الموضوع: قرار "ترامب" جسٌّ للنبض هل
بقيت في هذه الأمة حياة؟.
الخطبة الأولى
الحمد لله رب
العالمين، لا يحمد على مكروه سواه، سبحانه امتحن عباده بالشدائد ومصائب الحياة،
حتى يعلم المجاهدين منهم والصابرين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
"الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور".
(الملك:2). وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلفه وحبيبه، أدى الرسالة، وبلغ
الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى
آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فأوصيكم ـ
أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه في السراء والضراء، وفي الخلوات
والجلوات. "اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون".
أيها
المسلمون: روى أبو داود في سننه، والإمام أحمد في مسنده، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها،
فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل،
ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال
قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟. قال: حب الدنيا وكراهية الموت".
ها هو ذا رسول الله يحذرنا أشد التحذير، ويبين
لنا خطر ما يخشاه علينا. أن نكون يوما كثرة عددية لا قيمة لها ولا قوام، وإن ما
يعيشه العالم الإسلامي اليوم من مأساة إنسانية، ليست هي الأولى في حياة المسلمين،
ولن تكون الأخيرة، فالمسلمون مستهدفون في كل زمان ومكان، والإسلام سيضل مستهدفا من
أعدائه طالما ضل المسلمون متفرقين ومتخاذلين.
وفي المحيا سـؤال حـــائر قلـق أين
الفداء و أين الحب في الديـــن؟
أين الرجـولة والأحـداث
دامية أين الفتـوح على أيـدي الميـاميــن؟
ألا نفـــــوس إلى العليـــاء
نافــرة تــواقـة لجنـــان
الحـــور والعيـــن
يـا غيرتي أيـن أنت؟ أين معذرتي؟
ما بال صوت المآسي ليس يشجيني
أين اختفت عزّة الإسلام من خلدي
مـا بالها لم تعـد تغـذ شراييـني؟
أيها المسلمون: لا يخفى عليكم أنه على مدى سنوات استخدم الصهاينة
وسائل عديدة لتهويد القدس، منها: (القتل والتعذيب والتدمير والاستيطان ومصادرة
الأراضي وتهجير الفلسطينيين وسحب الهويات منهم)، دون أن يستطيعوا تنفيذ كل ما
يريدون، وها هو اليوم حاكم أمريكا "دونالد ترامب" يأتي ليقدم لهم على طبق من
ذهب إعلان القدس عاصمة لهم، في ظل تغافل أمة قوامها مليار أو يزيدون عن
المخططات الصهيو أميركية لإنهاء القضية الفلسطينية عبر إعلان القدس عاصمة للكيان
الاسرائيلي.
لكنا نقول له ولهم: إن التاريخ أقوى عناداً من
"ترمب"، التاريخ لا يتم تزييفه بجرة قلم من سياسي عابث عابر، فكثير من الطغاة
حاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يضعوا لافتات جديدة وأسماء جديدة لمدن مغروسة في
قلب الحضارات، ولكن انصرفوا وبقيت المدائن. فالقدس هي القبلة الأولى والركعة الأولى والآية
الأولى وشجرة الزيتون وحجارة الوادي التي لم تجرفها مياه المعارك المتدفقة بلا
توقف برائحة الدم، شهدت كثير من لصوص الأرض والغرباء، كلهم ذهبوا وبقيت مدينة الصلاة. لأنها ليست
مدينة عابرة في التاريخ ككل المدن، هي عبق التاريخ المعتّق في حجارتها وترنيمة
الأنبياء وحفيف أجنحة الملائكة، إنها عاصمة العطور، فرائحة دماء شهدائها أزكى من
مسوك الدنيا كلّها.
القدس
ـ أيها المسلمون ـ هي حُرقة كل حرّ، وهمُّ كل مسلم صادق، قضيتها ليست لأهل فلسطين فقط، بل هي قضية
عقائدية، لأنها مهد الحضارات ومنطلق الرسالات، إليها أسري برسولنا محمد صلى الله
عليه وسلم، ومنها عرج به إلى السموات العُلى، وفيها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين
وثالث الحرمين الشريفين، وأحد المساجد التي تشد إليها الرحال. فعن أبي هريرة رضي
الله عنه، قال: قال رسول الله: "لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد
الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى".
قال
الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله: "رحاب القدس الشريف مثلُ رحاب مكة
والمدينة، وقد قال الله في الآية الأولى من سورة الإسراء: "سُبْحَانَ الَّذِي
أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ البَصِيرُ". الإسراء:1، ليعرفنا بفضل تلك الرحاب، فكلُّ ما هو
واقعٌ بها، كأنه واقعٌ برحاب المسجد الحرام ومسجد طَيْبَة. ا.هـ ـ افتتاحية مجلة ـ
الشهاب، في عددها الصادر في شهر جمادي الثانية 1357هـ الموافق لشهر (أوت 1938م) . فارتباط
المسلمين بفلسطين ارتباط عقَدي وليس ارتباطاً موسمياً مؤقتاً ولا انفعالياً
عابراً، ولذا فهي لن تنسى أبدا ولا يجد المؤمن الصادق بُدًّا من متابعتها،
وإلقاء السمع إلى أحداثها، ويبذل الجهد ويساهم في الدفاع عن
المسجد الأقصى لأن كل جهد صادق محتاج إليه ولوكان بالدعاء إذا كان هو قدر الإستطاعة،
فالله غني عنا وعن جهودنا كما قال تعالى: "ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن
ليبلوَا بَعضكم ببعض". فقضية المسجد الأقصى قضية تجمع المسلمين كلهم ولا
تفرقهم؛ فلا يختلف فيها عربي عن عجمي ولا يختلف فيها كبير عن صغير ولا تختلف فيها
امرأة عن رجل، لأنها قضية مرتبطة بعقيدتهم، كل من شهد ان لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله يقتنع بأن عليه أن يدافع عن المسجد الأقصى وأن يبذل جهدا من ماله
ووقته وعمله ولسانه ويده في الدفاع عن هذا المسجد الذي هو أمانة رسول الله صلى
الله عليه وسلم لدى الأمة إلى يوم القيامة، وما قرار "ترامب" إلا جسٌّ
للنبض، هل بقيت في هذه الأمة حياة؟. فهم يرون الأمة قد قُطعت أشلاءً ومُزقت
أعضاؤها، وهم يحسبون أن هذا الوقت مناسب للقضاء على المسجد الأقصى.
ولذا فإنني من هذا المنبر أرفع تحية إجلال وإكبار لإخواننا
وأخواتــنا المرابطين في المسجد الأقصى وعلى أبوابه، وإنّي بلسانهم ولسان الجزائريين
كلهم من الأجنة في بطون الأمهات، إلى الذين هم في الأجداث، وبلسان المسلمين أجمعين، وفي هذه الأيام الطيبات
المباركات، أرفع الشكوى إلى الله، وأقول اللَّهُمَّ كف عن إخواننا في القدس بأس
الذين كفروا، فأنت أشد بأسا وأشد تنكيلا، اللهم اجعل كيد الظالمين في نحورهم وسلاحهم
في صدورهم إنك على كل شيء قدير، اللهمَّ إنَّ بطشك لشديد، وأنت الفعَّال لِما
تريد، لا يُرَدُّ أمرك ولا مُعقِّب لحُكمك، ولا رادَّ لقضائك، نستغفرك ونتوب إليك..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ان لا إله إلا
الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى
آله وأصحابه وسلم..
أما
بعد، أيها المسلمون: إن أمتنا اليوم تمتحن في إيمانها بربها امتحانا شديدا، وتمتحن
في قوة شخصيتها وصلابتها وتماسكها، ولقد سمعت كما سمع غيري من يقول: كيف يصيبنا ما
أصابنا ونحن مسلمون؟. وكيف تنتصر إسرائيل على المسلمين؟.
أقول: كيف انتصر المشركون في غزوة أحد
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونالوا منه وجرحوه، وقتلوا من أجلاء الصحابة
سبعين، ومثلوا بعمه حمزة شرّ تمثيل؟. هل يمكن أن يتسرب أيّ شك في إيمان الرسول
وصحابته؟. هل يمكن أن يقال: إن الله حابى المشركين على حساب الرسول والمؤمنين،
تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، إن الذي يمكن أن يقال فيسمع، هو أن الحرب تحتاج
إلى الإيمان مع إعداد الخطط، والإلتزام التام بكل ما تقتضيه الحرب، لقد كانت
الهزيمة بسبب أن بعض المسلمين خالفوا النظام الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم
لهم.
فلو أجمع المسلمون أمرهم، ووحّدوا مناهجهم،
واتخذوا من القرآن والسنة النبوية منهاج عمل، والنبي صلى الله عليه وسلم خير أسوة
وقدوة، وأعظم قائد وزعيم، وأخلصوا لله عملهم، وتحابوا فيما بينهم، وجندوا أنفسهم
وأموالهم لله، فإن الله قد تكفل بنصرهم
وترجيح كفتهم، حيث قال سبحانه: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله
لا يحب كل خوان كفور، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم
لقدير".
فاتقوا الله عباد الله، والتمسوا النجاة من فتن الدنيا وعذاب الآخرة بإتباع
أوامر الله، واجتناب معصية الله، تكونوا في رعاية الله.
أدعــــــــــــوك يا ربـّي فرّج
مصيبتنــا يا كاشف الضر فاض الليل بالفحم
يا ربّ وحّد صفوف المسلمين
على درب الهـدى أمــة خفاقة العلـــم
لاهُمّ وانصر جهاد الصادقين
كما نصرت قبل دعاة الحق في الأمــــم
اللهم
أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم هيئ لإخواننا في فلسطين، وفي
كل مكان، نصرا عزيزا تعز به أهل طاعتك، وتذل به أهل معصيتك، ولا تجعل ـ اللهم ـ
للكافرين على المؤمنين سبيلا، اللهم انصر إخواننا في فلسطين وأمددهم بقوة من عندك،
اللهم وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وقوّ عزمهم، ووحّد صفّهم، واجعلهم في كفالتك يا
رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل
اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق