29 نوفمبر 2017



الموضوع: ذكرى المولد النبوي زاد واقتداء

الخطبة الأولى

     الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، أرسله بشيرا ونذيرا وداعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، أرسله على حين فترة من الرسل، كراهة أن يقول الناس ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقد جاءهم البشير النذير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده لا بيد غيره الهداية والتوفيق، والإرشاد إلى خير طريق، هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام البرية، صاحب الأخلاق المرضية، سيد المرسلين، وقدوة المتقين. من سلك سبيله وصـل، ومـن عـدل عنـه غوى وضل.
كل القلوب إلى الحبيب تمـيل   ومـعـي بهذا شاهد ودلـــــــــــــيل
أما الدليل إذا ذكرت محـــــــمـدا   صارت دموع العارفين تسيل
هذا رسول الله هذا المصطفى   هذا لكل العالمــــــــين رســـــــول
يا سيد الكونين يا عـلم الهــدى   هذا الـمحبّ في حمـــاك نزيل
  صلوات ربي وسلامه عليك وعلى آلك وأصحابك السادة الأخيار، الأتقياء الأبرار، الذين تأدبوا بآدابك، وتابعوك في أخلاقك وعاداتك، رضي الله عنـهــم ورضوا عنه، فجزاهم الله أحسن ما كـانـــوا يعـمـلـون.
    أما بعد، فيا عباد الله: هلت علينا ذكرى مولد خير البشرية، ونور الله إلى العالمين قاطبة. ذكرى مولد النبي الأكرم، والرسول الأطهر، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من إسماعيل كنـانـة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بنـي هـاشـم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار".
      وجاء في كتاب أعلام النبوة لأبي الحسن الماوردي قوله: "لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت لانتهاء صفوتهما إليه وقصور نسبهما عليه، ليكون مختصًّا بنسبٍ جعله الله للنبوة غاية، ولتفرده نهاية فيزول عنه أن يشارك فيه، ويماثل فيه، فلذلك مات عنه أبواه في صغره، فأمّا أبوه فمات وهو حمل، وأما أمّه فماتت وهو ابن ست سنين".
     أيـهـا المسلمون: في هذا الربيع، ربيع المولد النبوي الكريم، تتجاوب أغاريد الشعر، وتتفتح أزهار الفكر، حافلة بالثناء والتمجيد بمزايا خاتم المرسلين، وليس في استطاعة الواصف- وإن ملك أسباب البيان– وليس في إمكان الخاطب– وإن وهب أسرار البلاغة– أن يحصي شمائل هذا النبي العظيم، أو يحصر خصاله، أو يحدّد آثاره .
فإن فضل رسول الله ليس له  حدّ فيعرب عنه ناطق بفم
فمبلغ العــلم فيه أنه بــشـر      وأنــــه خير خلق الله كلـــهم
    أيها المسلمون: لو كانت عظمة العظيم بما يملك من مال، أو بما يصل إليه من متاع الحياة الدنيا وطيباتها، لكان رصيد محمد من العظمة ضئيلا، ونصيبه منها قليلا، فها هي زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي أعلم الناس به وبمقاييس العظمة. ترثيه فتقول: "بأبي لم ينم على السرير ولم يشبع من الخبز الشعير". إن عظمته جاءت حصيلة إعداد إلهي خاص وعناية ربانية، وهذا ما أشار إليه الإمام علي بن أبي طالب بقوله: "ولقد قرن الله به صلى الله عليه وسلم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم، نهاره وليله".
   لقد أوتي صلى الله عليه وسلم النجاح في كل شيء، لما فُطر عليه من أخلاق كريمة، وما أُعطيه من حسن السياسة ووضع الأمور في نصابها، صاغ من أصحابه قرآنا حيّا يدبّ على الأرض، حوّل إيمانهم بالإسلام عملا، طبع من المصحف عشرات النسخ، ثم المئات والألوف. ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، وإنما طبعها بالنور على صحائف القلوب، وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي، وتقول بالفعل والعمل. ما هو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من عند الله؟.
    أيها المسلمون: وإليكم هذه الهدية بهذه المناسبة، مثلا عظيما من أمثلة دونها التاريخ في ثناياه، لتعرفوا السياسة الحكيمة، والمعاملة الحسنة التي كانت تنساب من فطانته وخلقه العظيم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
   روى ابن هشام في سيرته، أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء. وَجَد هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحيّ من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سَعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردّهم. فلما اجتمعوا له، أتاه سَعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحيّ من الأنصار. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار: ما قالةٌ بلغتني عنكم، وجِدة وجدتموها علي في أنفسكم؟.  ألم آتكم ضلاّلا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟. قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل، ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟. قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟. لله ولرسوله المنُّ والفضل. قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدقتكم ولصُدقتم، أتيتنا مُكذّبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما ليُسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم. ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟. فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء ألأنصار.
قال: فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتـفرقوا".
   عباد الله: إن المرء ليقف خاشعا أمام هذا الإعجاز البلاغي النبوي. كلمات صادقة مخلصة، انبعثت من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمها لسانه، أخذت بمجامع قلوب الأنصار وفاضت أعينهم بالدمع ندما، وصعدت نفوسهم إلى مرتبة الملائكة، قتلت الفتنة في مهدها، ويا له من قول عظيم، ذلك الذي نطق به القائد الذي استطاع في لحظة قصيرة أن يغيّر النفوس ويردها إلى الحق، فإذا المادة لا قيمة لها، وإذا الغنائم كلها لم تكن، وإذا متاع الدنيا لا معنى له !.
    لنسمع مرة أخرى إلى هذا التعبير الذي يجلّ عن الوصف، وهذا التساؤل الذي ينفذ إلى القلوب، فلا يتركها إلا وقد أسلمت قيادها لله. "أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟. فو الذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شعبا، وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار".
أيُّ شرف هذا الذي ناله الأنصار في هذا اليوم؟. إن الدنيا كلها بكنوزها لتتضاءل أمام هذا المغنم: "رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبرسوله قسما" ّ. وعاد الركب إلى حيث يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد غمرتهم سعادة الإيمان، وظللتهم فرحة الرضا.  
     أيها المسلمون: كم نحن بحاجة إلى الإطلاع والتنقيب في سيرة هذا العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم، ما أحوجنا أن نتذكر معالم هذه الذكرى ببشاراتها ومعالمها وآفاقها التي كانت إيذانا بميلاد أمة قوية، نفخ فيـها نبيها روح المحبة، فإذا هي أمّة قويّة حطمت أسوار الطغيان والمادة، ومحت معالم الشرك والوثنية. فماذا يطبق المسلمون اليوم من سنته وسيرته صلى الله عليه وسلم؟.
   إن الذكريات كثيرة، والمعاني عظيمة، وذكرى المولد زاد واقتداء، وخير الناس هو من يتعظ بالذكرى. ويجعل منها نقطة على طريق الخير والرشاد.
     فاجعلوا – يا عباد الله- من ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عزما وعهدا على أن تسعوا جاهدين ما وسعكم الجهد، لتطبقوا شرع الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تسلكوا الطريق المستقيم الذي لا حياة سعيدة للأمة الإسلامية إلا بسلوكه .
وفقني الله وإياكم لذلك، ونفعني وإياكم بالقرآن الكريم. 

الخطبة الثانية
     الحمد لله، حمد الشاكرين، ونشهد أن لا إله إلا الله، نؤمن به إيمان الموقنين، ونقرّ بوحدانيته إقرار الصادقين، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير الموحّدين وسيّد المرسلين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد، أيها المسلمون: في خِضِّم الأحداث الجسام التي تحاصر أمتنا اليوم في أكثر من مكان، تأتي هذه الذكرى العطرة، ذكرى مولد خاتم الرسل والأنبياء، نبي هذه الأمة وهاديها ومرشدها وقائدها. لتضيء لنا الدّرب وسط ظلمات العصر، ولتعيد الثقة للقلوب الواجفة.
إن هذه الذكرى إنما تستثير فينا نخوة الإسلام، وإن قائدنا الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، يرسم لنا الطريق بقوله: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". رواه مسلم عن النعمان بن بشير.
والجسد الإسلامي اليوم مثخن بالجراح، وأطرافه تئن تحت وطأة الظلم. ولا خلاص إلا بالتمسك بديننا، والتأسي برسولنا، ونبذ الفرقة بين صفوفنا.            
اللهم تدارك هذه الأمة برحمتك، وألهم قادتها الرشاد، وأجمع صفوفهم على الخير. وارفع عن أبناء المسلمين طوفان الشرور التي تحيط بهم، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم واحم الجزائر من كل سوء، ويسّر لأبنائها طريـق الـتـقـدم والإزدهار. وزوّدهم التقوى يا رب العالمين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.

14 نوفمبر 2017



الموضوع: صوتك أمانة ومسؤولية

الخطبة الأولى
    الحمد لله الذي له الخلق وله الأمر وملك الدنيا والآخرة، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ". وأشهد أن لا إله إلا الله، لا مالك سواه عبدناه ووحدناه. وأشهد أن محمد عبده ومصطفاه، هدى الله به من ضل، وأغنى به من قلّ، وأرجع به من زلّ، وأعز به من ذلّ. صلى الله عليه وعلى أله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.
     أما بعد، فعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ُكلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". متفق عليه.
    عباد الله: ليس بجديد عليكم أن تُحدَّثوا عن شيء اسمه المسؤولية الاجتماعية التي يُعرِّفها البعض على أنها: "الإلتزام الذاتي والفعلي للفرد تجاه الجماعة"، فالمسلم ومن خلال بنائه العَقَدي والمعرِفي بشكل عام تَربَّى على أن يُخاطَب من خلال المجتمع، فلقد أَمَرنا ربّنا أن نتعاون على كل خيرٍ مباركٍ فيه عزٌّ للإسلام وأهلِه، وعلى كلّ ما فيه نفعٌ للمسلمين. جاء في تفسير القرطبي قال الماوردي: "ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبرّ وقرنه بالتقوى له لأن في التقوى رضا الله تعالى وفي البر رضا الناس ومَن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمّت سعادته وعمّت نعمته".
       أيها المسلمون: تعلمون أنّنا على أبواب الانتخابات، ولا شكّ أن الكثير منا في ظل كثرة الأحزاب والأفراد يتساءل مَن أختار؟. سؤال يتكرر من الكثير وتتصارع الأهواء ويتجاذب العقل والعاطفة وتتنازع الرغبات والمقاصد، والكثير في حيرة. وخاصة إن كثيرا ممّن أُشرِبوا حبّ المسؤولية يتسارعون إلى اكتساب الأصوات تطميعا وترغيبا.
      ألا وإن أوّل الفساد الذي يصيب المؤسسات والهيئات والإدارات والدول سوءُ اختيار الرجال، بحيث يُوسَّد الأمر إلى غير أهله، وهذا داءٌ قلّما سَلِم المصابون به من آثاره السيئة وعواقبه الوخيمة. وقد عرف العرب قديما هذا الداء، فقالوا: (اعط القوس باريها). وقال شاعرهم:
يا باريَ القوسِ بريًا لست تُحسِنُه * لا تَفسِدَنّها واعط القوسَ باريها
  فكم من متهافتٍ على الزعامة متهالكٍ عليها وهو ليس من أهلها ولا من طرازها ولكن الغرور وعدم الإعتراف بالنقص قاد إلى ما لا تحمد عقباه في كثير من الحالات. اختلالُ الأمور وانتشارُ الفوضى وانقلابُ الأوضاع وخراب المجتمع. وإنها لصورة مهولة مفزعة تقشعرّ منها الأبدان وتبعث الرعب في النفوس وتثير الخوف في القلوب وتُشعِر باليأس في إمكان النجاة. إنها قيام الساعة وكفى بها هولًا وفضاعةً. قال صلى الله عليه وسلم: "إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة". رواه البخاري.
تُهدى الأمورُ بأهل الرأي ما صلحت * فإن تولّت فبالأشــــــــرار تنقاد
لا يصلح القوم فوضى لا سَـــــرَاة لهم * ولا سَراة لهم إذا جهالهم سادوا
    فالنجاة .. النجاة  ..لا بد من ترتيب الكفاءات وإعطاء القوس باريها وإسناد الأمر إلى أهله. ولقد أشار القرآن الكريم والسنة النبوية إلى ضرورة توفُّر عنصرين هامّين فيمن يقع عليه الاختيار.
     العنصر الأول: هو عنصر الكفاءة أو الخبرة.
والعنصر الثاني: ـ هو العنصر الأخلاقي ـ الأمانة.
   يقول الله في قصة موسى على نبينا وعليه السلام حين سقى لابنتي الرجل الصالح ورفَق بهما وكان معهما عفيفا شريفا: "قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ". القصص:26.  فلقد قدّمت القوّة أو الخبرة على العنصر الأخلاقي وهو الأمانة، ومعنى ذلك أن المطلوب في المسؤول أو الموظف الجديد أولا أن يكون خبيرا بشئون موقعه وهو في نفس الوقت موضوع تحت رقابةٍ أعلى منه تُلزمه الأمانة في مباشرة عمله. ثم إن الإسلام يَرقُب من معتنقه أن يكون ذا ضمير حيّ تُصان به حقوق الله وحقوق العباد، ومن ثَمَّ أوجب الإسلام على المسلم أن يكون أمينا وهو العنصر الثاني الذي يجب توافره فيمن يقع عليه الاختيار. قال صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ". رواه الطبراني. ومعنى ذلك أن الأمانة في نظر الشرع صفة واسعة الدلالة وهى تدل على معان كثيرة، هي بإيجاز شعور المرء بمسؤوليته في كل أمر يُوكل إليه، ومن هذه المعاني وضع الشيء في المكان الجدير به واللائق له فلا يُسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به ولا تُملأ وظيفة إلا بالرجل الذى ترفعه كفاءته إليها، فلا اعتبار للمجاملات والمحسوبيات، حتى الصحبة والصداقة لا يُنظر إليها في هذا المجال، فهذا أبو ذرّ رضي الله عنه الذى كان محلّ تقدير من الرسول صلى الله عليه وسلم فلقد قال عنه يوما فيما رواه الترمذي: "ما أظلّت السماء ولا أقلّت الغبراء أصدقُ لهجة من أبي ذر".  ولكنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بتعيينه في موقع قيادي نصحه صلى الله عليه وسلم قائلا: "يا أبا ذر، إنك ضعيف -أي القيادة تحتاج إلى خصائص-وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها". أخرجه مسلم في الصحيح وأبو داود والنسائي في سننهما عن أبي ذر.
      لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم الأسس وقاعدة التفريق بين أهل الثقة ممّن تربطك بهم مودّة وبين أهل الخبرة ممن لا تربطك بهم صلة لكنهم قادرون على قيادة العمل بنجاح وتَفرِض المصلحة أن يُولَّى الخبيرُ بالموقع العليمُ بما يصلحه، وإلا فلو كانت المناصب خاضعة للصداقة والصحبة لكان أبو ذر رضي الله عنه في طليعة الأفراد ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل مشيرا إلى ضرورة توفر شروط القيادة فيمن يتحمّل مسئولية موقع ما.
      وإنها لأُسُسٌ دقيقةٌ وكفيلةٌ بأن تُصلح مؤسساتُ المجتمع على اختلاف مهامّها وتنوّع مجالاتها وتفاوت مراتبها، وهي الأسس الغائبة في مجتمعنا ـ وللأسف ـ الذي صار يُعتمَد فيه اختيار المسؤول ومَن يناط بهم تحقيق مصالح الأمة ورعاية شؤونها على ما حذر منه عمر رضي الله عنه بقوله: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولّى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين". رواه الطبراني.
     فيا أيها المسلم: إن الإسلام يلزمك أن تكون قواماً بالعدل مؤدياً لشهادة الحق قاصداَ بقولك وفعلك وجه الله صادعاً بالحق والعدل ولو على نفسك، ولو على أحبِّ الناس إليك كوالديك وأقاربك وذوي رحمك. إن الإسلام يُحذِّرك من العواطف في مثل هذه الأمور، يحذِّرك من الإنحياز إلى صاحب الباطل بزعم قُربه أو قرابته، فإن ذلك من اتباع الهوى والانحراف عن الجادة. فلا يحلّ لك أن تشهد بالصلاحية لمرشحٍ ما لمجرد أنه قريب أو ابن بلد أو لمنفعة شخصية قدَّمها أو ترتجَى من ورائه، بل يجب أن تُقِيم الشهادة لله، قال تعالى: "وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلهِ". الطلاق: الآية: 2 .
   فلْنَحْذرِ المحسوبِيَّات ولْنتجنَّبِ المُحَاباة فليست المسئوليات مِنَحًا تُهدَى ولا حقوقًا تُعطَى بل الإختيار لكل وظيفةٍ يجبُ أن يكون على أُسُسٍ موضوعية وعلمية لا على أساس الوساطة والمحسوبية والقرابة، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم: "من ولِيَ من أمْر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباةً فعليه لعنةُ الله لا يقبلُ الله منه صرفًا ولا عدلًا حتى يدخله جهنم". وفي حديث آخر: "أيما رجل استعمل رجلًا على عشرة أنفسٍ عَلِمَ أن في العشرة أفضل ممَّن استعمل فقد غشَّ الله ورسوله وغشَّ جماعة المسلمين".
    فيا أيها الفاضل: صوتك أمانة ومسؤولية، أمانةٌ لا يباع ولا يشترى من أجل دنيا دنية أو مصلحة فردية، ومسؤوليةٌ ستسأل عنه يوم القيامة، والتفريط فيه خزي وندامة، واعلم أن جمهور الفقهاء يرون أن الناخب شاهد وتصويته شهادة بصلاحية شخص أو عدم صلاحيته. ومن ثَمَّ فإنه يجب على الشاهد إذا دعي للتصويت أن يدلي بشهادته ولا يكتمها.  وقد اعتبر ابن عباس رضي الله عنهما كتمان الشهادة من أكبر الكبائر، لأن الله عز وجل يقول: "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه". البقرة: 283، وكان يقول: "على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد". وقد اختتمت آية الشهادة بقوله الله تعالى: "والله بما تعملون عليم"، وهذا يعني كما يقول الطبري رحمه الله: "بما تعملون" في شهادتكم من إقامتها والقيام بها أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها، "عليم"، يُحصيه عليكم ليجزيَكم بذلك كله جزاءَكم إما خيرا وإما شرا على قدر استحقاقكم". ا.هـ
   أيها المسلمون: فلنضع أيدينا بأيدي بعضنا، فهي فرصة ثمينة إما لنا أو علينا، هي لنا متى أدركنا وفهمنا حقيقة الاختيار، وهي علينا جميعًا متى أهملنا وفرطنا وقدمنا مصالحنا على مصالح الأمة والدين والوطن. فلا بد أن تَعرف أيها الناخب أن ذمّتك الشرعية وضميرك الوطني يفرض عليك اختيار الأصلح للناس، فالبلد بلدنا والمصالح لنا جميعًا، فيجب أن نميّز بين الغث والثمين، وأن يكون نصب أعيننا قبل كل معيار: صلاح المرشَّح في نفسه وصلاحه الإجتماعي وخبرته وتميّزه في خدمة الناس ورفقه بهم، فـ "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ". 
         وفقنا الله وإياكم لذلك، فسبحانه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، أستغفره وأتوب إليه إنه هو الغفور الرحيم، والحمد لله رب العالمين.


الخطبة الثانية
     الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لاإله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
     أما بعد: قال اللهُ تعالى: "وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ". يس: 6، ألم يكن فِي تلك المدينة غير هذا الرّجل؟!. بلى، ولكنَّهم عجزوا عن مثل هذا الجميل من الفعل، فأَثنى القرآن الكريم على هذا الرجل وخلَّد ذكره لأَنّه أخلص لوطنه وساكنيه وعاش همومَ مواطنيه. وأننا ـ أيها المباركون ـ اليوم أمام واجبين: 
      أما الواجب الأول فهو واجب كفائي، يتجسد في حرص المسلم على أن يستثمر صوته الذي أتيح له، وهو جزء من واجب الإصلاح المنشود لمن يحرص على تحقيق المصالح في نفسه ومجتمعه وينشد الخير والنفع في أمور الدين والدين. وأما الواجب الثاني فهو أن يكون الاختيار للأكفأِ والأمثلِ والأصلح، بعيدًا عن كل الاعتبارات العنصرية أو الشخصية، قال الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً". النساء: 58، قال الإمام السعدي تعليقًا على هذه الآية: "فالأمانات يدخل فيها أشياءُ كثيرة، من أجَلِّها: الولاياتُ الكبيرةُ والصغيرة والمتوسطة، الدينيةُ والدنيوية، فقد أمر الله أن تؤدى الأماناتُ إلى أهلها بأن يُجعل فيها الأكْفاء لها، وكلُّ ولاية لها أكْفاءُ مخصوصون، وإن صلاح الأمور بصلاح المتولّين والرؤساء فيها والمدبّرين لها والعاملين عليها، فيجب تولية الأمثل فالأمثل، فإن صلاح المتولّين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة، وضده بضده". ا.هـ  ـ القواعد الحسان 1/98- 99 بتصرف .
   فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وراقبوه في كل ما تأتون وتذرون، وفيما تقولون وتفعلون، وفيما تختارون وترشحون. والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
    وفقنا الله جميعاً ليكون غد الجزائر أكثر ازدهاراً وجمع الله القلوب والعقول على الخير دائماً. اللهم وفقنا للصالحات واصرف عنا السيئات، واغفر لنا ما مضى وما هو آت، وأنزل علينا الرحمات وأفض علينا البركات، وضاعف لنا الحسنات وارفع لنا الدرجات، وامح عنا السيئات وكفر عنا السيئات برحمتك يا رب الأرض والسماوات، اللهم وآمِنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتَنَا فيمن خافك واتقاك واتبعَ رضاك يا رب العالمين. اللهم احفظ بلادنا وأمننا وعقيدتنا من كيد الأعداء ودسائس المغرضين وجميع بلدان المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.  وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.