الموضوع: رمضان شهر الرحمة.. وفلسطين تنزف.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي عم برحمته جميع العباد وخص أهل
طاعته بالهداية إلى سبيل الرشاد ووفقهم بلطفه لبلوغ شهر رمضان ففازوا ببلوغ المراد،
أحمد حمد معترف بجزيل الإرفاد وأعوذ به من وبيل الطرد والإبعاد، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له شهادة ادّخرها ليوم المعاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
أبان طريق الهدى والسداد وقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله
وأصحابه الأجواد صلاة وسلاماً نبلغ بها الأمل والمراد..
رمضـان أقبلَ قم بنـا يا صاح هـذا أوان
تبـتُّـلٍ وصلاح
الكونُ مِعطـارٌ بطيـب قدومه رَوحٌ وريحـانٌ ونفـحُ أقاحـي
واغنم ثوابَ صيـامِه وقيـامِه تسعـد بخيـرٍ دائـمٍ وفلاح
الكونُ مِعطـارٌ بطيـب قدومه رَوحٌ وريحـانٌ ونفـحُ أقاحـي
واغنم ثوابَ صيـامِه وقيـامِه تسعـد بخيـرٍ دائـمٍ وفلاح
أما بعد، أيُّها
المسلمون: ونحن في أيّام رمضان الأولى نهنِّئُ أنفسنا والمسلمين ببلوغِ رمَضانَ،
جعَلَه الله مبَاركًا على أمَّةِ الإسلام، وأهلَّه الله علينا بالأمنِ والإيمان
والسلامَةِ والإسلام والعِزِّ والنَّصرِ للمسلمين.
وأوصيكم ونفسي
بتقوى الله، لاسيَّما ونحن نعيش هذا الموسم الذي هو من أجلِّ مواسم التقوى، فجوهرُ
الصيام وفحواه، ولُبُّه ومغزاه تحقيقُ
تقوى الإله جلَّ في عُلاه ـ يقول سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". البقرة: 183
فيا أيها الإنسان بادِر إلى التُّقَى *
وسارِع إلى الخيراتِ ما دُمتَ مُمهَلُ
فما أحسنَ التقوى وأهدَى سبيلَها* بها يرفعُ
الإنسانُ ما كان يعملُ
أيها المسلمون
الصائمون: ها أنتم تعيشون هذه الأيام المباركة من أيام شهر رمضان في خير وصحة وأمن
وسؤدد، فاحمدوا الله الذي بلغكم وفي أعماركم أمْدَدْ.
شهر رمضان شهر
كريم وموسم عظيم، يحمل خيراتٍ كبيرة وبركات كثيرة ونعم وفيرة، فيه مضاعفة للحسنات وتكفير
للسيئات وإقالة للعثرات، مخصوصٌ بأسمى الصفات وأزكى الدرجات، إنه شهر رمضان شهر
الهبات والأعطيات شهر الانتصارات والفتوحات.
ألا وإن بلوغ
هذا الشهر نعمة عظمى وإدراكه منة كبرى تستوجب الشكر وتقتضي اغتنام الفرص بما يكون
سبباً للفوز بدار القرار والنجاة من النار، يقول الله العزيز الغفار:
"يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
أيها
المؤمنون: وبرؤيةٍ مقاصديَّة في تنزيل مقاصِد الشريعة على أحكام الصيام وحِكَمه
يُدرِك المُكلَّفون أن الصيام إنما شُرِع لمقاصِد عُظمى وأحكامٍ جُلَّى، بها
يُجدِّد المُسلمُ شِيَمَه التعبُّديَّة المحمودة، ويُعاوِدُ انبِعاثتَه في صفات الخير
المعهودة، فيترقَّى في درجات الإيمان وينعمُ بصفات أهل البرِّ والإحسان؛ حيث لم
يقِف الشارعُ الحكيمُ عند مظاهر الصوم وصُوره من تحريم تناوُل المُباحات والطيبات فحسب؛
بل عمِدَ إلى سمُوِّ الروح ورُقِيِّ النفس وحفظِها وتزكيةِ الجوارِح والصعود بها
من الدَّرَكِ الماديِّ إلى آفاق السمُوِّ الروحيِّ والعلوِّ الإيمانيِّ
والقِيَميِّ.
وما
أحوج الأمة إلى شهر الصيام وهو يجمع الكلمة الواحدة ويوحِّد الصفوف ويؤلِّف،
يَفطِر أهل كل قطر في زمان واحد، إنه مذكر بوحدة المسلمين ودعوة إلى تآخيهم
وتوادهم وشيوع المحبة بينهم، "إنما المؤمنون إخوة". "مثل المؤمنين
في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
بالسهر والحمى".
روى البخاري رحمه الله، عن عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود
ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه
القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".
تأملوا معي ـ أيها المسلمون ـ: قوله:
"أجود بالخير من الريح المرسلة"،
الريح المرسلة، المعنى: المطلقة، يعني أنه في الإسراع
بالجود أسرع من الريح المرسلة التي أمرها الله وأرسلها فهي عاصفة سريعة، ومع ذلك
فالرسول عليه الصلاة والسلام أسرع بالخير في رمضان من هذه الريح المرسلة، وعبر
بالمرسلة: إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده، كما تعمّ الريح
المرسلة جميع ما تَهُبُّ عليه..
نعم - أيُّها
الإخوة - لقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعْلم ما رمضان وما فضل العمل فيه،
ومِن هنا فقد كان يضاعف فيه جوده، وهو من هو، هو محمدٌ رسول الله أفضل خَلْق الله
وأتقى عباد الله، غفر الله له ما تَقَدَّم مِنَ الذُّنوب وما تَأَخَّر، ومع ذلك
يضاعف الجود في رمضان ويسارع إلى الخير ويغتنم فضيلة الوقت وشرف الزَّمان..
فالإضاءة المشرقة
في هذا الحديث الشريف: الحثّ على الجود في كل وقت، وخاصة في هذا الشهر المبارك شهر
رمضان.. وكذلك كان هدي سلف الأمة رضوان الله عليهم فقد كان كثير منهم يواسون من
إفطارهم، ويؤثرون ويطوون.
فقد كان ابن عمر
رضي الله عنه وعن أبيه يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم لم
يتعشَّ تلك الليلة، وكان إذا جاءهُ السائل وهو على الطعام أخذ نصيبهُ من الطعام
وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائمًا ولم يأكل
شيئًا.
واشتهى بعض
الصالحين طعامًا وكان صائمًا فوُضع بين يديه وهو صائمٌ، فسمع قائلاً يقول: من
يقرضُ المليء الوفيَّ؟ فقال: عبدُه المُعدَمُ من الحسنات وأخذ الصحفة فخرج بها
إليه وبات طاويًا.
وجاء سائلٌ إلى
الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يعدُّهما لفطره ثم طوى وأصبح صائمًا. وكان الحسن
يُطعمُ إخوانه وهو صائمٌ، ويجلسُ يروِّحُهمُ وهمُ يأكلون.
أيها المسلمون: إن
في الصيام مظهر تسوية بين الغني والفقير ويقضة للضمير الإنساني الأخوي بما يقاسيه
أنضاء الحرمان وتعساء الإنسانية من عنت وبؤس وشقاء في هذه الحياة.
دخل على بِشْرٍ الحافي أحد أصدقائه في يوم شديد البرد وقد تعرَّى من الثياب،
فقال له: يا أبا نصر إن الناس ليزيدون الثياب في مثل هذا اليوم وأنت تتعرى؟. فقال:
ذكرت الفقراء وما هم فيه، ولم يكن لي ما أواسيهم به فأردت أن أشاركهم في مُقاساتِ
البرد..
إن يقضة الضمير
هذه ـ عباد الله ـ هي التي يريد أن يحييها الصيام فينا لو كنتم تعقلون، فشُدّوا
العزائم وتنافسوا في الخيرات، واحمدوا الله أن بلّغكم هذا الشهر، فكم من مؤمّلٍ
ذلك خانه الأمل، فأضحى بين القبور.
فكونوا على أثر السابقين الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتهم
وأسوتهم في كل شيء، لقد كانت بيوتهم مفتوحة للطعام، ومساجدهم عامرة بالعبادة
وجلسات العلم وحلقات الذكر وتلاوة القرآن. ورحم الله الحسن البصري حيث قال:
"إن الله تعالى جعل رمضان
مضمارا لخلقه يتسابقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون
فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه
المبطلون".
فاتقوا الله
عباد الله، وعظموا هذا الشهر المبارك، بالصيام والقيام والتنافس في صالح الأعمال.
فقد جاء في الحديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في حديث طويل أنه قال:
"فاستكثروا فيه ـ أي في رمضان ـ من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم،
وخصلتين لا غناء لكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم، فشهادة أن لا
إله إلا الله والإستغفار. وأما الخصلتان اللتان لا غناء لكم عنهما فتسألون الله
الجنة،وتستعيذون به من النار ". رواه ابن خزيمة.
فأروا الله من أنفسكم
خيرا في هذا الشهر المبارك، فإن لله فيه نفحات، من حُرمها حُرم خيرا كثيرا .
اللهم اجعلنا في هذا الشهر من المحسنين الرابحين، واجعل مواسم
الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما
برحمتك يا أرحم الراحمين..
أقول قولي هذا،
وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام ووفقنا لإدراك شهر
الصيام والقيام، أحمده سبحانه وله الحمد في البدء والختام والصلاة والسلام على خير
من صلى وصام وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد، أمة الإسلام
أمة الصيام والقيام: ها هي نعم الله جل وعلا علينا تتابع، وإحسانه لنا يكثر حيناً
بعد حين، وكل يوم نحن من نعمه في مزيد، فما تأتي نعمة إلا وتلحقها أخرى، موائدنا
منصوبة، وجمعنا مشتمل في رمضان ولكن إن قلوبَ المُسلمين لتعتصر وهم يعيشُون أيام
هذا الشهر الغُرِّ، وليالِيَه المُبارَكة الزُّهر، لما يجرِي في عددٍ من بلاد
المُسلمين من سفكٍ للدماء، وصِراعاتٍ سياسية هنا وهناك، وما يجرِي في الأرض
المُبارَكة فلسطين والأقصَى حيث يذبح النظام الإسرائيلي العديد من الفلسطينيين بدم
بارد، في الوقت الذي يحتفل فيه "ترامب" بنقل سفارته غير الشرعي، ويتحرك
المتعاونون معه من العرب لصرف الانتباه عن جرائم إسرائيل التي ترتكبها في وضح
النهار وتحت سمع العالم وبصره، لا تقيم وزنا لكل الشرائع والمواثيق والأعراف
الدولية، حشدت قواها، وجمعت آلياتها، لم تراع شيخا كبيرا ولا طفلا صغيرا..
نفسي تذوب أسى والقلب يجرحه * مما عدا
ببــلاد الشام أرزاء
فأين مسرى رسول الله وقد وطـئت *به اليهود.
فهل للحق أبناء؟
نعم.. إن العين
لتدمع وإن القلب ليحزن على ما يحدث هذه الأيام من غزو مسلح على إخواننا في فلسطين،
من تدمير لبلادهم وسفك لدمائهم، وقبل ذلك وبعده ما يحدث من حرب لدينهم وعقيدتهم.
إن هذا لأمرٌ تتصدّع من هوله القلوب وتنفطر منه الأفئدة الحية، وسطَ تخاذلٍ
مؤسفٍ من أمة قوامها مليار، بل يزيدون.
تقرّحت
أكباد الصالحين كمدا مما يجري هناك، مناظر مفزعة متتوالية، وعربدة صهيونية غادرة،
قتلٌ بطريقة وحشية، مسلسلاتٌ من الرّعب، مناظر حفرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل
في قلب كل مسلم، ملامح سطّرتها أشلاء الرجال بألوان الدم القاني وجماجم الشهداء.
وفي المحـيا سـؤال حـــائر قلـق * أين
الفــداء وأين الحب في الديـــن؟
أين الرجــولة والأحــــداث دامـية * أين
الفتـوح على أيـدي الميـامـــين؟
ألا نفــوس إلى العــليـاء نافـــــرة *
تــواقـة لجنـــان الحـــور والعـــيـــن
يا غيرتي أين أنت؟ أين معــذرتي؟* ما بال
صوت المآسي ليس يشجيني
أين اختفت عزّة الإسلام من خلدي* مـا بالها
لم تعـد تغـذ شراييــــني؟
إخوة الإيمان والإسلام، حين نتحدث عن فلسطينَ والأقصى نجدُ
أنفسَنا أمامَ مأساةٍ تعجَزُ الكلماتُ عن وصفِها، اختلطَتْ فيها العَبَراتُ بالعِبارات.
عمَّ نتحدّث؟ نتحدث عن شعبٍ أعزلٍ يواجِهُ مجزرةً جماعيّةً
بَشِعة، أم عن صَمْتٍ دُوَليّ، أم عن تواطُىءٍ وتَقاعُس، أم عنِ انقسامٍ داخِليٍّ!
إن المؤامرةَ أصبحتْ حقيقةً واقعةً ظاهرةً للعيان، تتسارعُ
خطُواتها يومًا بعد يوم، ومعَ ذلك نعلمُ يقينًا أن قضيةَ فلسطين لن تُنسى؛ لأنها
في قلبِ كلِّ مسلم.
أرفع الشكوى إلى الله، وأقول: اللهم إنّ هؤلاء
الصهاينة أهلكوا الحرث والنسل، وأفسدوا في الأرض أيما إفساد، اللهم فشلّ أركانهم،
ودمر كيانهم، واجعل الدائرة عليهم. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك
والمشركين، اللهم هيئ لإخواننا في فلسطين، وفي كل مكان، نصرا عزيزا تعز به أهل
طاعتك، وتذل به أهل معصيتك. ولا تجعل ـ
اللهم ـ للكافرين على المؤمنين سبيلا.
اللهم واجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات
والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما، وتقبل منا الصيام والقيام، واحشرنا في زمرة
خير الأنام، واجعل هذا الشهر شاهداً لنا وحجة لنا لا حجة علينا، اللهم إن كان في
سابق علمك أن تجمعنا في مثله فأحسِن عملنا فيه، وإن قضيت بقطع آجالنا فأحسِن الخلافة
على باقينا، وأوسع الرحمة على ماضينا، وعمّنا برحمتك وغفرانك، واجعل الموعِدَ
بحبوح جنتك ورضوانك. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،
وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق