27 نوفمبر 2013



الموضوع: الرجولة أُمنية عمرية..

الخطبة الأولى
      إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ". آل عمران:102. "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً". النساء:1.  "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً". الأحزاب:70-71..
      أما بعد، فيا أيها المسلمون: إن الأمم والرسالات لا تحتاج إلى المعادن المذخورة، والثروات المنشورة، ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرؤوس المفكرة التي تستغلها، والقلوب الكبيرة التي ترعاها، والعزائم القوية التي تنفذها. إنها تحتاج إلى الرجال، ولكن أين الرجال، فالمِثَالِيَّاتِ تتفرق في نفوسٍ شتى، ولا تجتمع في نفس واحدةٍ..
   إن رجلاً واحدًا قد يساوي مائة، ورجلاً قد يوازي ألفًا، ورجلاً قد يزن شعبًا بأسره، وقد قيل: رجل ذو همّة يحيي أمة.  
يعد بألف من رجال زمانه * لكنه في الألمعية واحد
     جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ يوما ـ إلى جماعة من أصحابه، فقال لهم: تمنوا؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟.
    فقال عمر رضي الله عنه: ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله".
      فلله ما أحكم عمر رضي الله عنه حين لم يتمنّ فضة ولا ذهباً، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً، ولكنه تمنى رجالاً من الطراز الممتاز الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض وأبواب السماء!.  
   وهل تعلم أنهم كانوا كذلك: لما حاصر خالد بن الوليد رضي الله عنه ( الحيرة ) فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمدّه إلا برجل واحد، هو القعقاع بن عمرو التميمي، وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل!.
   ولما طلب عمرو بن العاص رضي الله عنه المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتح مصر، كتب إليه: "أما بعد : فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف، رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد".
   ألا ما أحوج الأمة اليوم ما تكون إلى رجل مثل هؤلاء!.  الرجل الذي يسد مكانه ويملأ فراغه، ويؤدي دوره في البيت والمسجد والشارع والعمل والسوق، وفي أي مكان كان..
ألا ما أعزّ ذلك وما أندره!!.
  وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة". رواه البخاري. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن مرضيَّ الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل..  قليل جدا، كقلّة الراحلة في الإبل، وذلك هو معنى الحديث والله أعلم: أي أنك لا تجد في مائة من إبل، راحلة تصلح للركوب، لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئا سهل الانقياد. وكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للقدوة والقيادة.
وإذا صفا لك من زمانك واحد * فهو المراد، وأين ذاك الواحد
    ما المراد من الراحلة المقصودة في هذا الحديث:  ذلكم الفرد النشط الحي القوي، الذي يأخذ على عاتقه المسؤولية، ويعمل وفق طاقاته وإمكانيته في سبيل إحياء الأمة.  ذلكم الفرد الذي تصبح الفكرة همّه، تُقيمه وتُقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته. ذلكم الذي إن لم تكن لديه الوسائل الفعالة، سعي في إيجادها ولو كان أمرًا مستحيلًا.
   
نعم.. إن الرجل الواحد قد ينقذ الموقف بمفرده بما حباه الله من الخصائص الإيمانية والمواقف الرجولية، التي ربما عملها بمفرده، وفي القرآن الكريم ، قصة موسى حين قتل القبطي، تجد قول الله تعالى: "وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ".  القصص:20.   وفي سورة (يس) في قصة أصحاب القريةـ إذ جـاءها المرسـلون ـ تجـد قـوله تعالى: وَ "جَاء مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ"  يس: 20.
    في سياق هاتين القصتين، تجد أن النص يبرز كلمة (رجل) وهي تعني شخصاً مفرداً، فهو رجل واحد ينقذ الموقف بخصائصه الذاتية والإيمانية، ولا يستـوحش من غربته بين أهله أو تفرده في طبقـته، فيحيط موسى علماً بالمؤامرة الدنيئة التي يحيكها القصر الفرعوني للقضاء عليه وعلى دعوته، ويقترح عليه الحل، وهو الخروج من قريته والفرار بنفسه. وفي قصـة (يـس) يعلن أمام الملأ نصرة المرسلين، ويدعو إلى اتباعهم متحدياً بذلك رؤوس الضلالة صارخاً به في وجه الجمهور التابع..
   آه.. ثم أه لو ظفر الإسلام اليوم في كل ألف الف من أبنائه برجل واحد فيه خصائص الراحلة، لكان ذلك خيراً له وأجدى عليه من هذه الجماهير المكدسة التي لا يهابها عدو، ولا ينتصر بها صديق. 
    أيها المسلمون: من هو الرجل الذي نريد.؟
هل هو كل من طَرَّ شاربه ونبتت لحيته من بني الإنسان..؟.
 وهل الرجولة ببسطة الجسم، وطولِ القامة، وقوةِ البنية فقط..؟
     لا..!! فقد قال الله عن طائفة من المنافقين: "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ". المنافقون:4  وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَءُوا "فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ". الكهف:105 ..
   إذن أيها المسلمون: ليس هذا الرجل الذي نريد، وإنما نريد الرجل الذي يتمتع بقوة نفسية تحمله على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها..
   فالرجولة قوةٌ تجعله كبيراً في صغره، غنياً في فقره، قوياً في ضعفه.. الرجولة قوةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه... الرجولة: قوة تحمل صاحبها على أن يؤدي واجبه نحو ربه، وواجبه نحو نفسه، وواجبه نحو أهله ودينه وأمته...
  جعلني الله وإياكم أمثال هؤلاء الرجال، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك،  واجعلنا رجالاً من أهل الحق وأعوانه، وأعنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
   الحمد لله رب العالمين، الذي لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
   أما بعد، فإن خير ما تتظافر عليه الجهود، وأفضل وأعظم ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من مسؤولين وأولياء وصحافة وإذاعة، ومسجد ومدرسة، هو صناعة هذه الرجولة، وتربية أمثال هذا الطراز من الرجال الذين ذكرنا..
  ولن تترعرع الرجولة الفارعة، ويتربى الرجال الصالحون، إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والمعايير الأصيلة، والتقاليد المرعية.
  فيا أيها المسلمون: فلنجلس مع أنفسنا ونحاسبها، ولنحدد مدى خدمتنا لدين ربنا، فان وجدنا خيرا فلنحمد الله ولنحرص على الزيادة، وان وجدنا تقصيرا فلنحرص على تلافيه فيما بقي من أعمارنا..
   أسال الله تعالى ان يوقظنا من غفلتنا.. وان يغفر زلتنا .. وان يعيننا على أنفسنا والشيطان .. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقال فيه كلمة الحق. اللهم أصلح القلوب والأعمال، وأصلح ما ظهر منا وما بطن، واجعلنا من عبادك المخلصين. اللهم إنا نعوذ بك من الغواية والضلالة، اللهم ثبتنا على دينك، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم أصلح الأئمة وولاة الأمور، اللهم خذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى، وزينا برحمتك بالبر والتقوى، واجعلنا من عبادك المهتدين. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

21 نوفمبر 2013




 الموضوع:  الفرح سلوك راق يا أنصار الفريق الوطني..

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين، عم بنعمته الخلائق كلها، على مدار الأعوام والسنين، وأكمل دين الإسلام ورضيه ديناً لعباده المؤمنين.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى آله الطيبين وصحابته الأكرمين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
  
أما بعد، فيا عباد الله : بالشكر والإيمان تدوم النعم ، وبالكفر والعصيان تحل النقم ، فحافظوا على نعم الله التي بين أيديكم يدومها الله عليكم ، واحذروا كل الحذر من كفر النعم فيذهبها الله من بين أيديكم ، يقول الله تعالى: "لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد" ، ويقول عز وجل: "وإن تعدوا نعمة الله لا يحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ."
أيها المسلمون: إنَّ السرورَ والفرَحَ بِنَيلِ المطالِبِ وإدراك المحبوبات والمآرب وكذلك الحزن بفقد المطالب وفوات المحبوبات، مِن صفات البشر، ومما جُبِلَت عليه النفوس.
فالنفس البشرية تعتريها الأحوال المختلفة، يمر عليها أحوال الفرح والترح، والسرور والسعادة، والضيق والضنك، أمر بديهي، وكل حال من هذه الأحوال قد يعرض النفس إلى الشطط وعدم الاتزان، فربما في حالٍ من هذه الأحوال تنحرف النفس عن مسارها واستقامتها، يستغلها الشيطان فرصة فيسول للعبد ويزين وينفث ضلالاته حتى يحيد بالعبد عن الطريق، فالشيطان يستغل التهاب المشاعر الإنسانية من فرح، وترح، وغضب، وحب وبغض .... الخ، فيحاول معهم حتى يتحقق له المراد.

ويجب على العبد المؤمن حين وقت الفرح أو الحزن أن يلتزم الجادة في كل أحواله من فرح وترح وغير ذلك ويرتبط دائماً بمولاه، ويحذر كل الحذر من الشطط والانحراف..
ولقد وجّه الإسلام العاطفة الملتهبة بالفرح، إلى الفرح بفضل الله وبهدايته "قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ"
وعلى المسلم حين الفرح، أن يحذر مكر الله سبحانه، لأن الفرح قد يجعل صاحبه ينسى المُنعم، وهو الله سبحانه، فيكون سبب لسلب النعمة، ولو بلغ العبد من الطاعة ما بلغ، لا ينبغي له أن يفارقه الحذر، فالفرح متى كان لله، وبما منّ الله به،  مقارنا للخوف والحذر، لن يضر صاحبه. ومتى خلا من الحذر ضرّ وأفسد . وهذا كتاب الله جل جلاله، يشير إلى ألوان من الفرح المنحرف الضار، فيقول في سورة الأنعام: "فلما نسوا ما ذُكروا به  فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون". أي أن أهل الشرك والعناد والمعصية، نسوا أوامر الله واعرضوا عنها، وجعلوها وراء ظهورهم، ففتح الله عليهم أبواب الإستدراج والإمهال، فأعطاهم من متاع الحياة ما يريدون، حتى إذا فرحوا بالأموال والشهوات، أخذهم الله على غفلة، فإذا هم بائسون محرومون من كل خير.
أيها المسلمون وفي الوقت نفسه الذي دعا الله فيه الناس للحذر حين الفرح، فهو ـ سبحانه ـ لم يُرِد أن يكون باب السعي وراء الطيبات وفرح الإنتصارات مفتوحا على مصراعيه.. لأن النفس البشرية لن تقف عند حد, حتى لو كان حراماً, وستطالب دوماً بالمزيد، حتى لو كان إسرافاً، وسيصبح صاحبها كمن يشرب من ماء البحر، كلما شرب منه ازداد عطشاً... وهكذا حتى يصبح حالة مَرضية وانحرافاً و طغياناً.
 وقد عرض لنا القرآن الكريم  نموذج قارون، وتحدث عنه بإسهاب، حيث كان قارون من أتباع موسى على نبينا وعليه السلام، ولكنه رويداً رويداً راح يعبّ من خيرات الدنيا، ليس فقط من حلالها، بل تعدى ذلك إلى حرامها، فطغى واستبد تاركاً وراء ظهره إيمانه بالنبي موسى عليه السلام ورسالته وكل ما قد عاهد الله عليه، قال تعالى: "إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ". فقد وصل قارون إلى قمة الفرح، ولكن أي فرح هو هذا؟... 
فرح قارون كان فرح طغيان المال والشهوات، وفرح البطر بنعمة الله ونكران الجميل... والنتيجة: قال تعالى: "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ ".
وها هي القاعدة القرآنية لحركة الإنسان في الحياة: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ". 77:القصص .
إنّها الدعوة الواضحة والصريحة للأخذ بكلّ أسباب الفرح، ولكن دون تغليب جانب على آخر.. نعم ـ أيها المسلمون ـ الفرحُ سلوكٌ راقٍ، وفِكرٌ رصينٌ، ومطلبٌ مهمٌّ، وهدفٌ منشود. والناسُ كلّ الناس يسعَى إلى فرحِ قلبِه، وزوالِ همِّه وغمِّه، وتفرُّق أحزانِه وآلامِه.
 ولكن .. ولكن على المسلم أن يظهر ذلك في إطار الشَّرع، وضوابِط الدِّين، ومُرتكَزات القِيَم والأخلاق دون خدشٍ للحياء. فالفرح يكون مذموما إذا كان ناتجًا عن الطغيان والتكبر والغفلة والخواء، وليس من شأن المسلم أن يكون مفراحًا إلى درجة الإسراف؛ إذ ما من شيء من أمور الدنيا إلا والإسراف يشينه، كما أن الاعتدال يزينه، إلا عمل الخير ولذلك قيل: لا خير في الإسراف ولا إسراف في الخير 
ومن هذا المنطلق ـ عباد الله ـ فإن الإسراف في الفرح سواء كان في الأعراس أو الإنتصارات الرياضية أو شبهها، مدعاة للخروج عن المقصود، بل ولربما أدى إلى الوقوع فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى من معاصٍ أو ضجيج وأهازيج، تقلق الذاكر، وتنغص الشاكر.
 وهذا ـ وللأسف ـ ما حدث بعد تأهل الفريق الوطني لكأس العالم، فإن أبالسة الجن والإنس ما فوتوا الفرصة، فلقد زينوا لكثير من الشابات والشباب، ودفعوهم وبطرق شتى إلى الإنحراف بهذا الفرح إلى مخالفات عظمى، وسيئات كبرى، فعاثوا في الشوارع والساحات فسادا، وأرخصوا القيم العليا والمبادئ السامية التي نعيش عليها، ولا نقوم إلا بها..
أيها المسلمون:  إني عندما أقول هذا فإني لا أدعو  لعدم الفرح بهذا الإنتصار، وإنما لنكشف عن الوجه الآخر الذي تحولت له كثير من مظاهر الفرح في مجتمعنا، وأنبه إلى ما انفرط فيها من معاص ، فقد انقلبت  الأفراح إلى أتراح في كثير من الحالات، ولا حول ولا قوة إلا بالله..

فيا عباد الله: قيِّدوا أفراحكم بشرع الله، وإياكم والتجاوزَ فيه بالقول أو بالعمل! وإياكم أن تأسوا على ما فاتكم، أو تتجاوزوا المشروع في الفرح بما آتاكم! فالله يقول: "لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ". الحديد:23 . أي: مختال في نفسه، متكبِّر فخور على غيره، وتأملوا قول عكرمة واعملوا به، قال: ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكراً، والحزن صبراً. فتلك قاعدةٌ حَرِيَّة بالتأمل. واتقوا الله لعلكم تفلحون..  
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..  

الخطبة ا لثانية
   الحمد لله، الحمد لله حمدًا كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً، أحمدُه حمدًا لا انتهاءَ لأمَده، وأشكرُه شُكرًا لا إحصاءَ لعدده، الحمدُ لله عددَ خلقِه وزِنةَ عرشِه ورِضا نفسِه ومِدادَ كلماته، الحمدُ لله كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ الأعلى، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبده ورسوله النبيُّ المُصطفى والخليلُ المُجتبَى، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه ومن اقتفَى.
   أما بعد : فما أجمل - أيها الأحبة- أن ننطلق في أفراحنا من اعتزازنا بديننا ، وأن نكون صادقين مع ربنا، شاكرين لأنعمه، سائلينه سبحانه أن يزيدنا من فضله..
ألا وإن الفرح الأكبر والنعيم الأعظم فرحٌ لا يفنَى، ونعيمٌ لا حدَّ لمُنتهاه، عندما يُوفَّقُ المُسلمُ لسعادة الأبَد في جنَّات النعيم، وهناك يفرحُ المؤمنون دون غيرِهم يوم القيامة، تتلألأُ وجوهُهم نورًا، ومن شدَّة الفرَح تظهرُ ضاحِكةً مُستبشِرَة، قال الله تعالى: "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم".  المطففين: 24 ، وقال سبحانه: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ".  القيامة: 22، 23. وقال سبحانه:  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ"  عبس: 38، 39.
    فاللهم إنا نسألُك الجنة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذُ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل. اللهم إنا نسألُك من الخير كلِّه عاجلِه وآجلِه ما علِمنا منه وما لم نعلَم، ونعوذُ بك من الشرِّ كلِّه عاجِلِه وآجلِه ما علِمنا منه وما لم نعلَم. اللهم إنا نسألُك فواتِح الخير وخواتِمَه وجوامِعه، وأوله وآخره، وظاهره وباطنه، ونسألُك الدرجات العُلَى من الجنة يا رب العالمين. اللهم أصلح حال شبابنا واهدهم سبل النجاح والفلاح. اللهم نور حياتهم بالعلم، وزين أخلاقهم بالحلم، واجعلهم  من عبادك الطائعين.  اللهم تقبل بفضلك أعمالنا، وحقق بالزيادة آمالنا، واجعل بطاعتك اشتغالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واختم بالسعادة آجالنا، واجعل إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وتجاوز عن سيئاتهم وسيئاتنا، واجعلنا من عبادك الصالحين، يا ارحم الراحمين. اللهم آمنا في دورنا ووفق إلى الخير والصلاح ولاة أمورنا، واجعل اللهم بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..