08 يناير 2013



الموضوع:  النظافة قيمةٌ حضارية
الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمِين، حمدا يلِيق بجمال صفاته وجليل أفعاله، ونشهد أن لا إله إِلا الله وحده لا شرِيك له القائل في محكم تنزيله: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ"، ونشهد أَن سيدنا محمدا عبده ورسوله، المتحلّي بكريم الشمائل، الهادي إلى جميلِ المكارم والفضائل، القائل: "أحسنوا لباسكم وأصلحوا رحالكم حتى تكونوا كأنكم شامَة في الناس".  اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه الأخيار الأبرار، المتبعين آثاره، المقتفين سننه، وسلم تسلِيما كثِيرا.
أما بعد، أيها المسلمون: إن حب الزينة والتزين من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله في الخليقة. ولقد امتن الله على بني آدم كلهم بلبس الزينة حين قال عزّ شأنه: "يَـا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَى ذٰلِكَ خَيْرٌ". [الأعراف:26]. قال أهل العلم: خصّ سبحانه الريش بالذكر، لأنه ليس في أجناس الحيوان كالطير في كثرة أنواع ريشها، وبهجة مناظرها، وتعدد ألوانها، فهي جامعة لجميع أنواع المنافع والزينة. قال الحافظ ابن القيم رحمه الله: "ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده الجمَالَيْن: اللباسُ والزينةُ تُجمّل ظواهرهم، والتقوى تُجمّل بواطنهم، وقال في أهل الجنة: "وَلَقَّـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً" [الدهر:11، 12]. فجمّل وجوهم بالنضرة، وبواطنهم بالسرور، وأبدانهم بالحرير".
  الجمال والتزين والطهارة والنّظافة ـ يا عباد الله ـ هي الصّورة الّتي بنى الله الحياة على أساسها، فلقد خلق الكون جميلاً، طاهرا، نظيفاً، ينظِّف بعضه بعضاً، بما أودعه فيه من قوانين وأسباب..  فنظام الكون كلِّه مبنيّ على النّظافة، فالرّياح تَكنس، والمطر يغسل، والأرض تدفن، وهكذا... حتى غريزة الحيوان مفطورة على النظافة والتنظّف.
   ولذا فأنت تجد أن النظافة والطهارة في الإسلام ركن ركين وأصل من الشريعة والدين، فلقد حرص الإسلام على أخذ أبنائه بنظافة الحس مع نظافة النفس، وصفاء القلب مع نقاء البدن، وسلامة الصدر مع سلامة الجسد، حتى يكونوا نماذج رائعة للطهر والجمال عندما ينفذون تعاليم دينهم في أبدانهم وبيوتهم وطرقهم ومدنهم، فالله يحب المطهّرين ويحب المتطهرين.
 عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه قال، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ, نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ, كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ, جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ, فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ, وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ.." . رواه الترمذي. و"الأفنية"جمع فناء وهو البيت وساحته. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ". رواه مسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كَانَتْ شَجَرَةٌ فِي طَرِيقِ النَّاسِ تُؤْذِي النَّاسَ، فَأَتَاهَا رَجُلٌ فَعَزَلَهَا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَتَقَلَّبُ فِي ظِلِّهَا فِي الْجَنَّةِ". رواه الإمام أحمد. وروى الإمام مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا: "عُرِضَتْ عَلَىَّ أَعْمَالُ أُمَّتِى حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ في مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ وَوَجَدْتُ في مَسَاوِى أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ في الْمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ".
أيها المسلمون: إن النظافة منهج إسلامي واسع كبير شامل، قرّره الإسلام على يد محمد - صلى الله عليه وسلم- منذ أربعة عشر قرنا من الزمان وزيادة. قرّره وأقرّه وأمضاه وطبّقه في حياة الناس قبل هذه الدراسات المعاصرة التي كتبها بعض المفكرين وعلماء التربية والاجتماع من غير المسلمين. دراسات ألّفوها في معنى النظافة وأسسوها ظنا منهم أنها من بنات أفكارهم، وجهلوا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم- بشرع الله، الإسلام قد سبقهم إليها، لأنه جاء لهذا الوجود، ولإنسان هذا الوجود بكتاب سماوي، قال فيه منزله سبحانه: "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ". [الأنعام: 38]، وقال: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا". [الحشر: 7].
إن النظافة قيمةٌ حضارية من قِيمِ الحضارةِ الإسلامية، حثنا عليها ديننا قبل أن نراها ماثلةً في الحضارات الحديثة. بل هي في حضارة الإسلام أشملُ وأدقُ وأوفى، فما ترك الإسلام شيئاً مما تستوجبه النظافة في صورة من صورها إلا وأمر به، وحين تغيب بعض معالم النظافة بين أبناء الإسلام، فذلك محسوب من صور ضَعف الاقتداء بنبيهم -صلى الله عليه وسلم-، إمامِ التوابين والمتطهِّرين.
نعم للأسف.. إننا نجد كثيرا من الناس من لا يُعطي لهذه القيمة قدرها، عن طريق عدم المبالاة، نتيجة لجهل أو كسل أو تهاون، لا يعطي للنظافة قدرها، ولا لسلامة البيئة حقها. إن بعضا من أصحاب البيوت يخرجون فضلات منازلهم فيرمونها هنا وهناك، وتجد بعض الباعة يرمون بالنفايات على أرضية الشوارع، وفي طرق المارة وفي ساحات البيع والشراء. على الرغم من التنظيم الذي أخذت به البلديات والعاملين معها، بل نجد بعض الباعة لا يهتم بنظافة زيّه وشكله ولا بتنظيم محله، مما يبعث على التقزز والكراهية.
ألا وإن أكثر ما يعانيه عمال النظافة، ويشوّه منظر المدينة الجميل، قلّة الوعي لدى بعض الناس في الانتظام والالتزام بعملية رمي المخلّفات، حيث لا يلتزم البعض منهم بإخراجها في الوقت المناسب، ولا يضعها في المكان المناسب، وهذا يُحدِث لعمال النظافة إرباكاً وجهداً كبيراً في عملية جمع المخلفات، وكل هذا يرفضه الذوق ويمجّه وتستقبحه النفس فضلا عن إنكار الإسلام له.
   عباد الله: إن العقلاء من أمتنا ليسعون جاهدين إلى المحافظة على سلامة البيئة ونظافة المحيط، انطلاقا من هدي الإسلام الذي هو النظام الكامل الشافي الكافي للحياة، وأول قاعدةٍ وأساسٍ في التمسك بأسباب النظافة التعليم، لأنه الجمال الأول في المحافظة على الأخلاق وسيادتها صفوف الناس.
    وما حملات التوعية والتعبئة التي تقوم بها الجهات المعنية، إلا دليلُ تحضُّرٍ ووعيٍ وعملٍ من أجل سلامة الفرد والجماعة. فعليك ـ أيها المسلم ـ أن تكون جنديا مجنّدا في المحافظة على كل ما فيه نفع للمسلمين أفرادا وجماعات. فيتعين عليك نظافة بيتك، ونظافة مسجدك، ونظافة سوقك، ونظافة مكان عملك، ونظافة طريقك. تغرس شجرته وتميط أذاه، انطلاقا من هديٍ إسلاميٍّ يقول للناس: "إماطة الأذى عن الطريق صدقة". 
  هل صحيحٌ ـ يا عباد الله ـ أنّنا نطبّق شعار: "النّظافة من الإيمان"؟!  هذا الشّعار الذي يسمعه الجميع ويطلقونه، ولكن مع الأسف لا يعيشونه، ولا يُحدِث لديهم تغييراً جذريّاً.
   وهنا سؤالٌ مفصليّ نطرحه على أنفسنا، وقد نجد الحلّ عند الإجابة عنه: هل يَشعُر كلّ فردٍ منّا بأنّ النظافة هي مسؤوليته الشرعية، وأنها واجبة كما هي بقيّة الواجبات، أو فريضة كبقيّة الفرائض، ويتحمّل مسؤوليتها أمام الله؟. هل إنّ كلّ فردٍ مستعدّ لأن يقف موقف المسؤوليّة أمام رسول الله صلى  الله عليه وسلم الّذي أمر بالنظافة والطهارة والمظهر الحسن للفرد والمجتمع؟. 
   إن الشعور بالمسؤولية هو الذي يقول للذي يريد أن يتخلص من نفايات بيته أو نفايات تجارته أو أي فضلات برميها كيفما كان وأينما كان: مهلاً.. هل أنت حقّاً تتخلّص منها، أم تتخلّص منها لتعود إليك مجدّدا؟.
   ألا إن النّظافة قيمة لا تتجزّأ تماماً كبقية القيم، ولا يوجد أيّ مبرّرٍ لأيّ فردٍ ولا لأيٍ مجتمعٍ لكي لا يكون نظيفاً. والاستضعاف ليس عذراً، فأنت لا تحتاج إلى أيِّ إمكاناتٍ كي تمتنع عن رمي كيس هنا أو كيس هناك، أو رمي بقايا طعامك وأنت تسير على الطّريق... لا شأن للاستضعاف بتاتاً بهذا السّلوك.. كما لا يمكن ان نعتبر غياب النّظام حجّة، فالنّظام يجب أن ينبع من ذاتك.
    فهيا بنا ـ عباد الله ـ لنحوّل النَّظافة إلى سلوكٍ مجتمعيّ، حتَّى لا يشعر مَن ينادي بها بالغربة، أو كأنَّه يقوم بعملٍ خطأ، ولنتُرجِم إماطة الأذى عن الطَّريق إلى عملٍ جماعيّ حضاريّ، تتكاتف من أجله الجهود. فـ "النّظافَةُ مِنَ الإيمَانِ"، لنردِّد ذلك ونطبِّقَه، ونحن نعي جيدا أن لا إيمان كاملا بلا نظافة كاملة.
  فاتقوا الله -عباد الله-، واحرصوا على النظافة والزينة من غير تبذير ولا سرف، واعلموا أن كلّ إنسان مسؤُول عن نفسه، فليعوّدها كلّ خير، وليبعدها عن كلّ شرّ. وفقني الله وإياكم لذلك.. وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه. 

الخطبة الثانية
    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
  أما بعد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "مرّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحيّن هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخِل الجنة". رواه مسلم. وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال، ‏قال رسول صلى الله عليه وسلم: "أمِط الأذى عن الطريق فإنه لك صدقة‏". رواه البخاري. وعنه رضي الله عنه قال، قال رسول صلى الله عليه وسلم: "نظرت إلى الجنة فإذا فيها عبد لم يعمل من الخير شيئا، فقلت في نفسي‏:‏ مما شكر الله لهذا العبد حتى أدخله الجنة؟‏ فقيل لي‏:‏ يا محمد، إن هذا كان يرفع الأذى عن طريق المسلمين يريد به وجه الله، فشكَر الله له ذلك وأدخَله الجنة".
    ألا فاتقوا الله رحمكم الله، والزموا هدي دينكم، واسلكوا مسلك العدل والوسط، وأطيعوا الله والرسول لعلكم تفلحون.
    اللهم ارزقنا شكر نعمتك، وأجرنا من فجاءة نقمتك، واجعلنا من عبادك الطائعين المرحومين, اللهم اهدنا بنورك إليك، وارزقنا الاعتماد والتوكل عليك، اللهم بك اعتصمنا فأصلح لنا ديننا، وعليك توكلنا فقوّ فيك يقيننا، اللهم نور بالإيمان قلوبنا، وعمّر بالقرآن صدورنا، واحي سنة رسولك في حياتنا، واجعلنا من التوابين المتطهرين، اللهم واغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا  ومشايخنا وجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق