23 سبتمبر 2015

الموضوع:  أيام التشريق: أيام أكل وشرب وذكرٍ لله..
الخطبة الأولى
    الحمد لله الذي سهّل لعباده طرق العبادة ويسّر، وتابع لهم مواسم الخيرات لتزدان أوقاتهم بالطاعات وتعمُر، الحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، انفرد بالخلق والتدبير، وكل شيء عنده بأجل مقدٍّر. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل من تعبّد لله وصلّى وصام وزكّى وحجّ واعتمر، صلى الله عليه وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّر، وعلى أصحابه الذين سبقوا إلى الخيرات فنعم الصحب كانوا والمعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدا فجرٌ ونوّر، وسلم تسليما كثيرا..
    أما بعد، فعيدكم مبارك، وتقبّل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وبُشرى لكم بالثواب الجزيل من رب كريم رحيم، وأمّلوا منه سبحانه عند لقائه بالعطاء العظيم..
     أيها المسلمون: إن لكل أمة من الأمم أعيادا في قديمها وحاضرها، يعود عليها في يوم معلوم، تفتخر بها وتعتزّ بما لها فيها من عادات وتقاليد، وتتّخذ منها منبرا لإعلان فرحها وسرورها بما يتضمّن عقيدتها وأخلاقها وفلسفة حياتها.. وما أسعدنا ـ نحن المسلمين ـ وقد خصّنا الله بأعياد، وتابع لنا مواسم الخيرات والمبرّات الوافرة بالمنح والهبات، وحثَّنا على اغتنام فُرصها ببذل أسباب الزُّلفَى إليه بألوان الطاعات واستِباق الخيرات والتنافُس في الباقيات الصالحات.
    وإن أيامًا أمَرَ الله بذِكره فيها لهي من أجلِّ الأيام وأعظمِها، وأشرفِها، وأحراها بأن تُصرَفَ إليها الجُهود، وأن تتَّجِه إلى عمارتِها القلوبُ والجوارحُ بخير ما تُعمَرُ به.
   إنها ـ أيها المؤمنون ـ الأيامُ المعدودات التي ذكرَها الله بقوله: "وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات". البقرة: 20، وهي أيامُ التشريق: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة، وسميت بأيام التشريق، قيل: لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي، أي يقدّدونها ويبرزونها للشمس حتى تجف.. وقيل: لأن صلاة العيد إنما تصلّى بعد شروق الشمس.. ولقد عدّها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم من الأعياد، وأخبر بأنها أيام أكل وشرب وذكرٍ لله.. جاء في حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) رواه أبو داود.
    عباد الله: إن هذه الأيام يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل والشرب، ونعيم قلوبهم بالذكر والشكر، وبذلك تتمّ النعم، فقد ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث في أيام منى منادياً ينادي: "لا تصوموا هذه الأيام، فإنها هي الأيام المعدودات"، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث نُبْيشَة الهُذلي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل".. ففي قول النبي صلّى الله عليه وسلّم "إنها أيام أكل وشرب، وذكر لله عز وجلّ، إشارة إلى أن الأكل في أيام الأعياد، والشرب إنما يستعان به على طاعة الله عز وجل، وقد أمر الله في كتابه بالأكل من الطيبات والشكر له بالطاعات، فمن استعان بنعم الله على معاصيه، فقد كفر نعمة الله عليه وبدلها كفراً، فاحذروا من ذلك يا عباد الله، ولا تجعلوا هذه الأيام المباركة أيام غفلة عن ذكر الله، وأيام اشتغال باللهو واللعب والإعراض عن طاعة الله، فتلكم حال الأشقياء.
       ألا وإن من أفضل العبادات وأجلّها في هذه الأيام ذكر الله، بل عدّه معاذ بن جبل رضي الله عنه أفضل عبادة على الإطلاق، إذ قال: "ما عَمِلَ آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله تعالى، قالوا: يا أبا عبد الرحمن ولا الجهاد في سبيل الله؟، قال: ولا، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع"؛ وكان عمر رضي الله عنه يكبّر في قبّته بمنًى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبّر أهل الأسواق حتى ترتج منىً تكبيراً.. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكبّر بمنى تلك الأيام خلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً. وكانت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها تكبّر يوم النحر، وكان النساء يكبّرن خلف أبان بن عفان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المساجد كما في صحيح البخاري..

الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا..  فبادر أخي المسلم إلى اغتنام هذه الأيام الفاضلة المباركة بالذكر والأعمال الصالحة، فإنه ليس لما بقي من عمرك ثمن، وتب إلى الله من تضييع الأوقات، واعلم أن الحرص على العمل الصالح في هذه الأيام المباركة هو في الحقيقة مسارعةٌ إلى الخير ودليل على التقوى، قال تعالى: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ". الحج:32 .

قطعت شهور العام سهوًا وغفلة * ولم تحترم فيما أتيت المحرَّما
فلا رجبًا وافيت فيه بحقه * ولا صمتَ شهر الصوم شهرًا متمَّمًا
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي * مضى كنت قوّامًا ولا كنت محرِمًا
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة * وتبكي عليها حسرةً و تندُّما
وتستقبل العام الجديد بتوبة * لعلك أن تَمحو بِها ما تقدَّما

     فاغتمنوا ـ يا عباد الله ـ هذه الأوقات بالصالحات، واعلموا أن للطاعات مواسم وأوقات تشرف فيها ويعظم أجرها، فمن استغلها غنم وربح، ومن أهملها وسوّف فاتته ولم يربح، وربما تمنى رجوعها ليستغلها ولكن هيهات.. هيهات.  
     ومن فضل الله تعالى ونعمه الجليلة على عباده أن هيأ لهم المواسمَ العظيمة والأيامَ الفاضلة لتكون مغنمًا للطائعين وميدانًا لتنافس المتنافسين.. وإن لنا في أيام أعيادنا مظاهر حميدة وأعمالا صالحة، ينبغي تشجيعها والعمل على إبقائها وتكثيرها، كالتزاور وتبادل التهاني، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هل التهنئة في العيد وما يجري على ألسنة الناس كقول "عيد مبارك" وما أشبهه، هل له أصل في الشريعة؟ وإن كان له أصل في الشريعة فما الذي يقال؟.  فأجاب رحمه الله: أما التهنئة يوم العيد بقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد "تقبل الله منا ومنكم، وأحاله عليك، ونحو ذلك، فهذا قد روي عن طائفةٍ من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره، ثم قال رحمه الله: فمن فعله فله قدوة، ومن تركه فله قدوة، والله أعلم".أ.هـ.
        ومن المظاهر الجميلة البارزة في هذه الأيام صلة الأرحام، والتوسعة على العيال وإدخال السرور عليهم. وما أجملها تلك الإجتماعات العائلية والأسرية وحضور الأطفال من أجل ربطهم بأقاربهم والتعرّف عليهم. ومن المظاهر الجميلة أيضا، إدخال السرور على من حرم فرحة يوم العيد، أو كانت فرحته ناقصة، كالأيتام وكالمرضى الذين يرقدون على أسرة المرض، سواء في بيوتهم أو في المستشفيات.. ألا وإن مما أؤكد عليه من هذه المظاهر: السعي من أصحاب القلوب الحية التي تلتمس  الأجر، إلى إصلاح ذات البين بين المتقاطعين والمتهاجرين، فالعيد فرصة سانحة يحسن استغلالها.. فاجعلوا هذه الأيام ميدانا للتنافس في الطاعات والمبرات، اجعلوها أيام أفراح لا أقراح، أيام اتفاق لا اختلاف، أيام حبّ وصفاء لا بغضاء ولا شحناء، تسامحوا وتصافحوا وتحابّوا وتعاونوا على البر والتقوى.
     فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك،هيئ لنا من أمرنا رشدًا، واجعلنا من عباده المخلصين، اللهم واجعل لنا مواسم الخيرات مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات إلى رحمتك طريقا وسلما، والحمد لله رب العالمين..
الخطبة الثانية

   الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، دائما بدوام عزته وجلال وجهه وعظيم سلطانه ومجده. نحمده تعالى وهو أهل الحمد والثناء ، لا نحصي نعمه ولا نحصي ثناءً عليه ، هو سبحانه كما أثنى على نفسه. ونصلي ونسلم على خير خلقه ، محمد وآله وصحبه .
أما بعد، فيا عباد الله:  وتذكروا ـ دوما ـ أن نعم الله علينا في بلدنا كثيرة، فمن نعمة الإسلام والإيمان، إلى نعمة السلام والأمان، وقد قال الله تبارك وتعالى: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ". فلِنشكر الله على نعمه، ونسأله المزيد من فضله. وليس معنى ذلك أننا نقول: إننا في كمال وعدم نقص، كلا. بل النقص موجود والشر غير مفقود، وأهل الشر والفتنة لا يزالون يكيدون لهذا الوطن ووحدته، وللدين وأهله ويغيظهم ظهور الدين ونعمة الأمان فكونوا حذرين..  فديننا دين اجتماع ومحبّة وتآلف بين المسلمين. فلنحرص على توحيد الكلمة، ورأب الصدع. فالأمة مثخنة بالجراح، ولا يجوز مداواة القروح بالجروح، وإنما الواجب إشاعة المودة والمحبة والإخاء، ونبذ التفرق والشقاق، وهذا لا يتحقّق إلا بسلامة الصدور ورعاية الحقوق والترفُّق في النصيحة ومحبة الخير للمسلمين والتماس الأعذار لهم. في الصحيحين: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". ويقول الله تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ .. "آل عمران/103.
     أيها المسلمون: وتذكّروا وأنتم تنعمون بهذا العيد وجمع الشمل، إخوانا لكم مفزّعين ملتاعين في فلسطين وفي بلاد الرافدين، وفي ليبيا واليمن وفي كل مكان، لا يعيشون فرحة العيد مثلنا، بل يعانون من ويلات الحروب ونحن في سلام، ويروعون ويقتلون ونحن في أمان، ويحاصرون ويجوعون ونحن منعمون ويشرّدون ونحن مجتمعون. فلِنسألِ الله تعالى لهم الفرج القريب، والنصر على الظالمين، وألا يؤاخذنا بما قصّرنا في واجب نصرتهم وإعانتهم ، إنه تعالى حليم كريم.
     أدعــــوك يا ربـّي فرّج مصيبتنــا   يا كاشف الضر فاض الليل بالفحم
   يا ربّ وحّد صفوف المسلمين على     درب الهـدى أمــة خفاقة العلـــم
     لاهُمّ وانصر جهاد الصادقين كما   نصرت قبل دعاة الحق في الأمــــم
    وأخـتم القول بالتسبيـح مبتـــــهـلا     لاهـُمّ صل على المختار من قدم
    اللهم أعد علينا من بركات هذا اليوم وأعد أمثاله علينا ونحن والأمة الإسلامية جمعاء نتمتع بالإيمان والأمن والعافية.. ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك ونسأل تمامها في الأشياء كلها، والشكر لك عليها حتى ترضى وبعد الرضا، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، وأقض الدين عن المدينين، ويسر أمور المسلمين، اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، ومن كل مرض شفاء، ومن كل دين وفاءً، ومن كل حاجة قضاءً، ومن كل ذنب مغفرة ورحمة برحمتك يا أرحم الراحمين.. اللهم وسلّم الحجاج والمعتمرين، وأعنهم على أداء مناسكهم، واحفظهم من شرّ كل ذي شرّ، اللهم ردّهم إلى ديارهم سالمين غانمين، وبالأجر والثواب موفورين يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصلّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

20 سبتمبر 2015

الموضوع: خطبة عيد الأضحى المبارك.


الخطبة الأولى
      الله أكبر (7)، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، له الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أشهد أنه الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أدّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأهل البيت الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين وعلى أصحابه الهداة المهتدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين من الأولين والآخرين إلى يوم الدين..
   الله أكبر ـ أما بعد، فيا أيها المسلمون ـ ها هو الزمان قد استدار وأظلكم يوم الحج الأكبر، يوم الأضحى المبارك، يوم الفداء والإبتلاء، يومٌ امتحن الله فيه قلوب عباده المؤمنين وأوليائه الصالحين، ليَعلم علم مشاهدةٍ ما تنطوي عليه هذه القلوب من الخير والطاعة والإستسلام والتضحية. يومٌ امتحن الله فيه نبيه ورسوله وخليله أبا الأنبياء إبراهيم على نبينا وعليه السلام لرؤية رآها، وها هي القصة كما ذُكر الله في كتابه العزيز:
قال الله تبارك وتعالى: "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ". سورة الصافات: 99ـ111 .
الله أكبر.. أيها المسلمون: يَذكرُ الله تبارك وتعالى عن خليله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام أنه لمّا هاجر من بلاد قومه إلى حيث يتمكّن من طاعة الله وعبادته، سأل ربّه أن يهبَه وَلَدًا صالحًا، فبشره الله تبارك وتعالى بغُلام مُبارك حليم، وهو إسماعيل عليه السلام. ولمّا شَبَّ إسماعيل وصار يَسْعى في مصالحه الدنيوية والأخروية، رآى إبراهيم عليه السلام في منامه رُؤيا، وهي أنَّ الله تعالى يأمره بذبح ولده، ورُؤيا الأنبياء وحي وحقّ. فما كان من نبيّ الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ بعد أن استيقظ من النوم ـ إلا أن سَارع لتنفيذ أمر الله تبارك وتعالى دون تردّد، وقد قيل: لما أراد إبراهيم عليه السلام ذبحَ ولده إسماعيل، قال له: انطلق فنقرّب قربانًا إلى الله عز وجلّ، فأخذ سكينًا وحَبلاً ثم انطلق مع ابنه إسماعيل حتى إذا ذهبا بين الجبال، قال له إسماعيل: يا أبت أين قربانك؟، فقال له إبراهيم: "إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى"؟.   
  يا له من بلاء.. ويا له من امتحان.. ولكن أمر الله يجب أن يطاع، والأنبياء أحرص الناس على طاعة الله، وقد صدّق إبراهيم الرؤيا ورضي بقضاء الله وسلّم تسليما، ولم يجد من ابنه إسماعيل إلا الصبر والطاعة المطلقة والإستسلام التام، قائلا: "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين".
     نعم.. ويطرح إبراهيم ابنه على جبينه لينفّذ أمر الله فيه، فإذا برحمة الله التي هي دوما قريب من المحسنين، ويعلم الله من الأب والإبن إخلاصَهما وصفاءَ معدنهما فيجعل لهما من أمرهما مخرجا، ويأتي النداء من السماء: "يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين". وينظر إبراهيم على نبينا وعليه السلام فيجد الكبش محضرا أمامه ويُؤمَر بذبحه ويخلي سبيل ابنه، فذبحه وهو يكبر تعظيما لله وشكرا له. ويخلِّد القرآن هذا الحادث ويصفه بأنه البلاء المبين فيما ذكرناه سابقا من الآيات البينات..
     الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر..
     أيها المسلمون: لقد مرّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بامتحان التّكليف فَوَفَّيَا. وأنا وأنتَ وأنتِ وأنتم وأنتنّ كُلّفْنا بتكاليفَ، فهل وفينا أم انتكسنا؟.
       فبعض المغزى من قصة إبراهيم على نبينا وعليه السلام، أن يمتثل المسلم أمر الله لا يتلكّأ ولا يتهرب، وأن يكون سخيّا معطاء، وأن يعتقد بأن الله جاعل له من أمره يسرا، قال تعالى: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".
   وما هذه الأضاحي التي تتقرّبون بها إلى الله في يومكم هذا إلا سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والتسليم، ولقد أخبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن لنا بكل شعرة منها حسنة، وبكل صوفة حسنة، وإنها تأتي يوم القيامة شاهدة لصاحبها بما قام به من الشكر لله والتودّد إلى إخوانه. فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحبّ إلى الله من إهراقه دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدّم ليقع من الله عزّ وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا". رواه الترمذي.
   فهنيئا لكم بما منّ الله عليكم من بهيمة الأنعام فاشكروا الله وكبروه، وضحّوا عن أنفسكم وأهليكم، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، حيث ضحّى عنه وعن أهل بيته. قال أنس رضي الله عنه: "ضحّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين– أي أبيضين خالصين– أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبر ووضع رجله على صفاحهما". رواه البخاري.
   ألا وإن ما يجب عليكم أن تعلمونه:  أن السنة في ذبح الأضحية أن تكون بعد صلاة العيد،  فقد روى البخاري بسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "إنَّ أوّلَ ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلِّي، ثم نرجع فننحَر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا، ومن نحر قبلَ الصلاة فإنما هو لحم قدّمه لأهله، ليس من النسُكِ في شيء".
    فإذا رجعتم إلى منازلكم ـ بإذن الله ـ فاذبحوا أضاحيكم محتسبينها لله ممتثلين أمره، وليكن رائدكم في عملكم هذا تقوى الله، قال الله تعالى: "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم". الحج: 137. وكلوا منها وأطعموا البائس الفقير والقانع والمعترّ، واعلموا أن ما تقدّمونه من خير فلأنفسكم، فلقد روى الترمذي في سننه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنهم ذبحوا شاة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟. قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلها إلا كتفها".  الله أكبر، فلقد بين صلى الله عليه وسلم أن الجزء الذي يذهب للفقراء والمساكين هو يذهب إلى الله، وهو الباقي.. قال تعالى: "ما عندكم ينفذ وما عند الله باق".
       ألا واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ: إنما الأعياد ليست بعودة الأيام ولا بتكرّر السنين، وإنما بما يتحقّق فيها من القيم الإنسانية والأهداف النبيلة، فما الأعياد إلا مظهر من مظاهر الأخوة الصادقة والتعاون والتعاطف والتراحم بين المسلمين، أينما كانوا، وحيثما وجدوا.. فيومكم هذا.. هو يوم تآخ وتصادق وتسامح وتصالح، أفرغوا صدوركم من الضغائن والحقد والغلّ والحسد، وصِلوا أرحامكم وأقاربكم وجيرانكم وأصلحوا ذات بينكم، وتذكّروا ما رواه الأمام مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تفتح أبواب الجنة يوم اثنين وخميس فيُغفَر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظِروا هذين حتى يصطلحا". وروي ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا: رجل أمّ قوما وهو له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها غضبان، وأخوان متصارمان".  فلتتصافحْ قلوبكم قبل أيديكم، واستغفروا لذنوبكم، واعملوا من الصالحات ما تجدونه يوم ترجعون فيه إلى الله، أعرفوا قدر يومكم هذا، وتعرّضوا لنفحات ربكم فإنه رحيم كريم..  
    الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. اللهم اجعل لنا مواسم الخيرات مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات إلى رحمتك طريقا وسلما، وصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والحمد لله رب العالمين..

                                                                  الخطبة الثانية
     الله أكبر(5) ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا،  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه بكرة وأصيلا.. ورضي عن أصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين..
     أما بعد، فيا أيها المسلمون: آن لكم أن ترجعوا ـ راشدين ـ إلى بيوتكم على غير الطريق التي أتيتم منها، لتشهد لكم ملائكة الطريقين كما جاء بذلك الأثر، فتذبحوا أضاحيكم بأيديكم، ومن لم يحسن الذبح كفاه أن يوكّل من يقوم بالذبح بدله ويشهد ذلك، فلقد روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته: يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإن لك بكل قطرة من دمها أن يغفر لك الله ما سلف من ذنوبك، قلت يا رسول الله: ألنا أهل البيت، أو لنا وللمسلمين؟. قال: بل لنا وللمسلمين".
    فيا ربنا لك الحمد سرًّا وجهرا، ولك الحمد دوما وكرًّا، ولك الحمد شعرا ونثرا. هذا، وكرّروا ـ رحمكم الله ـ التكبير إثر صلواتكم المفروضة، من ظهر يومكم هذا إلى صبح اليوم الرابع، ولفظه: الله أكبر، الله اكبر، الله أكبر..  واحمدوا الله واشكروه على أنِ انعم عليكم ببلوغ هذا اليومِ المبارك، فطوبى لكم على ما أنعم به عليكم من كثيرٍ من الماديات وغامِرِ الرَّوحانياتِ وسابغ الإيمانيات.. أرضٌ طيبة، وتاريخٌ مجيد، وحاضر زاهر، فلله الحمد والمنّة..

       فتذكّروا إخوانًا لكم مفزَّعين ملْتَاعِين في فلسطين وفي بلادِ الرافدَين وفي ليبيا واليمن وفي كلّ مكان،  بل إن العالم الإسلامي اليوم ـ أيها المؤمنون ـ لتجتاح كثيرا من بلدانه أمواج عاتية من الفتن، فتنٌ تحرق الدين وتحرق العقل وتحرق البدن، فتنٌ لا تُبقي ولا تذر، فتن اجتالت الأنفس والثمرات، وأذهبت الأموال والممتلكات، وأحرقت المدن والأرياف، فتنّ شرّدت وأفزعت الرجال والنساء والصغار والكبار، والله المستعان على ما تَصف وتَنْقُل وكالات الأنباء ونشرات الأخبار..

    فاللهم تدارَك أمةَ نبيِّك الأمين، وانصرهم على عدوّك وعدوهم يا قوي يا متين، اللهم انشُر بينهم الأمن والاستقرارَ، والصدقَ والإخلاصَ والإيمانَ والتقوى، وجنِّبنا وإياهم الآفات في السر والنجوى، يا عالم السر والنجوى يا كاشف كلِّ بلوى، لا إله إلا أنت يا رب العرش العظيم، اكفِنا ما أهمَّنا وما لا نهتمُّ به، وما أنت أعلمُ به منا، وكن هَمَّنا أنت وحدَك يا أكرم الأكرمين. اللهم يا محوِّل الأحوال حوِّل حالنا وحال المسلمين أجمعين إلى أحسن حال، وعافِنا من أحوال أهل الضلال وفِعل الجهال يا رب العالمين، اللهم نسألك لنا ولبلدنا وللأمة مِن خير سألك منه عبدُك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك مما استعاذك منه عبدُك ونبينك سيدُنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بك.

اللهم وإن لنا إخوانا هم حجاج بيتك نغبطهم على ما يسرت لهم، لكن نسألك أن تتقبّل منهم، وأن تيسّر أمورهم، وأن تجعل حجهم مبرورا وذنبهم مغفورا، وأن تعيدهم إلى بلدانهم سالمين وبالأجر غانمين.. ربنا اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولجميع المسلمين، وأعد علينا على اليوم بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..

.                     .وكل عام والجميع بتوفيق الله في خير وعافية، وصلى الله وسلم على محمد.