29 نوفمبر 2017



الموضوع: ذكرى المولد النبوي زاد واقتداء

الخطبة الأولى

     الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، أرسله بشيرا ونذيرا وداعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، أرسله على حين فترة من الرسل، كراهة أن يقول الناس ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقد جاءهم البشير النذير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده لا بيد غيره الهداية والتوفيق، والإرشاد إلى خير طريق، هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام البرية، صاحب الأخلاق المرضية، سيد المرسلين، وقدوة المتقين. من سلك سبيله وصـل، ومـن عـدل عنـه غوى وضل.
كل القلوب إلى الحبيب تمـيل   ومـعـي بهذا شاهد ودلـــــــــــــيل
أما الدليل إذا ذكرت محـــــــمـدا   صارت دموع العارفين تسيل
هذا رسول الله هذا المصطفى   هذا لكل العالمــــــــين رســـــــول
يا سيد الكونين يا عـلم الهــدى   هذا الـمحبّ في حمـــاك نزيل
  صلوات ربي وسلامه عليك وعلى آلك وأصحابك السادة الأخيار، الأتقياء الأبرار، الذين تأدبوا بآدابك، وتابعوك في أخلاقك وعاداتك، رضي الله عنـهــم ورضوا عنه، فجزاهم الله أحسن ما كـانـــوا يعـمـلـون.
    أما بعد، فيا عباد الله: هلت علينا ذكرى مولد خير البشرية، ونور الله إلى العالمين قاطبة. ذكرى مولد النبي الأكرم، والرسول الأطهر، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من إسماعيل كنـانـة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بنـي هـاشـم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار".
      وجاء في كتاب أعلام النبوة لأبي الحسن الماوردي قوله: "لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت لانتهاء صفوتهما إليه وقصور نسبهما عليه، ليكون مختصًّا بنسبٍ جعله الله للنبوة غاية، ولتفرده نهاية فيزول عنه أن يشارك فيه، ويماثل فيه، فلذلك مات عنه أبواه في صغره، فأمّا أبوه فمات وهو حمل، وأما أمّه فماتت وهو ابن ست سنين".
     أيـهـا المسلمون: في هذا الربيع، ربيع المولد النبوي الكريم، تتجاوب أغاريد الشعر، وتتفتح أزهار الفكر، حافلة بالثناء والتمجيد بمزايا خاتم المرسلين، وليس في استطاعة الواصف- وإن ملك أسباب البيان– وليس في إمكان الخاطب– وإن وهب أسرار البلاغة– أن يحصي شمائل هذا النبي العظيم، أو يحصر خصاله، أو يحدّد آثاره .
فإن فضل رسول الله ليس له  حدّ فيعرب عنه ناطق بفم
فمبلغ العــلم فيه أنه بــشـر      وأنــــه خير خلق الله كلـــهم
    أيها المسلمون: لو كانت عظمة العظيم بما يملك من مال، أو بما يصل إليه من متاع الحياة الدنيا وطيباتها، لكان رصيد محمد من العظمة ضئيلا، ونصيبه منها قليلا، فها هي زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي أعلم الناس به وبمقاييس العظمة. ترثيه فتقول: "بأبي لم ينم على السرير ولم يشبع من الخبز الشعير". إن عظمته جاءت حصيلة إعداد إلهي خاص وعناية ربانية، وهذا ما أشار إليه الإمام علي بن أبي طالب بقوله: "ولقد قرن الله به صلى الله عليه وسلم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم، نهاره وليله".
   لقد أوتي صلى الله عليه وسلم النجاح في كل شيء، لما فُطر عليه من أخلاق كريمة، وما أُعطيه من حسن السياسة ووضع الأمور في نصابها، صاغ من أصحابه قرآنا حيّا يدبّ على الأرض، حوّل إيمانهم بالإسلام عملا، طبع من المصحف عشرات النسخ، ثم المئات والألوف. ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، وإنما طبعها بالنور على صحائف القلوب، وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي، وتقول بالفعل والعمل. ما هو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من عند الله؟.
    أيها المسلمون: وإليكم هذه الهدية بهذه المناسبة، مثلا عظيما من أمثلة دونها التاريخ في ثناياه، لتعرفوا السياسة الحكيمة، والمعاملة الحسنة التي كانت تنساب من فطانته وخلقه العظيم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
   روى ابن هشام في سيرته، أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء. وَجَد هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحيّ من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سَعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردّهم. فلما اجتمعوا له، أتاه سَعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحيّ من الأنصار. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار: ما قالةٌ بلغتني عنكم، وجِدة وجدتموها علي في أنفسكم؟.  ألم آتكم ضلاّلا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟. قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل، ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟. قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟. لله ولرسوله المنُّ والفضل. قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدقتكم ولصُدقتم، أتيتنا مُكذّبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما ليُسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم. ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟. فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء ألأنصار.
قال: فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتـفرقوا".
   عباد الله: إن المرء ليقف خاشعا أمام هذا الإعجاز البلاغي النبوي. كلمات صادقة مخلصة، انبعثت من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمها لسانه، أخذت بمجامع قلوب الأنصار وفاضت أعينهم بالدمع ندما، وصعدت نفوسهم إلى مرتبة الملائكة، قتلت الفتنة في مهدها، ويا له من قول عظيم، ذلك الذي نطق به القائد الذي استطاع في لحظة قصيرة أن يغيّر النفوس ويردها إلى الحق، فإذا المادة لا قيمة لها، وإذا الغنائم كلها لم تكن، وإذا متاع الدنيا لا معنى له !.
    لنسمع مرة أخرى إلى هذا التعبير الذي يجلّ عن الوصف، وهذا التساؤل الذي ينفذ إلى القلوب، فلا يتركها إلا وقد أسلمت قيادها لله. "أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟. فو الذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شعبا، وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار".
أيُّ شرف هذا الذي ناله الأنصار في هذا اليوم؟. إن الدنيا كلها بكنوزها لتتضاءل أمام هذا المغنم: "رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبرسوله قسما" ّ. وعاد الركب إلى حيث يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد غمرتهم سعادة الإيمان، وظللتهم فرحة الرضا.  
     أيها المسلمون: كم نحن بحاجة إلى الإطلاع والتنقيب في سيرة هذا العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم، ما أحوجنا أن نتذكر معالم هذه الذكرى ببشاراتها ومعالمها وآفاقها التي كانت إيذانا بميلاد أمة قوية، نفخ فيـها نبيها روح المحبة، فإذا هي أمّة قويّة حطمت أسوار الطغيان والمادة، ومحت معالم الشرك والوثنية. فماذا يطبق المسلمون اليوم من سنته وسيرته صلى الله عليه وسلم؟.
   إن الذكريات كثيرة، والمعاني عظيمة، وذكرى المولد زاد واقتداء، وخير الناس هو من يتعظ بالذكرى. ويجعل منها نقطة على طريق الخير والرشاد.
     فاجعلوا – يا عباد الله- من ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عزما وعهدا على أن تسعوا جاهدين ما وسعكم الجهد، لتطبقوا شرع الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تسلكوا الطريق المستقيم الذي لا حياة سعيدة للأمة الإسلامية إلا بسلوكه .
وفقني الله وإياكم لذلك، ونفعني وإياكم بالقرآن الكريم. 

الخطبة الثانية
     الحمد لله، حمد الشاكرين، ونشهد أن لا إله إلا الله، نؤمن به إيمان الموقنين، ونقرّ بوحدانيته إقرار الصادقين، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير الموحّدين وسيّد المرسلين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد، أيها المسلمون: في خِضِّم الأحداث الجسام التي تحاصر أمتنا اليوم في أكثر من مكان، تأتي هذه الذكرى العطرة، ذكرى مولد خاتم الرسل والأنبياء، نبي هذه الأمة وهاديها ومرشدها وقائدها. لتضيء لنا الدّرب وسط ظلمات العصر، ولتعيد الثقة للقلوب الواجفة.
إن هذه الذكرى إنما تستثير فينا نخوة الإسلام، وإن قائدنا الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، يرسم لنا الطريق بقوله: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". رواه مسلم عن النعمان بن بشير.
والجسد الإسلامي اليوم مثخن بالجراح، وأطرافه تئن تحت وطأة الظلم. ولا خلاص إلا بالتمسك بديننا، والتأسي برسولنا، ونبذ الفرقة بين صفوفنا.            
اللهم تدارك هذه الأمة برحمتك، وألهم قادتها الرشاد، وأجمع صفوفهم على الخير. وارفع عن أبناء المسلمين طوفان الشرور التي تحيط بهم، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم واحم الجزائر من كل سوء، ويسّر لأبنائها طريـق الـتـقـدم والإزدهار. وزوّدهم التقوى يا رب العالمين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق