13 ديسمبر 2017



الموضوع: تحية إجلال وإكبار من الجزائر إليكم أيها المرابطون في الأقصى

الخطبة الأولى
   الحمد لله، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمه التي تزاد بالشكر فلا تبور، وأستمنحه جلّ في عليائه التوفيق في كلّ الأمور، فهو سبحانه المؤمّل لكشف كل كرب، وجبر كل مكسور. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له الغفور الشكور. "خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهو العزيز الغفور". وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله، بعثه بالهدى والنور، فأشرقت شمس الحقّ في كل الرّبوع والدّور، وزكت النفوس العليلة فغدت في سعادة وسرور، ورضوان وحبور. صلّى الله عليه وعلى آله ليوث الوغى والثغور، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور، وسلم تسليما كثيرا.
     أما بعد؛ فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالتقوى سبيل المؤمنين، وهي النجاة في الدنيا، ويوم يقوم الناس لرب العالمين. قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون".
    أيها المسلمون: أصبحنا في زمن لا يدري الواحد منّا، أيّ الأحداث يتابع؟. وأيّ المآسي ينازع؟. تعددت الجراحات التي تُفتّت كبد الحجر قبل بني الإنسان!.
كانت فلسـطين موّالاً لأمتنا     ما بالها لم تعد للناس مّوالا ؟
تعددت يا بني قومي مصائـبنا     فأقفلت بابنا المفتوح إقفالا
كنّا نعالج جرحا واحدا فغدت    جراحنا اليوم أشكالا وألوانا
  ومع تعدّد المصائب وكثرة الفواجع، تبقى "فلسطين" قضيتنا ومصيبتنا الأساس، التي لا ينبغي تجاهلها ونسيانها. "فلسطين"، تلك البلدة التي سالت من أجلها العيون، ورخصت في سبيلها المنون، والمؤمن الصادق لا يمل الحديث عن القدس الشريف، لأنه اليوم نقطة الارتكاز في ميدان الجهاد الإسلامي، وقضيته حديث القضايا الإسلامية، وساحته محطة امتحان وكشف لقوة المسلمين وغيرتهم على دينهم وأوطانهم وحرماتهم، بل كيف يستطيع المؤمن أن يهنأ ويترفه بطعامه وشرابه؟.
    أيها المسلمون: إن القدس الشريف تتعرض منذ أن أحتلها اليهود عام سبع وستين إلى مكايد ومؤامرات يراد منها تهويدُ القدس، أي: إزالةُ الوجود العربي والإسلامي منها، وجعلُها خاصة لليهود، ويراد منها - أيضا - هدمُ المسجد الأقصى، وبناءُ المعبد اليهودي مكانه، وقد بدأت سلسلة تهويدِ القدس مع أول يوم لاحتلالها. ونحن نرى اليوم آلاف الوحدات الاستيطانية؛ ليكثر عدد اليهود في القدس، يتوافق ذلك مع التضييق على إخواننا أبناء القدس في منازلهم ودورهم، ولا تسمح السلطات الإسرائيلية بالدخول للمدينة إلا ببطاقة إسرائيلية، أو تصريح مؤقت. وبهذا المخطط يتم تهويد مدينة القدس التي طالما قالوا مرارا وتكرارا أنها العاصمة الأبدية لإسرائيل ولن يتنازلوا عنها مطلقاً.
    وها هي اليوم تجتاز مرحلة هي أخطر من كل المراحل التي مرت على القضية الفلسطينية بصفة عامة، وعلى القدس الشريف بصفة خاصة، مما يستوجب جمع الصف العربي والإسلامي، للوقوف وقفة رجل واحد في وجه العمليات الرامية إلى تهويد القدس أرضا وشعبا، فهذا قرار الرئيس الأميركي يوم 6 كانون الأول/ ديسمبر باعتراف إدارته بالقدس عاصمةً لإسرائيل، الذي كان إرضاءً للُّوبي الصهيوني في أميركا الذي يتزعمه الملياردير اليهودي "شيلدون أديلسون" مالك الكازينوهات الشهير، وإرضاءً للجماعات الإنجيلية الذين يرون في هذا القرار تحقيقا لنبوءة تمهد الطريق لعودة المسيح الذي يأتي مخلصًا لهم بعد أن رفضوه من قبل.
      وإنه لمسخ شنيع وخزي أثيم أن يجري ذلك على مرأى ومسمع جميع العرب والمسلمين، ولا من يحرك ساكنا، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد، أما لهم مثالا يحتذى في الدفاع عن فلسطين والنضال دونها في علامة الجزائر الشيخ: محمد البشير الإبراهيمي –عليه رحمة الله، عودوا إلى (عيون البصائر) وانظروا في صفحة 496، واقرأوا فيها ذلكم النداء الحار، الذي وجهه إلى العرب والمسلمين، والذي قال فيه: " أيها العرب، أيها المسلمون: إن فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة، إنا إذن لخاسرون".
     أيها المسلمون: إن مكانة الأقصى من الدين مكانة سامقة باسقة تجعلنا نقطع بأن الاهتمام بها من مهمات العقيدة ومن توابع أولية التوحيد الكبرى: توحيداً لله تعالى وتوحيداً لكلمة الأمة على الكتاب والسنة وهدي السلف.
ولكن بأي المشاعر أتحدث، وبأي لسان نعبّر، فالحدث أكبر من الحديث، والمشاهد أبلغ في التعبير، واللسان يعجز عن وصف الموقف، والكلمات تتعثر في الحديث عن الحال والقلم ينقلب خاسئًا وهو حسير.
      كيف يذكر العلماء والخطباء في هذه الحالة الحرجة في حياة الأمة مسائل من جزئيات المعتقد تتعلق بالجنة والنار والجن والمسح على الخفين وطاعة الولاة؛ وكلها لا تدخل في صميم الإيمان باتفاق العلماء؛ ثم لا يذكرون قضية فلسطين وحماية القدس والأقصى من أعداء الله الذي يهودونها ويمجسونها وينجسونها تدنيساً لها -وهي الأرض المقدسة المطهرة المنزهة- شركاً بها وكفراً.
   ألم يجعل الله مسرى رسول الله من مكة إلي المسجد الأقصى ومعراجه صلوات ربي وسلامه عليه إلى السماء منه، وكان قادراً أن يفعل كل ذلك من المسجد الحرام وهو أبرك وأتم؛ ولكن ليتم الربط العقدي عند كل مؤمن يؤمن بالإسراء آية ومعجزة وبالرسول إماما ومقتدى؛ بأن من أهم سبله وأحسن سننه التي يتبع فيها اهتمامه بفلسطين والسعي إليها وتخليدها قرآنا يتلى أبد الدهر في أم السور المسبحات السبع؛ وهي سورة الإسراء، قال تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آيَاتِنَا إنه هو السميع البصير".
       أيها المسلمون: إن القرآن الكريم والسنة المطهرة والتاريخ المحفوظ، يحدثوننا وينبئوننا أن أمة الإسلام أمةٌ متجددة وعودة، كالغيث لا يدري الخير في أولِّه أو في آخره، إنها أمة غير منقطعة بل متصلة مستمرة بإذن الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى، فلا تضعف في جانب إلا وتقوى في جانب، ولا تنهزم في ناحية إلا وتنتصر في أخرى، واستقراء التاريخ يؤيد ذلك؛ فكما أثبت الشعب الجزائري للجنرال ديغول وللعالم بأسره بمظاهرات 11ديسمبر 1960أن الثورة الجزائرية ثورة شعب يرفض كل أنواع المساومات بما في ذلك مشروع “ديغول”: “الجزائر جزائرية”. فكذلك يفعلها المرابطون في الأقصى والله معهم. فبوركت سواعد المرابطين على ذلكم الثرى المقدس على أرض بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق، ظاهرين على من ناوأهم وهم كالإناء بين الأكلة، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" قلنا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: "بأكناف بيت المقدس".  أخرجه الطبراني في الكبير
    وإنه لا يسعني من هذا المنبر إلا أن أقول: تحية إجلال وإكبار من الجزائر إليكم أيها المرابطون في الأقصى، أنتم الرجال والنساء والأطفال الذين تعيشون حالة هذا الإصطفاء الرباني، الذي يمنح الفرد والجماعة يقين المؤمن وثبات المرابط وعزة المسلم المدافع عن دينه أرضه ومقدساته. وأقول لكم شكرا يا أهل فلسطين يكفيكم أنكم أحرجتم أصحاب القرار في كل مكان كي يغيروا مواقفهم التقليدية المألوفة المأفونة. وهي تلك الجلسات الطارئة والتنديدات الفارغة والمجاملات الباهتة والمواقف السَّمِجة التي مَلَّتها الأسماع ومَجَّتْها الطباع، رسالتكم قد وصلت قوية مدوية إلى العالم أجمع بأنكم سلكتم طريقا سيسلكه كل الشجعان في العالم، واشهدوا بأنا قلنا يوما على لسان الراحل هواري بومدين: "الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة". ووددنا يا أهلنا في فلسطين أن نكون معكم ولكن حبسنا العذر الذي تعرفون، وها نحن نضم صوتنا مع أصواتكم ونضع أيدينا في أيديكم للقيام بما استطعنا من أعمال تخلصنا من الذل والهوان بإذن الله.
  اللهَ ربنا نحمدك وقلوبنا ترفّ برهبة التسليم لك، وألسنتنا تلهج بدعاء التثبيت وطلب النصر والتمكين، اللهم وحد صفوفهم وثبت أقدامهم وقوّ عزائمهم، وأيدهم بنصر من عندك، إنك أنت العزيز الحكيم.

الخطبة الثانية

 الحمد لله رب العالمين، كتب العزة للمؤمنين، أحمده سبحانه ينصر حزبه، ويعز جنده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده، وأخمد بسيف الحق عدوان المعتدين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم أجمعين.
   أما بعد: فإنه يا عباد الله ـ لا يليق بأمة الإسلام أن تغرق في خلافاتٍ جانبية، ونظراتٍ إقليمية، أو أنانية؛ يجب أن تقدمَ مصالـحُ الأمة الكبرى على كل مصلحة فرعية، وأن تُسمَعَ نداءاتُ الحق والعدل، ومبادرات الحزم والعقل؛ بأن تطرحَ الخلافات، وتتوحَّدَ في وجه الأزمات، قال تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ". آل عمران: 103.
        ألا وإنه لن يتحرر الأقصى الشامخ إلا برجال يخافون الله ويتقونه، ويطيعونه ولا يعصونه، يرقبون الله عز وجل، ولا يرقبون غيره من البشر، رجال كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصلاح الدين الأيوبي رحمه الله، أولئك هم الفرسان الأبطال الفاتحين.
     ولكننا نؤمن أنّ الله سبحانه وتعالى ليس في أفعاله تعالى شرّ محض بل لا بدّ أن يكون فيما يحدث خير بوجه من الوجوه كما هو معتقد أهل السنة والجماعة، فهذه الأحداث على أرض فلسطين والمظاهرات والمسيرات في شوارع المدن العالم مظاهر إيجابية تبشّر بمستقبل مشرق ونصر قادم بإذن الله، إنها عودة قاعدة الجسد الواحد إلى جموع هذه الأمة وبوادر التطبيق العملي للصورة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر". حديث صحيح.
    للهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمعهم كلمتهم على الحق والدين، اللهم أحقن دماءهم وآمنهم في ديارهم، وأرغد عيشهم، واكبت عدوهم. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، اللهم هيئ لإخواننا في فلسطين نصرا عزيزا تعز به أهل طاعتك، وتذل به أهل معصيتك ولا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، اللهم وانصرنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، وانصرنا على أعدائنا حتى نسعد بظهور دينك، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق