الخطبة الأولى
الحمد لله
الذي جعل خلق الإنسان آية من الآيات الدالة على عظمته، فقال عزّ من قائل: "هو
الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم
لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون". غافر:
67. وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله
وصفيه من خلقه وخليله، القائل صلى الله عليه وسلم: "ليس
منَّا من لم يوقِّر كبيرَنا، ويرحَم صغيرَنا".
رواه أحمد وصححه ابن حبان. اللهم صل وسلم وبارك على
عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى
يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم _
عباد الله _ ونفسي بتقوى الله الملك العلام، فإن تقواه سبحانه عروةٌ ليس لها
انفصام، وجذوة تنير القلوب والأفهام،"وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي
تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا". النساء:1.
أيها المسلمون: إن من عظمة الإسلام أنه كما
اهتمّ بالإنسان صغيراً ووجّه الأسرة والمجتمع إلى رعايته والاهتمام به، فإنه كذلك
أمر بحسن رعايته واحترامه كبيرا مهما كان، أباً أو أماً، قريباً أم بعيداً، جاراً
أم صديقاً، أخاً أم عماً أم خالاً، معروفاً أم غريباً، قال تعالى عن الوالدين:
"إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ
لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا
رَبَّيَانِي صَغِيرًا". الإسراء:23-24، وقال صلى
الله عليه وسلم: "ليس
منَّا من لم يوقِّر كبيرَنا، ويرحَم صغيرَنا".
رواه
أحمد وصححه ابن حبان.
لكن ـ للأسف ـ إن ابتلاءاتِنا في المجتمع إنما
هي فيما يأتينا من الغرب، وإنه لا الكلمات ولا الأسطر تعبر عن ظاهرة مؤلمة مفزعة
زحفت إلى مجتمعنا على حين غفلة منا ومن مؤسسات المجتمع.
أبناءٌ وبناتٌ
يأخذون آباءهم وأمهاتهم إلى دور العجزة والمسنين، إنه العقوق بعينه، فِعلٌ في غاية
البشاعة ونهايةٌ في القبح والشناعة، يقشعرّ لهوله البدن، ويقف لخطبه شعر الرأس، في
دور العجزة آباءٌ وأمهاتٌ يبكون على ذكرياتهم مع بناتهم وأولادهم فلذات أكبادهم.
فهل فكرتم يوما ـ
يا عباد الله ـ في زيارة دور العجزة والمسنين لتروا بأم أعينكم وتسمعوا قصص تُدمي
الحجر من عقوق الأبناء والبنات؟
إنه
العجب كل العجب ممّن يتخلَّى أو بالمعنى الأصح يرمي أحد والديه في الشارع أو في
دار العجزة من أجل أي سبب من أسباب الدنيا، إنها لَدناءةُ نفسٍ وخسّةُ خلقٍ وضعفُ مروءة
وقلّةُ حياء وانعدامُ وفاء، وأين ومتى يُرجَّى من العاقّ خيرٌ لنفسه أو غيره؟!.
فأي أرض سيسكن
هذا؟، وأي قبر يضمه؟
فليعلم هذا
وأمثاله: أنه كما يدين يدان، عاجلا أم آجلا، سوف ينام في المكان ذاته، ويتحطّم من
شدة الندم، حينما لا ينفع الندم، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أحرى
أن يعجَّل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يُدّخر له في الآخرة من: البغي، وقطيعة
الرحم".
أيها المسلمون: إن
رابطة الوالدين من أعظم الروابط بين الناس، رابطة خصّها الشرع الحنيف بمزيد من
الاهتمام والذكر، وحذّر من المساس بهذه الرابطة الوثيقة والإخلال بها والاعتداء
عليها حتى ولو بأدنى لفظ أو نظر..
قال تعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ
إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ
ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ
تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً". الاسراء: 23.
تأملوا معي ـ رحمكم
الله ـ قوله تعالى: "إما". فهذا اللفظ "مركب من كلمتين:
"إن" و"ما". فكلمة: "إن" هي للشرط، وكذلك كلمة
"ما" فهي
أيضا للشرط. ولما جمع بين هذين اللفظتين أفاد تأكيد معنى الشرط، وهذا تأكيدٌ للحكم
المذكور وتقريره وإثباته على أقوى الوجوه..
فيا أيتها البنت، ويا أيها الولد: عند ما يبلغ والديك أو
أحدهما إلى هذه المرحلة من الضعف والعجز كما كنت من قبل، فأنت مكلف في حقهما بخمسة
أشياء:
1ـ لا تقل لهما أفّ.
2ـ لا تنهرهما.
3ـ قل لهما قولا كريما.
4ـ اخفض لهما جناح الذل
من الرحمة.
5ـ قل رب ارحمهما كما
ربياني صغير.
وتأملوا معي ـ عباد
الله ـ قول الله: "عندك:
فإنه يلوح لك معنى لطيف وسرّ بديع، ألا وهو أنّ هذا هو الشأن: متى بلغ الوالدان أو
أحدهما الكبر، فوهن العظم وضعف الجسم أن يكونا عند أبنائهما. قال ابن جُزي ومعنى:
"عندك" أي في بيتك وتحت كنَفِك، هذا هو المعقول، وهذا هو الذي يجب أن
يكون، ولعمري أن أهل النفوس الكريمة والقلوب الرحيمة إن هذا لهو شأنها وديدنها،
فطوبى لهم وحسن مآب.
أيها المسلمون: إن أويساً بن عامر القرني إنما
نال تلك المنزلة العظيمة ببركة برّه بأمه الكبيرة ورعايته لها، يُروى أنه ما لقيه
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرَن، كان به
برَص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبره، فإن
استطعت أن يستغفر لك فافعل". فقال له سيدنا عمر رضي الله عنه: استغفر لي.
فاستغفر له.
فهنيئا لمن
أكرمه الله تعالى بكبر والديه أو أحدهما عنده، وقام بواجب البر والإحسان إليهما،
وخفض لهما جناح الذل من الرحمة، ليجزيه الله سبحانه برا من أبنائه في الدنيا، ففي
الحديث النبوي الشريف: "بروا آباءكم تبركم أبناؤكم"، ويكرمه في
الآخرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد في سبيل الله أبتغي الأجر
من الله تعالى، فقال عليه الصلاة والسلام: "هل لكَ من والديك أحد حي؟"،
قال: نعم، قال: "فارجع إلى والديك فأَحسِن صُحبتَهما". رواه البخاري ومسلم.
الله.. الله في آبائكم وأمَّهاتِكم، عيشوا لهما في كِبَرهما
وشيخوختهما مثلما عاشا لكم في صِغركم وطفولتكم، والله يعينني وإياكم على ذلك..
نفعني الله وإياكم
بما قلت، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه تجدوه غفورا رحيما..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي
هدانا للإسلام، وأمرنا بصلة الأرحام، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدّوس السلام،
وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسولُه بدرُ التمام ومسكُ الختام، صلى الله وسلم
وبارك عليه وعلى آله وصحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام.
أما
بعد، أيها المسلمون: ذُكرت الشيخوخة في القران الكريم على أنها نهاية مطاف الانسان
في مرحلة تطوّره على هذه الارض تمهيدا لرحلته الابدية الى العالم الآخر. قال تعالى: "الله خلقكم من ضعف ثم
جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير".
سورة الروم: 54.
وعندما
يصبح الوالدان ضعيفين عاجزين أو أحدهما، فالأصل في رعايتهما أن تكون في نطاق الأسرة
وفي المنزل الذي نشآ فيه وتربَّيا وبنيا حياة معينة، فعلى الأقارب من أولادٍ أو إخوةٍ
أو غيرهم توفير الرعاية الكريمة المستطاعة لهما، لأن الإنسان إنما يشعر بعزّة نفسه
وكرامته إذا كان في بيته، وما ظاهرة "دار
العجزة أو دار الشيخوخة" إلا ظاهرة دخيلة على المجتمع الإسلامي ليست من
أصولنا ولا من ثقافتا ولا من صميم هويتنا، فديننا يفرض علينا تطبيق التعاليم
الدينية التي توصي برعاية الوالدين وكبار السن، وكرامة الإنسان في الإسلام تفرض أن
يعيش الإنسان معززًا مكرمًا لا أن يرسل إلى دارٍ أو مؤسّسةٍ تقيّد قدرته، وتجعله
ينتظر الموت وحده..
لقد حزنت كثيراً وأنا أرى بعضهم في دار العجزة يجلس
وحده؛ حيث لا أنيس له ولا صاحب، وأولاده بعيدون عنه لاهون بدنياهم، وهو بعجزه وشيبته
لا يهتمُّ به أحد، إن منظر هذا الأب المسنّ وهو يتفرس في زوّاره يظنهم أبناءه،
منظرٌ يبكي القلب قبل العين، ولسان حاله، يقول:
غَذَوْتُكَ مولوداً وَعْلتُكَ يافعاً *
تُعَلُّ بما أُدْنِي إليك وتَنْهَلُ
إذا ليلةٌ نابَتْكَ بالشَّكْوِ لم أَبِتْ * لشَكْواكَ إِلا ساهراً أَتَمَلْمَلُ
كأني أنا المطروقُ دوَنكَ بالذي * طُرِقْتَ به دوني وعينيَ تَهْملُ
جَعَلْتَ جزائي غِلْظةً وَفَضاضَةً* كأنكَ أنتَ المنعِمُ المتفضِّلُ
فليتكَ إذ لم تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتي * فَعَلْتَ كما الجارُ المجاوِرُ يفعلُ
إذا ليلةٌ نابَتْكَ بالشَّكْوِ لم أَبِتْ * لشَكْواكَ إِلا ساهراً أَتَمَلْمَلُ
كأني أنا المطروقُ دوَنكَ بالذي * طُرِقْتَ به دوني وعينيَ تَهْملُ
جَعَلْتَ جزائي غِلْظةً وَفَضاضَةً* كأنكَ أنتَ المنعِمُ المتفضِّلُ
فليتكَ إذ لم تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتي * فَعَلْتَ كما الجارُ المجاوِرُ يفعلُ
فيا أنتم الذين تتحدّثون عن الخذلان، لا يوجد
أو جع منه في عيون المسنّين عند ما يكون جزاء التربية دار المسنين..
ويا
من أنتم في دور العجزة والمسنين: اصبروا على البلاء، واحتسبوا عند الله جزيل الأجر
والثناء، فإن الله لا يمنع عبده المؤمن حُسْنَ العطاء، وأمْرُ المؤمن كله خيرٌ؛ رحم
الله ضعفكم وجبر كسركم وعظم أجركم، فإن نسي البعض فضلكم ومعروفكم فالله لا ينسى،
والمعروف لا يَبْلَى، والخير يدوم ويبقى، ثم إلى ربك المنتهى، وعنده الجزاء الأوفى..
اللهم اجعلنا
بارين بآبائنا، موقرين لكبارنا، مؤدين لحقوقهم، قائمين على خدمتهم ورعايتهم،
وارزقنا طاعتهم فيما يرضيك عنا، ووفقنا لطاعتك وطاعة من أمرْتَنا بطاعته، برحمتك
يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر لوالدينا كما ربونا صغاراً، اللهم أسبغ عليهم لباس العافية
والتقوى، اللهم ارفع لهما الدرجات، واغفر لهما الزلات والهفوات، واجمعنا بهم في
أعلى الجنات، يا غفور يا رحيم، يا ودود يا كريم. اللهم وبارك في القائمين على دور
العجزة والمسنين من مسؤولين ومحسنين وزدهم فضلا منك وإحسانا، ونسألك اللهم لنا
ولهم الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول
أو عمل، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم
وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق