15 فبراير 2017



الموضوع: يوم 18 فبراير يوم للذكرى والإعتبار

الخطبة الأولى
      الحمد لله، حمد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا، وأشهد أن لا إله إلا الله، لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث بالحق بشير ونذيرا. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين اعتصموا بربهم، وتوكلوا عليه في جهادهم، فمكّن لهم في البلاد، وأعزّهم بين العباد، وكان لهم نعم المولى ونعم النصير.
أما بعد، قال الله تعالى: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ". آل عمران: 169، وقال سبحانه: "فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ".  آل عمران: 195.
          أيها المسلمون: إن للمجاهد شرف عظيم، وذلك أنه يـــدافع عن دينه ووطنه. "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد". رواه أبو داود. ولقد نظر الإسلام إلى الجهاد على أنه رأس الأمر وذروته، كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم، وإلى المجاهد على أنه أسمى الناس وأعلاهم قدرا، وإلى الشهادة على أنها أعلى وأسمى ما يناله المؤمن. وإلى الشهيد على أنه في قمّة درجات الإنسانية والطهارة، وأنه مخلد في الجنة.
    روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادٌ في سبيلي، وإيمانٌ بي، وتصديقٌ برسلي، فهو ضامنٌ أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده، ما من كَلم يُكلم في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلم. لونه لون دم، وريحه ريح مسك، والذي نفس محمد بيده. لولا أن يُشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزوا في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عنيّ. والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل ".
     عباد الله: بهذه الصورة الرائعة ـ أيها الفضلاء ـ يصوّر الرسول الكريم أجر المجاهد في سبيل الله، وأيّ أجر أعظم، بل أيّ منزلة أسمى من تلك المنزلة التي خصّ الله عز وجل بها المجاهدين في سبيله حين قال عنهم: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"؟. آل عمران:169.
   إنها الحياة الأبدية السّرمدية في جنان الخـلد ودار النعيم، وهي بعض ما أكرمهم الله عز وجل به، عدا ما أعدّ لهم من الذكر الحسن في الدنيا، حيث تخلّد أسماؤهم في سجل الخالدين، فهم أحياء بعد مماتهم، ذكرهم على كل لسان، وحبّهم في كل قلب، ولعل هذا هو السرّ في أننا نهُينا عن القول فيهم بأنهم أموات. لأن الله خلّد ذكرهم، ويكفي ذلك شرفا وفخرا لهم.
     قال الإمام النووي رحمه الله: "وأما سبب تسميته شهيدًا، فقال النضر بن شميل: "لأنه حي؛ فإن أرواحهم شهدَت وحضرت دار السلام وأرواح غيرهم إنما تَشهدها يوم القيامة". وقال ابن الأنباري: "إن الله تعالى وملائكته عليهم الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة". وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يَرجِع إلى الدنيا، وإن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد؛ فإنه يتمنَّى أن يرجع إلى الدنيا، فيُقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة"؛ متَّفق عليه.
     ومن هنا ـ عباد الله ـ كان المسلمون يتنافسون في الجهاد ويتسابقون إلى النضال، لا يتخلف عنهم إلا الضعفاء والقاعدون، وعدّتهم في ذلك الصبر والثبات. وشعارهم: "أحرص على الموت توهب لك الحياة"، وغايتهم الدفاع عن أنفسهم، وصيانة أوطانهم، وحماية دينهم وعقيدتهم.
      وهناك قصص  منها ما نجده في بطون الكتب، ومنها ما لا نجده فيها، منها ما ذكر أسماء أبطالها، ومنها ما لم يذكر، من ذلك ما رواه النسائي والطبراني عن شداد بن الهاد رضي الله عنه، أن رجلا من الأعراب، جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم، فآمن به واتبعه، ثم قال: "أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزاته غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال ما هذا؟. قالوا: قِسم قَسَمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا،- وأشار إلى حلقه- بسهم، فأموت، فأدخل الجنة، فقال: إن تصدُق الله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأوتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل، قد أصابه سهم حيث أشار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهو.. هو؟.  قالوا: "نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته التي عليه، ثم قدّمه فصلّى عليه، وكان مما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك، فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك ".
   هـذا أيـها المسلمون في الماضي، وله من الأمثلة في الحاضر ما يفوق الحصر، وعلى طريق الجهاد تمضي مواكب المجاهدين الأبرار، الذين سطروا بدمائهم وتضحياتهم أمجد الصــفحات، وكتبوا مجد أمتهم وتاريخهم بأروع الملاحم البطولية.
    والتاريخ إنما هو سجّل للأمم، ويوم 18 فبراير ليس كمثل بقية الأيام في تاريخ بلدنا، لأنه برمزيته يحيلنا إلى نماذج بشرية ليست تشبه المواكب من البشر لا في درجة الأعمال ولا في المنتظر القادم من المآل. وذلك إلا لما حظي به هؤلاء من التكريم والتبجيل بما خصهم الله به من مكانة حميدة عرفانا لهم لما قدموه من تضحيات جسام، فهم الذين لبّوا وضحّوا بالروح والجسد دفاعا عن الوطن والحرية والشرف، صدقوا عهدهم ولم يبدلوا تبديلا..
     وإن في تاريخ الثورة التحرير الجزائرية محطّات كبيرة هزّت فرنسا الإستدمارية، وكانت تعبيرا صادقا عن قوة وإيمان الشعب الجزائري بحتمية ثورة نوفمبر، وتحدّيا كبيرا لأعتى قوة استعمارية، وتحسيسها بأن إرادة الشعوب لا تقهر..
       إنه الإيمانٌ المتأصّل في النفوس والتضحيةٌ بالنفس في سبيل الله الجانبان الأروعَ في ثورة التحرير. ثم الكبرياءٌ الشامخٌ الذي ميّز الشعب الجزائري الأعزل إلا من إيمانه بحقه، وثقته بنفسه، ذلك هو الذي بثّ الرعب في نفس المستعمر الجبار المتسلح بكل وسائل التدمير الجهنمية، فـ"سلام على رجال نوفمبر، من مستشهد وحاضر وغائب، من حيّ أو ذاهب إلى ربّه ثائب".
    ولعلكم تذكرون تلك الصورة التي برز فيها التحدي مهيبا جليلا عندما واجه-بل دشّن ـ الشهيدـ "أحمد زبانة" مقصلة سجن بار باروس، فما رفّ له طرف، ولا تردّد له خطو، بل لقد استقبل الشهادة على ما وصفه الشاعر:
باسم الثغر كالملائك أو كالطفل* يستقـبل الصـباح السعيدا
شامخـا أنـفـــــــــه جـلالا   وتيهـــــــــــــــا   * رافــــــعا رأسه يناجي الخلودا
ألا واقرأوا ـ معي ـ تلكم الرسالة التي كتبها الشهيد "أحمد زبانة " المولود سنة 1926 بجنين مسكين، والذي ألقى البوليس الفرنسي عليه القبض، وحكم عليه بالإعدام، وليلة التنفيذ صلى ركعتين، وقدّم هذه الرسالة إلى محاميه يقول فيها:
".. إلى أهلي الأعزاء... والدتي العزيزة، أكتب إليكم هذه الرسالة، وأنا لست أدري إن كانت الأخيرة – الله أعلم بذلك-غير أنه إذا حدث مكروه، فلا تعتقدوا أن كل شيء انتهى، لأن الموت في سبيل الله هو الخلود في الحياة الأزلية، والإستشهاد من أجل الوطن ليس إلا واجبا، فواجبكم  ـ أنتم-يتمثل في التضحية بأغلى ما لديكم .. لا تبكوا ... بل يجب أن تفخروا بي، تفضلوا بقبول السلام، ربما سيكون الأخير من الإبن والأخ الذي يحبكم وتحبونه دائما. سلامي إليك والدتي العزيزة وكـل مـن ... الخ". السـجن المدنـي بالجـزائر 19 جوان 1956.
      نعم ـ أيها المسلمون ـ إن هؤلاء قاموا بأعظم دور بطولي على خير وجه، وما كانت دماؤهم لتذهب هدرا، بل ستظل ذكراهم حية في القلوب، وسيبقى جهادهم مشاعل مضيئة، قال تعالى: "والشـهداء عـند ربهم لهم أجرهم ونورهم".
      ورحم الله المجاهد الأستاذ محمد الصالح الصديق حين قال في كتابه من الخالدين: "إن شهداء الجزائر في ثورتها التحريرية يربو عددهم عن مليون ونصف مليون شهيد، بنى بهم الشعب صرح حريته واستقلاله، ومدّ جماجمهم وأشلاءهم جسرا إلى هذا العهد الزاهر، الذي يرفل في أحضانه الدافئة، وينعم بخيراته وطيّباته المختلفة". نعم، فلقد قدمت الجزائر قوافل من الشهداء عبر مسيرة التحرر التي قادها رجال المقاومات الشعبية منذ الاحتلال سنة 1830 مرورا بكل الانتفاضات والثورات التي قادها الأمير عبد القادر والمقراني والشيخ بوعمامة وغيره من أبناء الجزائر البررة، إلى شهداء ثورة التحرير المباركة..
       ألا فتحية احترام وتقدير وفخر لكل أولئك الذين ارتوت أرض الجزائر بدمائهم الزكية الطاهرة، وإننا بهذه المناسبة وفي كل مناسبة نقول: اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل درجاتهم في عليين، وارزقنا السير على طريقهم يا رب العالمين، آمين.
   هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه تجدوه غفورا رحيما، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين.  صلى الله عليه وسلم.
   أما بعد، فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه تهتدوا، واذكروا في يومكم هذا أولئك الشهداء. ولتحيا في نفوسكم المعاني التي كانوا يجسدونها، ولتتعمق في قلوبكم المبادئ التي وهبوا حياتهم من أجلها، فتاريخ شعبنا تاريخ عميق، توجته ثورة أول نوفمبر الخالدة، ووطننا وطن عزيز، ترفرف حوله أرواح شهدائنا الأبرار، الذين سالت دماؤهم الزكية، مرددين: "الله أكبر، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين".
 ويوم 18 فبراير يوم للذكرى والإعتبار، ووقفة إجلال وخشوع أمام أرواح الشهداء الطاهرة الزكية، صنّاع مجد الجزائر المستقلة ويتعهد بمواصلة الدرب على خطى الشهداء الكرام من أجل الحفاظ على قيم وثوابت الأمة والدفاع عن رسالة الشهداء من أجل جزائر حرة عزيزة تنعم بالإستقرار والرفاهية.
   فكونوا صفّا واحدا في كتيبة واحدة متراصّة لمواصلة الطريق، واحرصوا على تحمُّل المسؤولية في مسيرة البناءِ، والإخلاص وحسن العطاءِ.
   كونوا خير خلف لخير سلف، سيروا على درب الأُلى الذين ساروا على نهج الهدى، وتدربوا على التضحية والفداء. صلوا الحاضر بالماضي، لتبلغوا أرفع مدارج العز في العاجلة، وخير منازل المقرّبين في العقبى .
   وتذكروا أن الوطن سفينتنا ونحن جميعا على متنها، وهناك مستجدات ومتغيرات تستوجب وتستلزم منا ومن العقلاء وأهل الخير فينا، الوقوف صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص حتى لا يتحقّق للأعداء والمرجفون ما يكيدون، وإذا فات الفوت لا ينفع الصوت، كما يقول المثل،
    فاللهم تقبل أعمالنا، واكتب أسماءنا في سجل المجاهدين، ووفق أمتنا للسير على طريقهم يا رب العالمين، اللهم خذ بأيدينا، وسدد خطانا، وحقق آمالنا، وآمنّا في أوطاننا، وارحم شهداءنا يا خير الراحمين. اللهم اجمع الصفوف، ووحّد القلوب، واجمع المسلمين على كلمة سواء، واجعل النصر في ركابهم يا قوي يا معيـن. اللهم واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.

01 فبراير 2017



الموضوع: تربية الأبناء والحرص على متابعة تحصيلهم العلمي.


الخطبة الأولى
     الحمد لله الذي أمرنا أن نأتي البيوت من أبوابها، وأن نسير في طريق مصالحنا بتعرف مناهجنا وأسبابها. وأشهد أن لا إله إلا الله الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم من العلوم قليلاً ولا كثيراً، وجعل لنا الأسماع والأبصار والأفئدة لنشكره بصرفها إلى المعارف النافعة، وكان ربك قديراً.  وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي أرسل إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً كاملاً كثيراً.
      أما بعد، فأوصيكم بتقوى الله، فهي المنجية من العذاب الأليم، والموصلة لرضوان الرحمن الرحيم، فاتقوا الله أيها العباد، فالتقوى سيبل الرشاد للحاضر والباد. قال تعالى: "وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ". البقرة: 197.
      أيها المسلون: إن أبناءنا هم ثمار قلوبنا وفلذات أكبادنا، غرس الله تعالى حبهم في فطرتنا وجعلهم زينةً في حياتنا، قال سبحانه: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا". ولقد أكّد صلى الله عليه وسلم في أكثر من وصية بضرورة العناية بهم وبتربيتهم وتعليمهم. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجة: "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم". وروى الطبراني عن على كرم الله وجهه مرفوعا: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم وحب آل بيته وتلاوة القرآن". إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الشأن.
     والتربية الصالحة للطفل هي التي تُنشئ الشاب الصالح الذي يخدم دينه وأمته ووطنه، ولقد وضع لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم مادة أساسية مفادها أن الإبن يشبّ على دين والديه. أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال، قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلم: "ما من مولود إِلا يولد على الْفطرة فأَبواه يُهَوِّدَانه أو َيُنصِّرَانه أو يُمجِّسَانه".
    ألا وإن ما نرى عليه بعض الأبناء داخل المجتمع من انحرافات وما نسمع من المظاهر السلبية عليهم، كتعاطي السجائر بل والمخدرات وتدني المستوى التعليمي ومحاولة ضرب المعلمين والمعلمات، وما إلى ذلك من الزيغ وفساد الأخلاق، إنما ذلك صادرٌ عن اللامبالاة والتساهل والغفلة من طرف الوالدين وتخلّيهم وانشغالهم عن التوجيه والتربية، ولله در الشاعر حين قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من * همّ الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتــــــــــيم الــذي تـــــــــــــــلقى له * أمًّا تخلت أو أبا مشغولا
       فالأسرة ـ أيها المسلمون ـ هي المحضن الأول الذي ينشأ فيه الأبناء، ورب الأسرة وزوجته كلاهما شريك الآخر في تلك المؤسسة الاجتماعية التي أمر الإسلام برعايتها والحفاظ عليها، ولا يمكن أن يتحقق النجاح للأسرة إلا إذا تعاون كل من الرجل والمرأة في تربية الأولاد، والولد يتأثر بوالديه في أخلاقه وسلوكه وتصرفاته واتجاهاته الدينية والعقائدية.
    فالواجب الأكبر في تربية الأبناء وتشجيعهم على التحصيل العلمي يقع على عاتق قطبي الأسرة: الأب والأم؛ فهما المظلة الحقيقية التي يخرج من تحت عباءتها العلماء، وهما البلد الذي يخرج نباته كما يُسقى ويُغذَّى.  ولا نجد تصويرًا أبلغَ في التعبير عن ذلك من قوله تعالى: "وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ". الأعراف: 58، فما أشبهَ الأسرةَ بالأرض الخصبة الطيبة التي تنبت أطفالاً ذوي طباعٍ خيِّرة نقية وسلوكٍ نبيل، وما أشبه الأسرةَ المنهارةَ في أخلاقها وسلوكِها بالأرض الخبيثة التي لا تنبت إلا نباتًا قليلاً حجمُه ونفعُه، فتخرج أطفالها بطباعٍ قاسية وسلوك سيِّئٍ.
   فعليكم ـ أيها الآباء والأمهات ـ مراعاةِ أولادكم وحمايتَهم من ضياع الوقت وانحراف العمل والسلوك، تفقّدوهم في كل وقت وامنعوهم من معاشرة ومصاحبة من يُخشى عليهم منه الشر والفساد، فإنكم عنهم مسئولون، وعلى إهمال رعايتهم وتأديبهم معاقبون. قال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
    هذا واعلموا أن الأمور لا تؤتى غِلابًا كما قال الشاعر، وإنما التدرّج مطلوب في التقويم؛ فقد نقل الحافظ عن سعيد بن جبير الحث على التدرج في أخذ الطفل بالجد، وهذا يتمشى مع الحكمة التي جاءت بها الشريعة، وطبيعة النفس الإنسانية التي تستثقل أخذها بالعزيمة بلا تدرج. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع لنا منهجا نبويا خالدا مؤسِّسا لأساليب التربية الصحيحة للفرد، ابتداء من مرحلة الطفولة المبكرة، وذلك في مواقف كثيرة منها موقفه مع سَلَمة ابن أم سلمة وكان ربيبه، نشأ في حجره صلى الله عليه وسلم بعدما تزوج بأمه، جلس سلمة إلى طعامه وهو بعدُ صبيا فأخذت يده تطيش في الصحفة، فأمسك بها رسول الله قائلا له: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك".  إنه تدخُّلٌ فوريٌ سريعٌ لإيقاف السلوك الخاطئ حتى مع الصغير الذي لا يعي ما يفعل، وعدم تأخير التوجيه عن وقته، إنه تعويد وترويض منذ الصغر. وللأسف إن كثيرا من الآباء والأمهات تركوا المجال لأبنائهم وبناتهم، وأهملوا تأديبهم بمعاني الأخلاق وفرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارا، فلم ينفعوا أنفسهم ولم ينتفعوا بهم كبارا.
     أيها المسلمون: إن الرجال لا يولدون بل يُصنون، يقول أساتذة علم النفس: "أعطونا السنوات السبع الأولى للأبناء، نعطيكم التشكيل الذي سيكون عليه الأبناء بقية حياتهم"، وما أجمل مقولة عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "الصلاح من الله والأدب من الآباء"، وعن ذلك عبر الشاعر بقوله:
وينشأُ ناشئُ الفتيانِ مِنا * على ما كان عَوَّدَهُ أبُوهُ
وَما دان الفتى بحجىً ولكن * يعوِّدهُ التديّنَ أقربـوه
    قال الإمام الغزالي رحمه الله في رسالته أنجع الرسائل: "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعلمه؛ نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدِّب، وإن عوِّد الشر وأُهْمِلَ إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه والوالي له".
     ولهذا كان السلف الصالح يحرصون أشد الحرص على التحصيل العلمي والخلقي للخلف. يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن الكريم". وقال مالك بن أنس: "كانت أمي تجهز عمامتي وأنا صغير قبل ذهابي لحلق العلم، فتقول: يا مالك خذ من شيخك الأدب قبل العلم"!. (ترتيب المدارك ـ عياض 1/130). بل إنهم كانوا يعطون أبناءهم مكافآت على حفظ الأحاديث النبوية، والمكافآت حقيقة أمر تربوي في التشجيع على التعليم. قال إبراهيم بن أدهم: قال لي أبي: "يا بني اطلب الحديث، كلما سمعت حديثا وحفظته فلك درهم، فطلبت الحديث على هذا".
   بل بلغ من اعتنائهم بأبنائهم أنهم كانوا حريصين على متانة الرابطة بينهم وبين معلّميهم، فكانوا يحزنون إذا غابوا عن الأولاد فترة بسبب من الأسباب لخوفهم على الأولاد أن لا يُؤدبوا على ما يريدون ويشتهون. ذكر الراغب الأصفهاني أن المنصور بعث إلى مَن في الحبس من بني أمية من يقول لهم: "ما أشد ما مرّ بكم في هذا الحبس؟ فقالوا: "ما فقدنا من تربية أولادنا". ورحم الله مالك بن نبي وقد جاءه رجل يسترشده لتربية مولود له، فسأله: كم عمره؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار. ا.هـ
    أيها المؤمنون: إن الأبناء هم حديث اليوم وحديث كل يوم، بهم تقر عيون الآباء والأمهات، وبهم يزدان الكون والحياة، وقد علمنا القرآن الكريم في الدعاء أن نقول: "رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً". الفرقان:74. فعليكم تقديم أقصى ما تستطيعون لأبنائكم، أغرسوا فيهم الجد والمثابرة. ربّوهم على حب العلم والسعي لأجله، اجعلوا منهم مبدعين حقيقيين؛ فقدراتهم كبيرةٌ، ومواهبهم متميزة، ادفعوهم إلى الإبداع دفعاً، كونوا معهم في كل شؤون حياتهم. وكم يحكي لنا التاريخ، صورا من حياة أطفال أحسن أهلوهم تربيتهم فأفلحوا، وصاروا رموزا على جبين التاريخ.
      فهذا سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ العالم المشهور يُروى أن والده توفى وهو صغير وله إخوة، فرأى أن يترك العلم والدراسة ليطلب العيش والرزق، فقالت له أمه جزاها الله خيرًا: أي بني، اطلب العلم أكْفِك بمغزلي، فانطلقت الأم تغزل وتكافح، وانطلق سفيان يتعلم العلم حتى أصبح سفيان من أعلام المسلمين الكبار، وكل ذلك في ميزان تلك المرأة الصالحة.
   عباد الله: هذا قليل من كثير من معالم تطبيقية في منهج تربية الأطفال، رسم معالمها وطبقها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسار على نهجه السلف الصالح من بعده. وليتذكر كل أب وأم أن كل جهد يبذلانه في تأديب أبنائهما هين -مهما صعب-لأن ثمرته أبناءٌ صالحون يمتد بهم عمل أبويهما بعد موتهما. عن أبي هريرة -رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، رواه مسلم

   نسأل الله لهذه الأمة أن تعود لسابق عزها ومجدها، وتنهل من موردها العذب حتى تسعد في الدارين، اللهمَّ وأقر أعيننا بصلاحِ أولادِنا وأزواجنا وأقاربنا وإخواننا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية

       الـحمد لله رب العالمـين، سبّحت الكائنات بحمده، وعنت الوجوه لعـظـمته ومـجده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
        أما بعد: فإن الناظر لواقعِ الأمة اليوم يجدُ وضعاً سيئاً لم يمرّ عليها طوالَ الأزمنةِ المتقدمة، لقد أوشكت أن تُعدم كثيرٌ من المبادئِ، وللأسف نحن في وقت يغالبنا فيه المجتمع على أبنائنا بمغرياته البراقة ووسائله اللماعة؛ لملء فراغهم بما لا ينفع ولا يغني عنهم من الجدِّ شيئاً، ولا يحبّب إليهم العلم ولا يبني لهم مستقبلاً ولا يشدهم إلى عزائم الأمور ومطامح ذوي الرشاد، فعليكم أن تزاحموا الشر الذي يحيط بأبنائنا، ومن أخلص نيته لله وعلم الله منه الإخلاص والرغبة الصادقة في الخير فإن الله يؤيده ويسدده.
  رُوي عن الأمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: "علموا أولادكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم". وفي رواية ثانية: "أدبوا أولادكم". فكأنه رضي الله عنه بفكره الثاقب يعني شباب عصرنا الحاضر، ليتسلح بسلاح العلم والأدب الإسلامي الرفيع، وهذا هو الذي يجب أن نزرعه في أعماق صغارنا – شباب الغد-. فلا تجعل أيها الأب ابنك يغتر بثروتك، ويتّكل عليك في مستقبل أيامه، فلا يأخذ نفسه بالجد والتعب في تحصيل العلم، ضانّا –خطا أو غرورا-أن المال هو كل شيء في الحياة. نعم إن المال بلا شك له قيمته في حياتنا، ولكن العلم هو الذي يرسم الطريق الصحيح لاستغلال المال. ولا ينكر أحد ما للعلم من منافع كثيرة في شؤون الحياة كلها، ولكن هذه المنافع تكون أشدّ وأكثر نفعا للبشر لو صحب العلم الإيمان، لأن ثمرة الإيمان حسن الخلق، وهو غاية ما يتطلّبه المجتمع الإسلامي، وإليه أشار شوقي بقوله:
رأيت العـلم لا يبني رجالا * ولا يغني عـن الأخلاق شيئا
   وأخيرا – أقول – أيها المسلمون: إن الأسرة والمدرسة وجهان لعملة واحدة، فلا يكفي بأي حال من الأحوال أن يزجّ الأب بابنه أو ابنته في المدرسة ثم يتركه هملا بلا ملاحظة ولا مراقبة ولا توجيه، بل عليه أن يشارك المدرسة أو أية مؤسسة تعليمية في تربية ولده، وأن يتعهّده بالرعاية والتوجيه، وأن يلاحظ سلوكه داخل المدرسة وخارجها، وأن يبيّن له بصفة مستمرة الصواب وأن يبعده عن الخطأ برفق ولين. وأن يعينه على مشاقّ العلم ومتاعبه، قال ابن القيم -رحمه الله في التحفة صفحة 146: "وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء".  
   فلا تظنوا ـ أيها الآباء والأمهات ـ أن واجب التربية ينتهي عند حدود التنشئة الجسدية، أو يقتصر على تسجيلهم في المدارس فحسب، بل أنتم معنيون أيضاً بتنمية قدراتهم العقلية ومداركهم المعرفية وبتوجيه صفاتهم النفسية وسلوكهم الاجتماعي، وأنتم عن ذلك يوم القيامة مسؤولون. قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله سائل كل رجل عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيّعه؟، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته".  رواه ابن حبان.
    وإنها لمسئوليةٌ جسيمة وأمانةٌ عظيمة؛ فالواجب على كل والد أن يتقي الله في أولاده، وأن يعمل على تأديبهم وتربيتهم وتنشئتهم على عقائد الدين وأعمال الإسلام وآدابه العظيمة، وعليه تقديم أقصى ما يستطيع لهم، يغرس فيهم الجد والمثابرة، يربّيهم على حب العلم والسعي لأجله. يجعل منهم مبدعين حقيقيين؛ فقدراتهم كبيرةٌ ومواهبهم متميزة. يدفعهم إلى الإبداع دفعاً، يكُنْ معهم في كل شؤون حياتهم، يتواصل مع مدارسهم ومعلّميهم حتى يكون على بيّنة من مستواهم الدراسي ومسيرتهم الأخلاقية؛ فإنه لم تتدنّ مستويات كثير من أبنائنا الطلبة إلا بعد أن أهملنا متابعتهم دراسياً، ولم تنحرف أخلاقهم إلا بعد أن تركنا الحبل على الغارب حتى ابتعدوا عن الرقابة الأسرية. وليكن نصب أعيننا جميعاً قول الله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان".
    وأخيرا، أيها المسلمون: هذه إيماءة أو إشارة ارتأيت أن أقدها لكم ولها ما وراءها، وكل قُفل له مفتاحه، وكل عقل له ما يثير اهتمامه..  أطفالنا فلذات أكبادنا تمشي على الأرض، فلنحسن تربيتهم والتعاملَ معهم...
     نسأل الله الذي حمّلنا هذه المسؤولية أن يعيننا عليها، وأن يصلح لنا نياتِنا وذرياتِنا، اللهمَّ اجعلهم وأبناءنا وبناتنا هداة مهتدين، اللهمَّ اكفنا وإياهم شرَّ الأشرار وكيد الفجار يا عزيزُ يا غفَّار. اللهم ارفع عن أمتنا الغلاء والوباء وقها الزلازل والمحن وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهم وفّق من قلدته أمرنا واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة التي ترشده إلى الخير وتعينه عليه، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.