27 نوفمبر 2013



الموضوع: الرجولة أُمنية عمرية..

الخطبة الأولى
      إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ". آل عمران:102. "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً". النساء:1.  "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً". الأحزاب:70-71..
      أما بعد، فيا أيها المسلمون: إن الأمم والرسالات لا تحتاج إلى المعادن المذخورة، والثروات المنشورة، ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرؤوس المفكرة التي تستغلها، والقلوب الكبيرة التي ترعاها، والعزائم القوية التي تنفذها. إنها تحتاج إلى الرجال، ولكن أين الرجال، فالمِثَالِيَّاتِ تتفرق في نفوسٍ شتى، ولا تجتمع في نفس واحدةٍ..
   إن رجلاً واحدًا قد يساوي مائة، ورجلاً قد يوازي ألفًا، ورجلاً قد يزن شعبًا بأسره، وقد قيل: رجل ذو همّة يحيي أمة.  
يعد بألف من رجال زمانه * لكنه في الألمعية واحد
     جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ يوما ـ إلى جماعة من أصحابه، فقال لهم: تمنوا؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟.
    فقال عمر رضي الله عنه: ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله".
      فلله ما أحكم عمر رضي الله عنه حين لم يتمنّ فضة ولا ذهباً، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً، ولكنه تمنى رجالاً من الطراز الممتاز الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض وأبواب السماء!.  
   وهل تعلم أنهم كانوا كذلك: لما حاصر خالد بن الوليد رضي الله عنه ( الحيرة ) فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمدّه إلا برجل واحد، هو القعقاع بن عمرو التميمي، وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل!.
   ولما طلب عمرو بن العاص رضي الله عنه المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتح مصر، كتب إليه: "أما بعد : فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف، رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد".
   ألا ما أحوج الأمة اليوم ما تكون إلى رجل مثل هؤلاء!.  الرجل الذي يسد مكانه ويملأ فراغه، ويؤدي دوره في البيت والمسجد والشارع والعمل والسوق، وفي أي مكان كان..
ألا ما أعزّ ذلك وما أندره!!.
  وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة". رواه البخاري. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن مرضيَّ الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل..  قليل جدا، كقلّة الراحلة في الإبل، وذلك هو معنى الحديث والله أعلم: أي أنك لا تجد في مائة من إبل، راحلة تصلح للركوب، لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئا سهل الانقياد. وكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للقدوة والقيادة.
وإذا صفا لك من زمانك واحد * فهو المراد، وأين ذاك الواحد
    ما المراد من الراحلة المقصودة في هذا الحديث:  ذلكم الفرد النشط الحي القوي، الذي يأخذ على عاتقه المسؤولية، ويعمل وفق طاقاته وإمكانيته في سبيل إحياء الأمة.  ذلكم الفرد الذي تصبح الفكرة همّه، تُقيمه وتُقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته. ذلكم الذي إن لم تكن لديه الوسائل الفعالة، سعي في إيجادها ولو كان أمرًا مستحيلًا.
   
نعم.. إن الرجل الواحد قد ينقذ الموقف بمفرده بما حباه الله من الخصائص الإيمانية والمواقف الرجولية، التي ربما عملها بمفرده، وفي القرآن الكريم ، قصة موسى حين قتل القبطي، تجد قول الله تعالى: "وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ".  القصص:20.   وفي سورة (يس) في قصة أصحاب القريةـ إذ جـاءها المرسـلون ـ تجـد قـوله تعالى: وَ "جَاء مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ"  يس: 20.
    في سياق هاتين القصتين، تجد أن النص يبرز كلمة (رجل) وهي تعني شخصاً مفرداً، فهو رجل واحد ينقذ الموقف بخصائصه الذاتية والإيمانية، ولا يستـوحش من غربته بين أهله أو تفرده في طبقـته، فيحيط موسى علماً بالمؤامرة الدنيئة التي يحيكها القصر الفرعوني للقضاء عليه وعلى دعوته، ويقترح عليه الحل، وهو الخروج من قريته والفرار بنفسه. وفي قصـة (يـس) يعلن أمام الملأ نصرة المرسلين، ويدعو إلى اتباعهم متحدياً بذلك رؤوس الضلالة صارخاً به في وجه الجمهور التابع..
   آه.. ثم أه لو ظفر الإسلام اليوم في كل ألف الف من أبنائه برجل واحد فيه خصائص الراحلة، لكان ذلك خيراً له وأجدى عليه من هذه الجماهير المكدسة التي لا يهابها عدو، ولا ينتصر بها صديق. 
    أيها المسلمون: من هو الرجل الذي نريد.؟
هل هو كل من طَرَّ شاربه ونبتت لحيته من بني الإنسان..؟.
 وهل الرجولة ببسطة الجسم، وطولِ القامة، وقوةِ البنية فقط..؟
     لا..!! فقد قال الله عن طائفة من المنافقين: "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ". المنافقون:4  وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَءُوا "فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ". الكهف:105 ..
   إذن أيها المسلمون: ليس هذا الرجل الذي نريد، وإنما نريد الرجل الذي يتمتع بقوة نفسية تحمله على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها..
   فالرجولة قوةٌ تجعله كبيراً في صغره، غنياً في فقره، قوياً في ضعفه.. الرجولة قوةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه... الرجولة: قوة تحمل صاحبها على أن يؤدي واجبه نحو ربه، وواجبه نحو نفسه، وواجبه نحو أهله ودينه وأمته...
  جعلني الله وإياكم أمثال هؤلاء الرجال، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك،  واجعلنا رجالاً من أهل الحق وأعوانه، وأعنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
   الحمد لله رب العالمين، الذي لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
   أما بعد، فإن خير ما تتظافر عليه الجهود، وأفضل وأعظم ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من مسؤولين وأولياء وصحافة وإذاعة، ومسجد ومدرسة، هو صناعة هذه الرجولة، وتربية أمثال هذا الطراز من الرجال الذين ذكرنا..
  ولن تترعرع الرجولة الفارعة، ويتربى الرجال الصالحون، إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والمعايير الأصيلة، والتقاليد المرعية.
  فيا أيها المسلمون: فلنجلس مع أنفسنا ونحاسبها، ولنحدد مدى خدمتنا لدين ربنا، فان وجدنا خيرا فلنحمد الله ولنحرص على الزيادة، وان وجدنا تقصيرا فلنحرص على تلافيه فيما بقي من أعمارنا..
   أسال الله تعالى ان يوقظنا من غفلتنا.. وان يغفر زلتنا .. وان يعيننا على أنفسنا والشيطان .. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقال فيه كلمة الحق. اللهم أصلح القلوب والأعمال، وأصلح ما ظهر منا وما بطن، واجعلنا من عبادك المخلصين. اللهم إنا نعوذ بك من الغواية والضلالة، اللهم ثبتنا على دينك، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم أصلح الأئمة وولاة الأمور، اللهم خذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى، وزينا برحمتك بالبر والتقوى، واجعلنا من عبادك المهتدين. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق