الموضوع: يوم 18 فبراير يوم للذكرى والإعتبار
الخطبة الأولى
الحمد لله، حمد رجال صدقوا ما
عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا، وأشهد أن
لا إله إلا الله، لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
المبعوث بالحق بشير ونذيرا. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين اعتصموا
بربهم، وتوكلوا عليه في جهادهم، فمكّن لهم في البلاد، وأعزّهم بين العباد، وكان
لهم نعم المولى ونعم النصير.
أما بعد، قال الله تعالى: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".
آل عمران: 169، وقال سبحانه: "فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ".
آل عمران: 195.
أيها المسلمون: إن
للمجاهد شرف عظيم، وذلك أنه يـــدافع عن دينه ووطنه. "من قُتل دون ماله فهو
شهيد، ومن قُتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد". رواه أبو داود.
ولقد نظر الإسلام إلى الجهاد على أنه رأس الأمر وذروته، كما أخبر بذلك صلى الله
عليه وسلم، وإلى المجاهد على أنه أسمى الناس وأعلاهم قدرا، وإلى الشهادة على أنها
أعلى وأسمى ما يناله المؤمن. وإلى الشهيد على أنه في قمّة درجات الإنسانية
والطهارة، وأنه مخلد في الجنة.
روى الإمام مسلم عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تضمّن الله لمن
خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادٌ في سبيلي، وإيمانٌ بي، وتصديقٌ برسلي، فهو ضامنٌ
أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة،
والذي نفس محمد بيده، ما من كَلم يُكلم في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته
يوم كُلم. لونه لون دم، وريحه ريح مسك، والذي نفس محمد بيده. لولا أن يُشقّ على
المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزوا في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم،
ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عنيّ. والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في
سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل ".
عباد
الله: بهذه الصورة الرائعة ـ أيها الفضلاء ـ يصوّر الرسول الكريم أجر المجاهد في
سبيل الله، وأيّ أجر أعظم، بل أيّ منزلة أسمى من تلك المنزلة التي خصّ الله عز وجل
بها المجاهدين في سبيله حين قال عنهم: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله
أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"؟. آل عمران:169.
إنها الحياة الأبدية السّرمدية في جنان الخـلد ودار
النعيم، وهي بعض ما أكرمهم الله عز وجل به، عدا ما أعدّ لهم من الذكر الحسن في
الدنيا، حيث تخلّد أسماؤهم في سجل الخالدين، فهم أحياء بعد مماتهم، ذكرهم على كل
لسان، وحبّهم في كل قلب، ولعل هذا هو السرّ في أننا نهُينا عن القول فيهم بأنهم
أموات. لأن الله خلّد ذكرهم، ويكفي ذلك شرفا وفخرا لهم.
قال الإمام النووي رحمه
الله: "وأما سبب تسميته شهيدًا، فقال النضر بن شميل: "لأنه حي؛ فإن
أرواحهم شهدَت وحضرت دار السلام وأرواح غيرهم إنما تَشهدها يوم القيامة". وقال ابن الأنباري: "إن الله تعالى
وملائكته عليهم الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة". وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم، قال: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يَرجِع إلى الدنيا، وإن له ما على
الأرض من شيء إلا الشهيد؛ فإنه يتمنَّى أن يرجع إلى الدنيا، فيُقتل عشر مرات؛ لما
يرى من الكرامة"؛ متَّفق عليه.
ومن هنا ـ عباد الله ـ كان
المسلمون يتنافسون في الجهاد ويتسابقون إلى النضال، لا يتخلف عنهم إلا الضعفاء
والقاعدون، وعدّتهم في ذلك الصبر والثبات. وشعارهم: "أحرص على الموت توهب لك
الحياة"، وغايتهم الدفاع عن أنفسهم، وصيانة أوطانهم، وحماية دينهم وعقيدتهم.
وهناك قصص منها ما نجده في بطون الكتب،
ومنها ما لا نجده فيها، منها ما ذكر أسماء أبطالها، ومنها ما لم يذكر، من ذلك ما
رواه النسائي والطبراني عن شداد بن الهاد رضي الله عنه، أن رجلا من الأعراب، جاء
إلى النبي صلى الله عليه و سلم، فآمن به واتبعه، ثم قال: "أهاجر معك، فأوصى
به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزاته غنم النبي صلى الله عليه
وسلم سبيا، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء
دفعوه إليه، فقال ما هذا؟. قالوا: قِسم قَسَمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه
فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على
هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا،- وأشار إلى حلقه- بسهم، فأموت،
فأدخل الجنة، فقال: إن تصدُق الله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا إلى قتال العدو،
فأوتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل، قد أصابه سهم حيث أشار. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "أهو.. هو؟. قالوا: "نعم، قال: صدق الله
فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته التي عليه، ثم قدّمه فصلّى عليه،
وكان مما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك، فقتل شهيدا، أنا شهيد
على ذلك ".
هـذا أيـها المسلمون في الماضي، وله من الأمثلة في
الحاضر ما يفوق الحصر، وعلى طريق الجهاد تمضي مواكب المجاهدين الأبرار، الذين سطروا
بدمائهم وتضحياتهم أمجد الصــفحات، وكتبوا مجد أمتهم وتاريخهم بأروع الملاحم
البطولية.
والتاريخ إنما هو سجّل للأمم، ويوم 18 فبراير ليس كمثل بقية الأيام في
تاريخ بلدنا، لأنه برمزيته يحيلنا إلى نماذج بشرية ليست تشبه المواكب من البشر لا في
درجة الأعمال ولا في المنتظر القادم من المآل. وذلك إلا لما حظي به هؤلاء
من التكريم والتبجيل بما خصهم الله به من مكانة حميدة عرفانا لهم لما قدموه من تضحيات
جسام، فهم الذين لبّوا وضحّوا بالروح والجسد دفاعا عن الوطن والحرية والشرف، صدقوا
عهدهم ولم يبدلوا تبديلا..
وإن في تاريخ الثورة
التحرير الجزائرية محطّات كبيرة هزّت فرنسا الإستدمارية، وكانت تعبيرا صادقا عن
قوة وإيمان الشعب الجزائري بحتمية ثورة نوفمبر، وتحدّيا كبيرا لأعتى قوة
استعمارية، وتحسيسها بأن إرادة الشعوب لا تقهر..
إنه الإيمانٌ المتأصّل في النفوس والتضحيةٌ بالنفس في سبيل الله
الجانبان الأروعَ في ثورة التحرير. ثم الكبرياءٌ الشامخٌ الذي ميّز الشعب الجزائري
الأعزل إلا من إيمانه بحقه، وثقته بنفسه، ذلك هو الذي بثّ الرعب في نفس المستعمر
الجبار المتسلح بكل وسائل التدمير الجهنمية، فـ"سلام على رجال نوفمبر، من
مستشهد وحاضر وغائب، من حيّ أو ذاهب إلى ربّه ثائب".
ولعلكم تذكرون تلك الصورة
التي برز فيها التحدي مهيبا جليلا عندما واجه-بل دشّن ـ الشهيدـ "أحمد
زبانة" مقصلة سجن بار باروس، فما رفّ له طرف، ولا تردّد له خطو، بل لقد استقبل
الشهادة على ما وصفه الشاعر:
باسم الثغر كالملائك أو كالطفل* يستقـبل الصـباح السعيدا
شامخـا أنـفـــــــــه جـلالا وتيهـــــــــــــــا * رافــــــعا
رأسه يناجي الخلودا
ألا واقرأوا ـ معي ـ تلكم الرسالة التي كتبها الشهيد "أحمد زبانة
" المولود سنة 1926 بجنين مسكين، والذي ألقى البوليس الفرنسي عليه القبض،
وحكم عليه بالإعدام، وليلة التنفيذ صلى ركعتين، وقدّم هذه الرسالة إلى محاميه يقول
فيها:
".. إلى أهلي الأعزاء... والدتي العزيزة، أكتب إليكم هذه
الرسالة، وأنا لست أدري إن كانت الأخيرة – الله أعلم بذلك-غير أنه إذا حدث مكروه،
فلا تعتقدوا أن كل شيء انتهى، لأن الموت في سبيل الله هو الخلود في الحياة
الأزلية، والإستشهاد من أجل الوطن ليس إلا واجبا، فواجبكم ـ أنتم-يتمثل في التضحية بأغلى ما لديكم .. لا
تبكوا ... بل يجب أن تفخروا بي، تفضلوا بقبول السلام، ربما سيكون الأخير من الإبن
والأخ الذي يحبكم وتحبونه دائما. سلامي إليك والدتي العزيزة وكـل مـن ...
الخ". السـجن المدنـي بالجـزائر 19 جوان 1956.
نعم ـ أيها المسلمون ـ إن هؤلاء قاموا
بأعظم دور بطولي على خير وجه، وما كانت دماؤهم لتذهب هدرا، بل ستظل ذكراهم حية في
القلوب، وسيبقى جهادهم مشاعل مضيئة، قال تعالى: "والشـهداء عـند ربهم لهم
أجرهم ونورهم".
ورحم الله المجاهد الأستاذ محمد الصالح الصديق
حين قال في كتابه من الخالدين: "إن شهداء الجزائر في ثورتها التحريرية يربو
عددهم عن مليون ونصف مليون شهيد، بنى بهم الشعب صرح حريته واستقلاله، ومدّ جماجمهم
وأشلاءهم جسرا إلى هذا العهد الزاهر، الذي يرفل في أحضانه الدافئة، وينعم بخيراته وطيّباته
المختلفة". نعم، فلقد قدمت الجزائر قوافل من الشهداء عبر مسيرة التحرر التي قادها
رجال المقاومات الشعبية منذ الاحتلال سنة 1830 مرورا بكل الانتفاضات والثورات التي
قادها الأمير عبد القادر والمقراني والشيخ بوعمامة وغيره من أبناء الجزائر البررة،
إلى شهداء ثورة التحرير المباركة..
ألا فتحية احترام
وتقدير وفخر لكل أولئك الذين ارتوت أرض الجزائر بدمائهم الزكية الطاهرة، وإننا
بهذه المناسبة وفي كل مناسبة نقول: اللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واجعل درجاتهم في
عليين، وارزقنا السير على طريقهم يا رب العالمين، آمين.
هذا وأستغفر الله لي ولكم
فاستغفروه تجدوه غفورا رحيما، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله
وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وأطيعوه تهتدوا،
واذكروا في يومكم هذا أولئك الشهداء. ولتحيا في نفوسكم المعاني التي كانوا
يجسدونها، ولتتعمق في قلوبكم المبادئ التي وهبوا حياتهم من أجلها، فتاريخ شعبنا
تاريخ عميق، توجته ثورة أول نوفمبر الخالدة، ووطننا وطن عزيز، ترفرف حوله أرواح
شهدائنا الأبرار، الذين سالت دماؤهم الزكية، مرددين: "الله أكبر، والعزة لله
ولرسوله وللمؤمنين".
ويوم 18 فبراير يوم للذكرى
والإعتبار، ووقفة إجلال وخشوع أمام أرواح الشهداء الطاهرة الزكية، صنّاع مجد
الجزائر المستقلة ويتعهد بمواصلة الدرب على خطى الشهداء الكرام من أجل الحفاظ على قيم
وثوابت الأمة والدفاع عن رسالة الشهداء من أجل جزائر حرة عزيزة تنعم بالإستقرار
والرفاهية.
فكونوا صفّا واحدا في كتيبة
واحدة متراصّة لمواصلة الطريق، واحرصوا على تحمُّل المسؤولية في مسيرة البناءِ،
والإخلاص وحسن العطاءِ.
كونوا خير خلف لخير سلف،
سيروا على درب الأُلى الذين ساروا على نهج الهدى، وتدربوا على التضحية والفداء.
صلوا الحاضر بالماضي، لتبلغوا أرفع مدارج العز في العاجلة، وخير منازل المقرّبين
في العقبى .
وتذكروا أن الوطن سفينتنا
ونحن جميعا على متنها، وهناك مستجدات ومتغيرات تستوجب وتستلزم منا ومن العقلاء
وأهل الخير فينا، الوقوف صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص حتى لا يتحقّق للأعداء
والمرجفون ما يكيدون، وإذا فات الفوت لا ينفع الصوت، كما يقول المثل،
فاللهم تقبل أعمالنا، واكتب أسماءنا في سجل المجاهدين،
ووفق أمتنا للسير على طريقهم يا رب العالمين، اللهم خذ بأيدينا، وسدد خطانا، وحقق
آمالنا، وآمنّا في أوطاننا، وارحم شهداءنا يا خير الراحمين. اللهم اجمع الصفوف،
ووحّد القلوب، واجمع المسلمين على كلمة سواء، واجعل النصر في ركابهم يا قوي يا
معيـن. اللهم واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي
الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله
وصحبه أجمعين، آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق