09 مارس 2013



الموضوع: برجك اليوم
الخطبة الأولى

     الحمد لله، الحمد لله، أهل الحمد والفضل، أقام خلقه وأمره بالحق والعدل، وخص المكلفين بنعمة العقل، سبحانه وبحمده، له الأمر من بعد ومن قبل، وأستغفره وأتوب إليه وأثني عليه بما هو أهله، وأشكره على عطائه الجزل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أفضل نبيٍّ وأكرم مرسل. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آل بيته الطيبين، وعلى أصحابه الغر الميامين - أفضل صحب وأكرم أهل - والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسلم تسليما كثيرا .
     أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
     عباد الله: حينما أراد أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتالَ الخوارج، اتَّفق المنجِّمون على أنَّه إن خرج في ذلك الطالع، قُتِل وهُزِم جيشُه، فإنَّ القمر كان إذ ذاك في العقرب، فخالفهم علي رضي الله عنه، وخرج ثقةً بالله وتوكُّلاً عليه، وتكذيبًا لقول المنجِّمين، فما غَزَا غزاةً بعد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أتمَّ منها، قَتلَ عدوَّه، وأيَّده الله عليهم بالنَّصر والظفر بهم، ورجع مؤيَّدًا منصورًا، والقصة معروفة في السير والتواريخ. 
     وأيضا مما يُذكر في هذا الموضوع: أنه في زمن الخليفة المعتصم بالله العباسي، تم الاعتداء على امرأة مسلمة في بلدة (زِبَطْرِة) من اعمال عمورية في بلاد الترك، فنادت هذه المرأة بصوت عال: "وامعتصماه".  فتناقلت الالسن الخبر، حتى وصل الى الخليفة المعتصم، فأقسم بالله ان يفتح عمورية، فنصحه العرافون والكهان بأن لا يفعل، لان عمورية لن تفتح الا في أوان نضج التين والعنب، لكنه توكل على الله، وتوجه الى عمورية وفتحها، وفى ذلك يقول أبو تمام في قصيدته المشهورة، يعرض فيها لدجل المنجمين وكذبهم. 

السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الـكُتُبِ .. فِي حَدهِ الـحَدُّ بَيْنَ الجِد واللَّعِـبِ
بيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِفِ فِـي .. مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ
والعِلْمُ فِي شُهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعَـةً .. بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لافِي السَّبْعَةِ الشُّهُبِ
أَيْنَ الروايَةُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَـا .. صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ
إلى أن قال:
 تِسْعُونَ أَلْفاً كَآسَادِ الشَّرَى نَضِجَتْ .. أَعْمَارُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التِّينِ وِالْعِنَبِ
فَـتْحُ الفُتوحِ تَعَالَى أَنْ يُحيـطَ بِــهِ .. نَظْمٌ مِن الشعْـرِ أَوْ نَثْرٌ مِـنَ الخُطَـبِ

   إلى آخر قصيدته العصماء.
   أيها المسلمون: وإن لنا في أيام الناس هذه من ذلك أشكالا وألوانا، فها أنت ترى ترهات، وتسمع الرجم بالغيب من أخلاء الشياطين.. ما قنع هؤلاء بما أخبرتهم به رسلهم من غيوب ماضية، وغيوب آتية، وزعموا أن لبعض البشر قدرة ومَلَكة على معرفة الغيب.. ألا وإن شر البلية ضلال بعد الهدى، وعمًى بعد البصيرة.  
      فمن ذلك ما يُنشر في بعض وسائل الأعلام المكتوبة والمقروءة على اختلافها بما يسمى بالأبراج، أو حظك هذا الأسبوع، أو أنت والنجوم، أو حظك هذا الأسبوع، وما إلى ذلك من عناوين براقة، يزعم فيه المنجمون أن من وُلد في برج كذا، فإنه سوف يخسر هذا الأسبوع، أو من ولد في برج كذا فسوف يربح، إلى غير ذلك من الافتراءات، وكل ذلك من الشرك الأكبر.
    عباد الله: التنجيم مأخوذ من النجم، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، بمعنى أن يربط المنجم ما يقع أو سيقع في الأرض بالنجوم بحركاتها، وطلوعها، وغروبها، واقترانها، وافتراقها وما أشبه ذلك، وهو نوع من السحر والكهانة وهو محرم، لأنه مبني على أوهام لا حقيقة لها، فلا علاقة لما يحدث في الأرض بما يحدث في السماء.   
    ألا إنّ التنجيم والكهانة داءٌ من أدواءِ الأمَمِ قَديمًا، ومُشكلةٌ من مُشكلات العصرِ حديثًا. إنه الدجل والشّعوذة وادعاء معرفة الغيب، ولَشَدَّ ما يؤلمني ويؤلم الذي يعتز بثقافة دينه وهويته العقدية، هو استنساخ ذلك على الطريقة الغربية وتتبُّعٌ لجحر الضبّ!. 
   أيها المسلمون:  إنّ قراءة الأبراج تخرّصٌ بلا علم، وتقحُّمٌ لما استأثر الله بعلمه. فالإستدلال بالأبراج على السعد أو النحس، أو على مدد الأعمار، أو على قسمة الأرزاق، أو الزواج والطلاق، أو الغنى والفقر، والتوفيق والخذلان، وما شابه ذلك، فما ذلك إلا من محض الرجم بالغيب، والتخرصِ بما استأثر الله بعلمه. وإنه لمن السحر، والسِّحر كبيرة من كبائر الذُّنوب، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "ما اقتبس رجل عِلمًا من النجوم إلاَّ اقتبس بها شُعبة من السحر، ما زاد زاد". رواه الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح.   
    أيها المسلم: هلا تأملت معي إلى هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كيف خاطبه الله، بل وأمره أن يخبر الناس بأنه لا يعلم الغيب، قال تعالى: "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ". الأعراف: 188 . 
     والعجيب أنك تجد بعض الجهلة، مولعين بقراءة هذه الأبراج، فيقول: أنا برجي كذا، وولدت في برج كذا، فما هو حظي، وماذا سيحصل لي؟ .. فيبحث في الصحف والمجلات، وربما يتصل ببعض القنوات لعله يجد بغيته.
    ألا يِعلمُ المسلم أن ذلك حرام.. وأن الأبراج لا تجوز قراءتها ولا نشرها، حتى ولو كانت على سبيل المزاح والترويح على النفس، أوْ لمْ يؤمن القارئ بها، أو كان ذلك من باب الفضول، لأن قراءتها منفذ من منافذ الشيطان، قد تجر إلى الإيمان بما فيها، وقد جاء الإسلام ليحرر الناس من الأوهام والأباطيل وأمرهم باحترام الأسباب التي بُني عليها الناموس الكوني، مع الإيمان والعلم أن الأسباب لا تعمل إلا بإذنه سبحانه وتعالى. ولله درّ الإمام الخطيب حينما قال: "وإن أناساً جهلةً بأمر الله، قد أحدثوا في هذه النجوم كهانةً، من أعرس بنجم كذا وكذا؛ كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا.. ولعمري، ما من نجم إلا يولد به الأحمرُ والأسودُ والطويلُ والقصيرُ والحسنُ والدميمُ، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء.." أ.هـ. 
    أيها المسلمون: إن المتدبّر لآيات القرآن الكريم، يجد أنه لا جدوى من محاولة معرفة الغيب، إذ هذا العلم من اختصاص الله علّام الغيوب، ولا سبيل إلى معرفته بأي طريقة كانت، يقول سبحانه: "إِنَّ ألله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ٱلاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ". لقمان:34.  ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: "أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِى كَفَرَ بِـئَايَـٰتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً". مريم:77-78 . ففي هاتين الآيتين الكريمتين دليل قاطع على عدم إمكانية الإنسان الاطلاع على الغيب. لكن قد يُطلع اللهُ بعضَ رسله من الآدميين والملائكة على بعض الغيب؛ قال تعالى: "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا". الجن: 26 – 27 ، فما عَدَا مَن شاء الله من رسله، لا يَطَّلع على شيء من الغيب، مهما بلغ من الصلاح والتُّقَى، فغيره مِن الفُسَّاق والفجَّار مِن باب أَوْلى.   
    فالحذر الحذرـ عباد الله ـ فإن الأمر خطير، وعلى المؤمن أن يحفظ عقيدته وإيمانه، وماذا عنده أغنى من الإيمان والتوحيد، فليعضّ على ذلك بالنواجذ. ولا يعرّض أحدكم دينه للخطر بدعوى حب الاستطلاع والثقة في نفسه أنه لن يتأثر بما يسمع أو يرى أو يقرأ، فهذا من الغرور البالغ فإن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة. 
   والله المسئول أن يوفق المسلمين للعافية من كل سوء، وأن يحفظ عليهم دينهم، ويرزقهم الفقه فيه، والعافية من كل ما خالف شرعه، هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..   

الخطبة الثانية
  الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمَّد وآله وأصحابه، ومَن اقتفى أثرَهم إلى يوم الدِّين.
     أما بعد، فقد  روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سأَل أُناس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الكهَّان ، فقال لهم : " لَيْسُوا بِشَيْءٍ"، قالوا: "يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا الشَّيْءَ يَكُونُ حَقًّا" ؟!  فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ".
 نعم!! هذه حالهم -عباد الله -  هم أهل كذبٍ ودجْلٍ وتلبيس، بل إنهم من أعظم الخليقة افتراءً وكذبا ودجْلًا وتلبيسا.
    وروي مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرَّافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا". وقال صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد". رواه أبو داود.
    والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة، وفيما ذكرت خيرا لمن ألقى السمع وهو شهيد.  فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وحافظوا على عقيدتكم من الفساد، أكثر مما تحافظون على صحة أبدانكم من الأمراض. فماذا يستفيد الإنسان إذا عاش سليم الجسم مريض العقيدة. فإن صحة البدن مع فساد العقيدة خسارة في الدنيا والآخرة.
    وفقني الله وإياكم للإيمان الصادق، والقلب الثابت، والإيمان الكامل، والعلم النافع، والعمل الصالح. "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ"، اللهم اعصمنا من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وآت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر. اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الديْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصراً ومُعينا وحافظاً ومؤيِّدا، اللهم احفظهم بما تحفظ به عبادك الصالحين، اللهم آمن روعاتهم، واستر عوراتهم، واحقن دماءهم يا ذا الجلال والإكرام. اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم. آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال يا ذا الجلال والإكرام، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق