الموضوع: زكاة الزروع والثمار
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي منّ على عباده بما
أخرج لهم من الزروع والثمار، وأنعم عليهم بمشروعية صرفها فيما يرضيه عنهم من غير
إسراف ولا إقتار. وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العزة والإقتدار.
وأشهد أن محمدا عبدا عبده ورسوله المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه آناء
اليل وأطراف النهار، وسلم تسليما.
أما بعد، فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا أن من أجلّ
نعم الله على الإنسان أن مهّد له هذه الأرض، وجعلها صالحة للإنبات والإثمار، وأجرى
سنّته الكونية بذلك، فجعلها المصدر الأول لرزق الإنسان ومعيشته وقوام بدنه. وهذا
لمن تأمّله بعين بصيرته محض فضل الله تعالى، فهو الذي سخّرها وجعلها ذلولا وبارك
فيها وقدّر فيها أقواتها وجعل فيها معايش. قال تعالى: "ولَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ
فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ".
10الأعراف.
إن الله هو الذي صنع هذا كله،
وقدّره فأحسن التقدير، ودبّره فأحسن التدبير. ولا غرو أن امتنّ بذلك على عباده في
آيات كثيرة من كتابه، وردّ الفضل إلى أهله، مثل قوله تعالى: "أَفَرَأَيْتُمْ
مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا
لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ" 63ـ67 الواقعة. وقوله تعالى: "وَالأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ
بِرَازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ
إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ
بِخَازِنِينَ"19ـ22 الحجر. وقوله تعالى: "وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ
الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ
الْعُيُون لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا
يَشْكُرُونَ":33-35يس.
أجل ـ يا عباد الله ـ: إن ما أخرجته الأرض من زرع وثمر
إنما هو من فضل الله ومن عمل يده، لا من عمل أيدينا القاصرة، هو الزارع المنبت
حقيقة لا نحن، فلا عجب أن يطالبنا سبحانه بالشكر على هذه النعمة السابغة التي
جاءتنا عفوا صفوا، وأكلنا منها هنيئا مريئا. قال تعالى: "ليأكلوا من ثمره وما
عملته أيديهم أفلا يشكرون".
ألا وإنّ أول مظاهر هذا الشكر، هو أداء الزكاة مما خرج من الأرض وفاء ببعض
حقّه سبحانه، ومواساة المحتاجين من خلقه، وهذه الزكاة هي المعروفة في الفقه
الإسلامي باسم "العشر أو زكاة الزروع".
أيها المسلمون: عما قريب يبدأ موسم الحصاد، أسأل الله أن يكون موسم خير وبركة،
وبهذه المناسبة أقول لإخواني الفلاحين، إن العلماء منذ عهد الصحابة رضوان الله
عليهم نبّهوا إلى أمر جدير بالذكر، وهو أن سنّة القرآن أن يقرن الصلاة والزكاة،
وقلّما تنفرد إحداهما عن الأخرى. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "أمرتم بإقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له". رواه الطبراني في المعجم
الصغير. وجاء في تفسير الخازن: "وقال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعاً
لم يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان
أفقهه! يعني بذلك ما ذكره أبو بكر في حق منع الزكاة، وهو قوله: "والله لا
أفرق بين شيئين جمع الله بينهما". يعني: الصلاة والزكاة. فيما ما رواه أبو هريرة قال: لما توفي النبي صلى الله
عليه وسلم واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر:
كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا
بحقه وحسابه على الله عز وجل" فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة
والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها. وفي رواية،
عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال
عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه
الحق". اهـ 2/232.
أيها المسلمون: الزكاة هي ثالثة دعائم الإسلام، لقد أكّد النبي صلى الله عليه وسلم
فرضيتها وبيّن مكانتها في دين الله، وأنها أحد الأركان الأساسية لهذا الدين، ورغّب
في أدائها ورهّب من منعها بأحاديث شتى وأساليب متنوعة، نقرأ في حديث جبريل المشهور
الذي رواه البخاري حين جاء يعلم المسلمين أمر دينهم بحسن السؤال، أنه سأل النبي
صلى الله عليه وسلم، ما الإسلام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، الإسلام: أن تشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان
وتحج البيت ان استطعت إلى ذلك سبيلا". وفي حديث ابن عمر المشهور: "بني
الإسلام على خمس..." وغير ذلك من الأحاديث. وأنذر في أحاديث أخرى مانعي
الزكاة بالعذاب الشديد في الآخرة، لينبه القلوب الغافلة، ويحرك النفوس الشحيحة. من
ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له
زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول أنا مالك،
أنا كنزك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية: "وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا
ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ .." الآية .
ولم
تقف السنة النبوية عند الوعيد بالعذاب الأخروي بل هدّدت بالعقوبة الدنيوية، شرعية
وقدرية. فالعقوبة الشرعية القانونية هي التي يتولاها الحاكم، أو وليّ الأمر.
جاء قوله صلى الله عليه وسلم في الزكاة: "من أعطاها مؤتجرا فله أجره، ومن
منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا". رواه أبو داود وغيره. وإن
أفلت مانع الزكاة من هذا، فإن هناك عقوبة قدرية، يتولاها القدر الأعلى سبحانه.
يقول عليه الصلاة والسلام: "ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله
بالسنين". رواه الطبراني. السنين: جمع سنة، وهي المجاعة والقحط. وقال أيضا:
"ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم
يمطروا". رواه ابن ماجه. وقال أيضا: "ما خالطت الصدقة ـ أو قال الزكاة ـ
مالا إلا أفسدته". رواه البيهقي. وهذا الحديث ـ عباد الله ـ يحتمل معنيين كما
قال الحافظ المنذري، المعنى الأول: أن الزكاة ما تركت في مال ولم تخرج منه إلا
كانت سببا في هلاكه وفساده. ويشهد لهذا المعنى ما روي من حديث آخر: "ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس
الزكاة". رواه الطبراني. أما المعنى الثاني: إن الرجل إذا أخذ الزكاة وهو غني
عنها ووضعها مع ماله أهلكته.
ألا
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأدوا زكاة زروعكم وثماركم، واشكروا الله على أن أمدّكم
بما تعلمون، أمدّكم بأنعام وبنين وجنّات وعيون. اشكروا الله على هذه النعمة بإخراج
ما أوجب عليكم فيها من زكاة. تدفعوا عن أنفسكم وأموالكم النقمة، وحاسبوا أنفسكم في
ذلك محاسبة شديدة، فإن أهل الزكاة شركاء لكم فيها. لهم العشر إن كانت الزروع أو
الثمار تشرب سيحا، ونصف العشر إن كانت تشرب بالمكائن والآلات. عن ابن عمر رضي الله
عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان
عَثَريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر". رواه الترمذي وغيره. المراد بالعثري ما
يشرب بعروقه من غير سقي. وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"وفيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالساقية نصف العشور".
رواه الإمام مسلم وغيره.
فاتقوا
الله ـ عباد الله ـ وحاسبوا أنفسكم، وراعوا العدل، ولا تظنوا أن الزكاة غرامة
وخسارة، فإنما هي ـ والله ـ ربح وغنيمة. وفقني الله وإيكم لمعرفة الحق واتباعه،
ومعرفة الباطل واجتنابه، وهدانا وإياكم صراطه المستقيم. آمين.
الخطبة الثانية
الحمد
لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه
أجمعين.
أما بعد، قال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ
وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ". الآية:141 الأنعام.
أيها المسلمون: إنكم ستحصدون زروعكم وتجنون ثماركم ـ إن شاء الله
ـ فالواجب عليكم أن تخرجوا ما أوجبه الله عليكم. حاسبوا أنفسكم في الدنيا قبل أن
تحاسبوا في الآخرة. ولقد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأمته ما يجب
عليهم من زكاة زروعهم وثمارهم بيانا ظاهرا لا إشكال فيه، بيانا تزول به الشبهة
وتقوم به الحجة. واسألوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. واعلموا أن الزكاة لا تنفع
ولا تبرأ بها الذمة حتى توضع في الموضع الذي وضعها الله فيه، مثل ذوي الحاجة من
الفقراء والمساكين، فأدوا زكاة زروعكم وثماركم، واحمدوا الله الذي أبقاكم حتى
أدركتم حصادها وجناها، واشكروه على أن شرع لكم من الإنفاق منها على ما يرضيه
وزكاها. أدوا ما أوجب الله عليكم من زكاة، لتفوزوا بالخلف العاجل والثواب الجزيل من
جزيل العطايا والمواهب.
روى الإمام القرطبي في تفسيره، أن في التوراة: "عبدي أنفق من رزقي
أبسط عليك فضلي فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة". وفى القرآن مصداقه، وهو
قوله: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين".
وفقني الله وإياكم لأداء
ما يجب علينا من مال وعمل على الوجه الذي يرضاه بدون عجز ولا كسل. وزادنا من فضله
ما نزداد به قربة إلى ربنا، ورفعة في درجاتنا إنه جواد كريم، اللهم أعنا على ذكرك
وشكرك وحسن عبادتك، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولوليّ أمرنا ولجميع
المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم
وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق