع الأهل والخلان والصحة في الأبدان، ولذا وجب علينا أن نشكر الله، ونتذكّرَ إخوانًا لنا مفزَّعين ملْتَاعِين في فلسطين وفي بلادِ الرافدَين وفي ليبيا واليمن وفي كلّ مكان، والله المستعان على ما تَصف وتَنْقُل وكالات الأنباء ونشرات الأخبار.. وكم عمَّ في كثير من البلاد الإسلامية من فتن وضلالات، فرَّقت الأمة ودمَّرت البلاد، دمروا بلادهم بأيديهم قبل أيدي أعدائهم، وفسحوا المجال لتدخل الأعداء في شئونهم، فتن فرّقت القلوب ومزّقت الشمل. وتناسينا فلسطين الجريحة.
كانت فلسطين موالاً لأمتـنا * ما بالها لم تعد للناس موالا
تعددت يا بني قومي مصائبنا * فأقفلت بابنا المفتوح أقفـالا
كنا نعالج جرحاً واحدا فغدت * جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا
        أيها المسلمون: الوضع خطير والجرم كبير والفساد عريض، فتنٌ أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "فتنٌ يرقق بعضها بعضاً"، ما تأتي فتنة عظيمة إلا ويعقبها ما هو أعظم وأشد منها، كل ذلك بأسباب ذنوب العباد وإعراضهم عن شرع الله وانخداعهم بآراء أعداء الله المندسين بين صفوفهم المريدين تدميرهم من حيث لا يشعرون، نسأل الله أن يثبتنا على دينه وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهديَ الجميع إلى صراطه المستقيم.
     اللهم تدارَك أمةَ نبيِّك الأمين، وانصرهم على عدوّك وعدوهم يا قوي يا متين، اللهم انشُر بينهم الأمن والإيمانَ والتقوى، وجنِّبنا وإياهم الآفات في السر والنجوى، يا كاشف كلِّ بلوى، لا إله إلا أنت يا رب العرش العظيم، اكفِنا ما أهمَّنا وما لا نهتمُّ به، وما أنت أعلمُ به منا، وكن هَمَّنا أنت وحدَك يا أكرم الأكرمين. اللهم يا محوِّل الأحوال حوِّل حالنا وحال المسلمين أجمعين إلى أحسن حال، وعافِنا من أحوال أهل الضلال وفِعل الجهال يا رب العالمين، اللهم نسألك لنا ولبلدنا وللأمة مِن خير سألك منه عبدُك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك مما استعاذك منه عبدُك ونبينك سيدُنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بك. اللهم وإن لنا إخوانا هم حجاج بيتك نغبطهم على ما يسرت لهم، لكن نسألك أن تتقبّل منهم، وأن تيسّر أمورهم، وأن تجعل حجهم مبرورا وذنبهم مغفورا، وأن تعيدهم إلى بلدانهم سالمين وبالأجر غانمين. ربنا اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولجميع المسلمين، وأعد علينا على اليوم بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
.وكل عام والجميع بتوفيق الله في خير وعافية، وصلى الله وسلم على محمد.

06 أغسطس 2019

الموضوع: وقفة مع خطبة حجة الوداع..
الخطبة الأولى

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. مَنْ يهدِ الله فلا مُضلَّ له ومن يُضْلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أُوصيكم عباد الله بتقوى الله وأَحُثُّكُم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير..
      وبعد، أيها المسلمون: تعود بِنا الذّكرى تتراآى لعينِ القلبِ المُحِبّ المُشتاقِ المُلَبِّي، وإن حَبَسَهُ حابسٌ وحالَ دونَ سيره حائِل .. فنعيش معا في ظلال صورة وارفة ومشهد مهيب، زمناً نستقطعهُ من زمننا هذا..
    نعم أيها الأفاضل: عمّا قليل.. وفي أطهر البقاع، في منى وعرفات يلتقي البشر من مختلف أنحاء العالم، ينصهرون جميعا في بوتقة الإيمان والتعبد والتضرع إلى الله عز وجل، يتوافدون رجالا وركبانا من كل فج عميق، في أعظم رحلة يقوم بها المسلم في حياته لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام..
     ونحن هنا.. وأعناقنا تشرئب إلى المسجد الحرام، ونتابع في خشوع ما يدور هناك، وما سيكون في منى وعرفات، وتكتحل عيوننا برؤية جموع الطائفين والقائمين والركع السجود، وتصل إلى أسماعنا هتافاتهم بالتلبية حتى أعماق قلوبنا. لبيك اللهم لبييك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك..
   وإننا لنسعد والحجيج زوار بيت الله الحرام، تترى أخبارهم وهم يقومون بهذه الشعيرة بكل حبّ وإيمان وتجرّد، بما تنقله لنا وسائل الإعلام في رسائلها المبثوثة والمصوّرة، وإننا لنمدّ أبصارنا وأفكارنا لنستعيد الكثير الكثير من الصور المتعلقة بهذا الركن.. وأهمّها وأجلّها وأعظمها على الإطلاق صورة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي سعدت به الدنيا ثلاثا وستين سنة، وها هو يحج حجة الوداع، تلك الحجة التي قام بها صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، فعلّم الناس مناسكهم وبيّن لهم سنن حجهم، وألقى خطبته الجامعة في عموم المسلمين..
      إنه اليوم يلمّح بالرحيل بعد أن بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، وغرس الإيمان في قلوب من آمن به لينشروا دين الله بعده، إنها كلمات مضيئة، وعبارات جامعة، وبنود معدودة، يلقي بها إلى سمع الدنيا، وعليها أن تسمع، لقد استنصت الناس، وأمر واحدا من الذين كانوا يقفون إلى جواره أن يردّد ما يقول، وليردّد ثالث ورابع، حتى يصل كلامه إلى أبعد الحجيج مكانا، وكانوا مائة ألف أو يزيدون، وقف الجميع وكأنما على رؤوسهم الطير، ما بين معجب ومشرئب بعنقه وواجم، وخاصة عند ما قال: "أيها الناس: اسمعوا أبين لكم، فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا...". أنصت الناسُ طويلا، وفكّروا مليّا، وجذبتهم بقوة هذه العبارة، وساد الصمت والقلق ودمعت العيون، لكنه صلى الله عليه وسلم كان يتحدّث كعهده دائما بكل الحبّ والصدق والإخلاص..
   وما أسعدني اليوم.. وأنا أكرّر هذه الخطبة، كما كرّرها يومئذ ربيعة بن أمية بن خلف وراءه، وكما جاءت في كتاب سيرة ابن هشام رحمه الله في الجزء الرابع صفحة 250 وما بعدها..
  قال ابن إسحاق: وخطب النّاس خطبته الّتي بيَّن للنّاس فيها ما بيّن، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال:
"
أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلَّغْتُ. فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ؛ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ وَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ، قَضَى اللَّهُ أَنَّهُ لا رِبًا وَإِنَّ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ بَنُو هُذَيْلٍ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ. أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ " إنما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ"، (سورة التوبة آية36ـ37 )، وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا؛ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنِ انْتَهَيْنَ ؛ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ لا يَمْلِكْنَ لأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّكُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، فَاعْقِلُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَاسْمَعُوا قَوْلِي؛ فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ، وَتَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ وَاعْقِلُوهُ؛ تَعْلَمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إِلا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، فَلا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟"، قَالَ: فَذُكِرَ أَنَّهُمْ قَالُوا اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ".
    ألا ما أعظم السؤال! وما أعظم المَقام! ثلاثة وعشرون عاماً قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ والدعوة والصبر والمصابرة والجهد والجهاد، ومع ذلك يَسأل ويَستشهِد على بلاغه لأمته، فأجابته الجموع بفمٍ واحد: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحت وأديت الذي عليك، فرفع صلى الله عليه وسلم إصبعه الشريفة إلى السماء، وجعل ينكتها إلى الناس وهو يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد .  
    وإنا نشهد يا نبي الله أنك قد بلغت وأديت، ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك، ما تركت أمراً يقرب من جنة الله إلا وأرشدتنا إليه، وما تركت جرماً يبعدنا عن الله إلا وحذرتنا منه..
صلَّى عليك الله يا خيرَ الورى * تعداد حبات الرمال وأكثرا
صلَّى عليك الله ما غيثٌ همى * فوق السهول وبالجبال وبالقرى
يا خير مبعوث بخير رسالةٍ * للناس يا خير الأنام وأطهرا
صلى عليك الله في عليائه * ما صاح داع للأذان و كبرا
صلوا على المختار أحمد إنه * أزكى الأنام وخير من وطئ الثرى
   اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى أله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما أمر، والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، والصلاة والسلام على خير من حج واعتمر، ووقف بعرفة والمشعر، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، وسلم تسليماً كثيراً .
    أما بعد، أيها المسلمون: لقد كانت خطبة الوداع والتي تخللت شعائر الحج لقاءً بين أمة ورسولها؛ كان لقاء توصية ووداع، توصيةَ رسول لأمته، لخّص لهم فيه أحكام دينهم ومقاصده الأساسية في كلمة جامعة مانعة، خاطب بها صحابته والأجيال من بعدهم، بل خاطب البشرية عامة، بعد أن أدى الأمانة وبلَّغ الرسالة ونصح للأمة في أمر دينها ودنياها.
والعالم الإسلامي يمر بالمرحلة التي تعرفون، فإن الإيمان والعقل والوعي والخلق القويم، يفرض علينا أن نستفيد من هذه الخطبة.. فيا لو عمل المسلمون بهذه التوجيهات الكريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لسادوا ولأصبحوا أقوى الشعوب قوة، ولكن.. يا أسفاه..
    ليتهم يدركون عند تأملّهم قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس"، ولم يقل: "يا أيها الذين آمنوا"، فإن دلّ ذلك على شيء، فإنما يدل على يقضته صلى الله عليه وسلم بأنه سيأتي على الناس يوما يتّهم الإسلام بما ليس فيه، وأكّد ذلك في أول بند من بنود هذه الخطبة.. وذكر شريعته في المال والدماء، "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم"، وكان البند الثاني والقرار الصارم، هو إماتة الروح الجاهلية في نفوس المؤمنين، فلا فخر ولا استعباد ولا ظلم، فأبعدهم عن ربا الجاهلية والدم، وحذّرهم من التشبيه بالجاهليين، وأعلن في قرار ثالث، وصيته بالنساء خيرا، فأثبت لهنّ ضمانات حقوقهنّ وكرامتهن. وفي البند الرابع وضع صلى الله عليه وسلم القانون الإلهي الذي إن تمسّك به المسلمون نجوا ونجحوا، وكانوا خير أمة أخرجت للناس..
      خطبة افتتحها صلى الله عليه وسلم بما افتتحت به، وألقاها في مثل أيامكم هذه من السنة العاشرة للهجرة، وأشهد عليها آباءكم وأسلافكم حين قال كما جاء في رواية صحيح مسلم: "وأنتم مسؤولون عنّي فما أنتم قائلون؟.
   وفي هذه الكلمة وحدها ـ أيها المسلمون ـ ما يدلّ دلالة واضحة على أهمية شأن هذه الخطبة، وأهمية العناية بها، وأن الحاجة ماسة إلى معرفتها في حق كل مسلم صغير أو كبير ذكر أو أنثى، لتكون تثبيتاً للمؤمنين وتذكرة للغافلين وإرشاداً للذين ابتعدوا عن الصراط المستقيم..
    رزقنا الله البصيرة بسنته والاهتداء بهديه، وجعلنا من ينال رضاه وشفاعته، اللهم اجعل لنا مواسم الخيرات مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات إلى رحمتك طريقا وسلما، اللهم تدارَك أمةَ نبيِّك الأمين، وانصرهم على عدوّك وعدوهم يا قوي يا متين، اللهم انشُر بينهم الأمن والإيمانَ والتقوى، وجنِّبنا وإياهم الآفات في السر والنجوى، يا كاشف كلِّ بلوى، لا إله إلا أنت يا رب العرش العظيم، اكفِنا ما أهمَّنا وما لا نهتمُّ به، وما أنت أعلمُ به منا، وكن هَمَّنا أنت وحدَك يا أكرم الأكرميناللهم يا محوِّل الأحوال حوِّل حالنا وحال المسلمين أجمعين إلى أحسن حال، وعافِنا من أحوال أهل الضلال وفِعل الجهال يا رب العالمين، اللهم وإن لنا إخوانا هم حجاج بيتك نغبطهم على ما يسرت لهم، لكن نسألك أن تتقبّل منهم، وأن تيسّر أمورهم، وأن تجعل حجهم مبرورا وذنبهم مغفورا، وأن تعيدهم إلى بلدانهم سالمين وبالأجر غانمين. وتقسم لنا ما قسمت لهم من الرحمة والمغفرة، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.وصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والحمد لله رب العالمين..