الموضوع: خطبة عيد الأضحى المبارك.
الخطبة الأولى
الله أكبر
(7)، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، الحمد لله الذي
هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، له الحمد كما ينبغي لجلال وجهه
وعظيم سلطانه، أشهد أنه الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده
وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره
الكافرون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أدّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق
جهاده وعبد ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأهل البيت
الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين وعلى أصحابه الهداة المهتدين، وعلينا وعلى عباد
الله الصالحين من الأولين والآخرين إلى يوم الدين..
الله أكبر ـ أما بعد، فيا أيها المسلمون ـ ها هو
الزمان قد استدار وأظلكم يوم الحج الأكبر، يوم الأضحى المبارك، يوم الفداء والإبتلاء،
يومٌ امتحن الله فيه قلوب عباده المؤمنين وأوليائه الصالحين، ليَعلم علم مشاهدةٍ
ما تنطوي عليه هذه القلوب من الخير والطاعة والإستسلام والتضحية. يومٌ امتحن الله
فيه نبيه ورسوله وخليله أبا الأنبياء إبراهيم على نبينا وعليه السلام لرؤية رآها، وها
هي القصة كما ذُكر الله في كتابه العزيز:
قال الله
تبارك وتعالى: "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ
لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ
حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا
تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْبَلاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي
الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ
مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ". سورة الصافات: 99ـ111 .
الله
أكبر.. أيها المسلمون: يَذكرُ الله تبارك وتعالى عن خليله إبراهيم على نبينا وعليه
الصلاة والسلام أنه لمّا هاجر من بلاد قومه إلى حيث يتمكّن من طاعة الله وعبادته،
سأل ربّه أن يهبَه وَلَدًا صالحًا، فبشره الله تبارك وتعالى بغُلام مُبارك حليم،
وهو إسماعيل عليه السلام. ولمّا شَبَّ إسماعيل وصار يَسْعى في مصالحه الدنيوية
والأخروية، رآى إبراهيم عليه السلام في منامه رُؤيا، وهي أنَّ الله تعالى يأمره
بذبح ولده، ورُؤيا الأنبياء وحي وحقّ. فما كان من نبيّ الله إبراهيم عليه الصلاة
والسلام ـ بعد أن استيقظ من النوم ـ إلا أن سَارع لتنفيذ أمر الله تبارك وتعالى
دون تردّد، وقد قيل: لما أراد إبراهيم عليه السلام ذبحَ ولده إسماعيل، قال له:
انطلق فنقرّب قربانًا إلى الله عز وجلّ، فأخذ سكينًا وحَبلاً ثم انطلق مع ابنه إسماعيل
حتى إذا ذهبا بين الجبال، قال له إسماعيل: يا أبت أين قربانك؟، فقال له إبراهيم:
"إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى"؟.
يا له من بلاء.. ويا له من امتحان.. ولكن أمر
الله يجب أن يطاع، والأنبياء أحرص الناس على طاعة الله، وقد صدّق إبراهيم الرؤيا
ورضي بقضاء الله وسلّم تسليما، ولم يجد من ابنه إسماعيل إلا الصبر والطاعة المطلقة
والإستسلام التام، قائلا: "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من
الصابرين".
نعم.. ويطرح إبراهيم ابنه على جبينه لينفّذ أمر
الله فيه، فإذا برحمة الله التي هي دوما قريب من المحسنين، ويعلم الله من الأب
والإبن إخلاصَهما وصفاءَ معدنهما فيجعل لهما من أمرهما مخرجا، ويأتي النداء من
السماء: "يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين". وينظر
إبراهيم على نبينا وعليه السلام فيجد الكبش محضرا أمامه ويُؤمَر بذبحه ويخلي سبيل
ابنه، فذبحه وهو يكبر تعظيما لله وشكرا له. ويخلِّد القرآن هذا الحادث ويصفه بأنه
البلاء المبين فيما ذكرناه سابقا من الآيات البينات..
الله أكبر، الله
أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر..
أيها المسلمون: لقد مرّ إبراهيم
وإسماعيل عليهما السلام بامتحان التّكليف فَوَفَّيَا. وأنا وأنتَ وأنتِ وأنتم
وأنتنّ كُلّفْنا بتكاليفَ، فهل وفينا أم انتكسنا؟.
فبعض
المغزى من قصة إبراهيم على نبينا وعليه السلام، أن يمتثل المسلم أمر الله لا
يتلكّأ ولا يتهرب، وأن يكون سخيّا معطاء، وأن يعتقد بأن الله جاعل له من أمره
يسرا، قال تعالى: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".
وما
هذه الأضاحي التي تتقرّبون بها إلى الله في يومكم هذا إلا سنة أبيكم إبراهيم
ونبيكم محمد عليهما الصلاة والتسليم، ولقد أخبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن
لنا بكل شعرة منها حسنة، وبكل صوفة حسنة، وإنها تأتي يوم القيامة شاهدة لصاحبها
بما قام به من الشكر لله والتودّد إلى إخوانه. فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله
عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحبّ
إلى الله من إهراقه دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن
الدّم ليقع من الله عزّ وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا".
رواه الترمذي.
فهنيئا لكم بما منّ الله عليكم من بهيمة
الأنعام فاشكروا الله وكبروه، وضحّوا عن أنفسكم
وأهليكم، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، حيث ضحّى عنه وعن أهل بيته. قال أنس
رضي الله عنه: "ضحّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين– أي أبيضين
خالصين– أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبر ووضع رجله على صفاحهما". رواه
البخاري.
ألا وإن ما
يجب عليكم أن تعلمونه: أن السنة في ذبح
الأضحية أن تكون بعد صلاة العيد، فقد روى
البخاري بسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "إنَّ أوّلَ ما نبدأ في
يومنا هذا أن نصلِّي، ثم نرجع فننحَر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا، ومن نحر قبلَ
الصلاة فإنما هو لحم قدّمه لأهله، ليس من النسُكِ في شيء".
فإذا رجعتم
إلى منازلكم ـ بإذن الله ـ فاذبحوا أضاحيكم محتسبينها لله ممتثلين أمره، وليكن
رائدكم في عملكم هذا تقوى الله، قال الله تعالى: "لن ينال الله لحومها ولا
دماؤها ولكن يناله التقوى منكم". الحج: 137. وكلوا منها وأطعموا البائس
الفقير والقانع والمعترّ، واعلموا أن ما تقدّمونه من خير فلأنفسكم، فلقد روى
الترمذي في سننه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنهم ذبحوا شاة. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟. قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلها
إلا كتفها". الله أكبر، فلقد بين صلى
الله عليه وسلم أن الجزء الذي يذهب للفقراء والمساكين هو يذهب إلى الله، وهو
الباقي.. قال تعالى: "ما عندكم ينفذ وما عند الله باق".
ألا واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ: إنما الأعياد
ليست بعودة الأيام ولا بتكرّر السنين، وإنما بما يتحقّق فيها من القيم الإنسانية
والأهداف النبيلة، فما الأعياد إلا مظهر من مظاهر الأخوة الصادقة والتعاون
والتعاطف والتراحم بين المسلمين، أينما كانوا، وحيثما وجدوا.. فيومكم هذا.. هو يوم
تآخ وتصادق وتسامح وتصالح، أفرغوا صدوركم من الضغائن والحقد والغلّ والحسد، وصِلوا
أرحامكم وأقاربكم وجيرانكم وأصلحوا ذات بينكم، وتذكّروا ما رواه الأمام مالك رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تفتح أبواب الجنة يوم اثنين وخميس
فيُغفَر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء،
فيقول: أنظِروا هذين حتى يصطلحا". وروي ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا:
رجل أمّ قوما وهو له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها غضبان، وأخوان
متصارمان". فلتتصافحْ قلوبكم قبل
أيديكم، واستغفروا لذنوبكم، واعملوا من الصالحات ما تجدونه يوم ترجعون فيه إلى
الله، أعرفوا قدر يومكم هذا، وتعرّضوا لنفحات ربكم فإنه رحيم كريم..
الله أكبر،
الله أكبر، الله أكبر. اللهم اجعل لنا مواسم الخيرات مربحا ومغنما، وأوقات البركات
والنفحات إلى رحمتك طريقا وسلما، وصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والحمد
لله رب العالمين..
الخطبة الثانية
الله أكبر(5) ولله الحمد، الله أكبر كبيرا،
والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله،
صلى الله عليه بكرة وأصيلا.. ورضي عن أصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين..
أما بعد، فيا
أيها المسلمون: آن لكم أن ترجعوا ـ راشدين ـ إلى بيوتكم على غير الطريق التي أتيتم
منها، لتشهد لكم ملائكة الطريقين كما جاء بذلك الأثر، فتذبحوا أضاحيكم بأيديكم،
ومن لم يحسن الذبح كفاه أن يوكّل من يقوم بالذبح بدله ويشهد ذلك، فلقد روى
الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته: يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك
فاشهديها، فإن لك بكل قطرة من دمها أن يغفر لك الله ما سلف من ذنوبك، قلت يا رسول
الله: ألنا أهل البيت، أو لنا وللمسلمين؟. قال: بل لنا وللمسلمين".
فيا ربنا لك الحمد سرًّا وجهرا، ولك الحمد
دوما وكرًّا، ولك الحمد شعرا ونثرا. هذا، وكرّروا ـ رحمكم الله
ـ التكبير إثر صلواتكم المفروضة، من ظهر يومكم هذا إلى صبح اليوم الرابع، ولفظه:
الله أكبر، الله اكبر، الله أكبر.. واحمدوا الله واشكروه على أنِ انعم عليكم ببلوغ هذا
اليومِ المبارك، فطوبى لكم على ما أنعم به عليكم من كثيرٍ من الماديات وغامِرِ
الرَّوحانياتِ وسابغ الإيمانيات.. أرضٌ طيبة، وتاريخٌ مجيد، وحاضر زاهر، فلله
الحمد والمنّة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق