13 يونيو 2018

الموضوع:  بأي حال عدت يا عيد؟.

الخطبة الأولى

      الله أكبر - 6  مرات- الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله تحصل الدرجات، وبكرمه تبدل الخطيئات، الحمد لله على تمام الشهر وكمال الفضل، فالفضل لك وحدك لا شريك لك يا ألله؛ فتقبل منا وأعفُ عنا وتجاوز عن تقصيرنا وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها.
إنه العيدُ جاءَ ضيفًا عزيزًا * فاكتُبُوا بالمِدادِ فيضَ التهاني
كبّرُوا اللهَ، عَلَّ تكبيرةَ العيدِ* تَضَخُّ الضميرَ في الشريانِ
     ها هي صفحات الأيام تُطوَى، وساعات الزمن تنقضِي. بالأمس القريب استقبلنا حبيبا واليوم نودعه، ولئن فاخرتِ الأمم مَن حولنا بأيامها وأعيادها فإنما هي تضرب في تيهٍ وتسعى في ضلال، ويبقى الحق والهدى طريق أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فالحمد لله الذي هدى أمة الإسلام سبيلها وألهمها رشدها، وخصها بفضلٍ لم يكن لمن قبلها.
      أطلِق بصرَك لترى هذه الأمة المرحومة مع إشراقة هذا اليوم تتعبّدُ الله - عز وجل – بالفطر، كما تعبّدته من قبل بالصيام، فلله الحمد والمنة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام..
     أما بعد، فيا معاشر المسلمين: إن يومكم هذا يومٌ عظيمٌ، وعيدٌ كريمٌ، إنه يومُ شكرٍ لله على إكمال عدة رمضان، ويوم ذكرٍ لله على أن هدانا للإيمان، قال تعالى: "ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون". البقرة: 18.
    هذا يومٌ يوفي الصابرون فيه أجورهم بأحسن ما كانوا يعملون، ويُكْرِم اللهُ فيه عباده بالفضل العظيم على ما كانوا يصنعون. عن أبي سعيد بن أوسٍ الأنصاري عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق، فنادوا: أغدوا معشر المسلمين إلى ربٍّ كريم، يَمُنُّ بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا، نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة". رواه الطبراني في المعجم الكبير.
     فبشرى لكم – أيها الصائمون – إيمانا واحتسابا، عاقبةٌ حميدةٌ وقدومٌ على الله مفرح. قال صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه". رواه البخاري. فيا ربَّنا قد أذقتنا فرحة الفطر وتفضّلت علينا بالصيام، فجد علينا وتفضل بمحبة لقائك والفرح برؤيتك .
   أيها المسلمون: العيد في الإسلام هو اليومُ الذي يعودُ ويَفرح به المسلمون، فها هو العيد قد عاد، فينبغي للمسلمين أن يفرحوا؛ لأنَّهم أدَّوْا ما عليهم من طاعة لله ربِّ العالمين، فهنيئًا لكم بهذا اليوم المبارك، هنيئًا لكم بحلول هذا العيد السعيد، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن السعادة في العيد لا تكمن في المظاهر والشكليات، وإنما تتجسد في المعنويات وعمل الصالحات، ويومكم هذا يومٌ أنور أزهر ويومٌ محجَّلٌ أغر. فالله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أ كبر، ولله الحمد..  
    فاشكروا الله على ما من به عليكم من إكمال شهر الصيام، واسألوه أن يتقبل منكم ما قدمتموه فيه من الصيام والقيام، واذكروا في يوم عيدكم نعمة الله عليكم مما تنعمون به من حلول العيد المبارك في أمن وأمان وصحة وخير وسلام وإيمان، فهذه النعم سلبها كثير من الناس. فاستقيموا على الطاعة، وتزودوا من العبادة، وابذلوا المعروف، وقوموا بأوامر الدين، وساهموا في بناء مجتمعكم وأمتكم ونشر الخير والأمن والمحبة والتآلف فيما بينكم، تسعدوا في دنياكم وأخراكم .. الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أ كبر، ولله الحمد..
    عباد الله: إن الذاكرةَ ملكةٌ مستبدة، قد تفرض على المرء أمورًا لم يكن يريدها ولا يريد أن يريدها. فلَست أدري وأنا أعدّ خطبة العيد لماذا يُدَوي في مسمعي دَويَّ الطبل قول أبى الطيب المتنبي وقد ترك مصر في مثل هذا اليوم، وهو يُنشد:
عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ  * بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيه تجْديدُ
    فقلت لعل أبا الطيب المتبني عندما كتب هذه القصيدة كان يدرك ما سيحدث في الأمة العربية من أزمات، ونكبات تضعفها وترهقها، فهذه (العراق وسوريا وليبيا واليمن)، وغيرها من الدول التي يعيش أهلها أحداثا جميعها تفوح برائحة الدم والدمار والقتل. وتلك دولٌ أخرى يحيا أهلها على فتن كالنار تحت الدخان، والله المستعان.
     في يوم العيد نقلب أنظارنا في حال الأمة يمنة ويسرة، وجراحات المسلمين ضاربة أطنابها شرقاً وغرباً، فنذكر قصيدة المعتمد بن عباد (1040 – 1095)  ملك أشبيلية في الأندلس الذي أسره يوسف بن تاشفين أمير المرابطين وحبسه في منطقة أغْماتَ بالقرب من مدينة مراكش بالمغرب، ومنع عنه أي عطاء، حتى اضطرت بناته أن يغزلن الصوف ليوفّرن له ولأنفسهن القوت، فلما رأى بناته بعد أن أتين لزيارته حافياتٍ وكسيراتٍ فقيراتٍ في أول عيد يأتي عليه وهو سجين، أنشد هذه القصيدة التي تفيض أسى وحزناً، وكأنه اختزل لنا هذه الحال في تلك، فقال:    
فيمـا مضى كنت بالأعياد مسروراً * فساءك العيد في أغمات مأسورا
تــرى بناتك في الأطمـار جائعة * يغزلن للناس ما يملكـن قطميرا
يـطأن في الطين والأقــدامُ حافـيةٌ * كأنها لم تطأ مسكـا وكافورا
   نعم للأسف.. إن إخواناً لنا في العالم الإسلامي بناتهم ونساؤهم "يطأن في الطين والأقــدام حافـية"، والرجال أهلكتهم الحروب وأرَّقتهم الخطوب، وأقلقتهم الفتن؛ أُرِيقت فيهم الدماء ونُهبت الأموال ودمّرت البلاد. كم عمَّ في كثير من البلاد الإسلامية من فتن وضلالات، فرَّقت الأمة ودمَّرت البلاد، دمروا بلادهم بأيديهم قبل أيدي أعدائهم، وفسحوا المجال لتدخل الأعداء في شئونهم، فتن فرّقت القلوب ومزّقت الشمل. وتناسينا فلسطين الجريحة.
كانت فلسطين موالاً لأمتـنا * ما بالها لم تعد للناس موالا
تعددت يا بني قومي مصائبنا * فأقفلت بابنا المفتوح أقفـالا
كنا نعالج جرحاً واحدا فغدت * جراحنا اليوم ألوانا وأشكالا
      أيها المسلمون: الوضع خطير والجرم كبير والفساد عريض، فتنٌ أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "فتنٌ يرقق بعضها بعضاً"، ما تأتي فتنة عظيمة إلا ويعقبها ما هو أعظم وأشد منها، كل ذلك بأسباب ذنوب العباد وإعراضهم عن شرع الله وانخداعهم بآراء أعداء الله المندسين بين صفوفهم المريدين تدميرهم من حيث لا يشعرون، نسأل الله أن يثبتنا على دينه وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهديَ الجميع إلى صراطه المستقيم.
    فاحمدوا الله على ما أنتم فيه من نعمةٍ وخير ولا تنسوهم من دعوات صالحة بأن يؤلف الله بين قلوبهم ويصلح حالهم ويؤمّنهم في أوطانِهم وأن يصلح أئمتهم وولاة أمورهم وأن يوفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.
     ألا وتذكروا ـ رحمكم الله ـ أيضا إخواناً لكم أقعدهم المرض في البيوت، أو همُ في المستشفيات على الأسِرَّة البيضاء يرقدون، منهم من أمضى الشهور الطويلة، لا يغمَض لهم جفن ولا يهدأ لهم بال، فهم في آلامٍ متعبة وأوجاعٍ مؤلمة، فلا تنسوهم من دعوة صالحة، أن يشفي الله مريضهم، ويزيل بأسهم، ويفرج همَّهم، ويكشف كربتهم.
     أيها المسلمون: إذا كانت أيام العيد مِدعاةٌ للفرح بفضل الله تبارك وتعالى، فإنما هي في الوقت نفسه أيام تتجلى فيها ظاهرة المساواة والحس الإجتماعي في الأمة الإسلامية، فالذين لفّهم ذلك الإطار النوراني إمساكا عن الطعام والشراب من الفجر إلى الغروب خلال شهر رمضان، هم الذين يشاركون بعضهم البعض الفرحة بهذه الشرعة المباركة. فما العيد في نظر الإسلام إلا لمسة حنان ورحمة، يمنحها المسلم فيمسح بها الدموع من العيون، ويزيح الكآبة من النفوس، ومن أولى بالمسلمين بأن يكونوا متضامنين متعاونين متحابين، ونبيهم صلى الله عليه وسلم يقول: "والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، افشوا السلام بينكم تحابوا".؟ رواه أبو داود وغيره.
    فعلينا أيها المؤمنون أن نصفي أنفسنا ونطهر قلوبنا من الحقد والغِلِّ والحسد، فإن أناساً بلغوا أعلى المنازل لا بكثرة صلاة وصيام وقيام، وإنما بصفاء صدورهم، وسلامة قلوبهم. قال سفيان بن دينار: قلت لأبي بشير: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟، قال: كانوا يعملون قليلا ويؤجرون كثيرا. قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم.
فاللهم إنا نسألك صدورا سليمة، وقلوبا طاهرة نقية، واجعل لنا مواسم الخيرات مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات إلى رحمة الله طريقا وسلما، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..
الخطبة الثانية

     الله أكبر -6- الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. الحمد لله الذي علا بحوله، خلق فسوّى وقدّر فهدى، سهّل لعباده طرق العبادة ويسّر، وتابع لهم مواسم الخيرات لتزدان أوقاتهم بالطاعات. أنعم علينا بتيسير الصيام والقيام، وجعل ثواب من فعل ذلك تكفير الخطايا والآثام، ودخول الجنة دار السلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحـده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأوليــن والآخرين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أ كبر، ولله الحمد..
    أما بعد، فيا أيها المسلمون: هذا يوم مبارك، جمعكم الله فيه على طهارة وتقوى، تودّعون شهر رمضان الذي انصرم وصعد إلى ربه ومعه صحائف أعمالنا، وسوف نحاسب عليها، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشرّ.  والله تبارك وتعالى إذا قبل عمل العبد وفّقه للعمل الصالح بعده، فقد قيل: "ثواب الحسنة الحسنة بعدها"، فمن عمل حسنة ثم أتبعها سيئة، كان ذلك دليلا على عدم قبولها، لقد سئل بعض الصالحين عن رأيه فيمن يعبدون الله في رمضان ثم يعودون بعده إلى العصيان؟، فقال: "هم بئس القوم، لا يعرفون الله حقا إلا في رمضان".
    فيا رعاكـم الله: تابعوا فعل الحسنات، يمح الله لكم بهنّ الخطيئات، قال تعالى: "وإني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى".  طه:82. الله أكبر.
     وقد آن لكم أن ترجعوا راشدين إلى بيوتكم على غير الطريق التي أتيتم منها، فاعلموا أنكم في الدين إخوة، فحققوا هذه الإخوة بالتآلف والتحابّ بينكم. فتصافحوا وتزاوروا وتبادلوا التهاني، وليسلم بعضكم على بعض، فالسلام يغرس المحبة والألفة، والهجر يوجب البغضاء والوحشة، وتذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا هجرة فوق ثلاث، فمن هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار". رواه الإمام أحمد. وليست المحبة قولا باللسان، ولا تعبيرا بالأركان، وإنما هي ميل القلب واطمئنانه إلى الأخ المسلم، فلتتصافحِ القلوب قبل أن تتصافح الأيدي، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين. الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أ كبر، ولله الحمد..
  هنيئاً لكم، ومبارك عليكم عيدكم، ووصيتي لنفسي ولكم: استمرار عبوديتنا لله وطاعتنا له وتقوانا وخشيتنا، حتى يُختمَ لنا بالخير والإيمان، ونسعد في الدنيا والآخرة، وكل عام وأنتم بخير، والأمةُ الإسلاميةُ في عزة ورفعة وتأييد ..
  اللهم تقبل منا الصيام والقيام، واحشرنا في زمرة خير الأنام. اللهم اجعل شهرنا شاهدا لنا بأداء فرضك، ولا تجعلنا ممن جد واجتهد ولم يرضك، اللهم ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك ونسأل تمامها في الأشياء كلها، والشكر لك عليها حتى ترضى وبعد الرضا. اللهم أعد علينا من بركات هذا اليوم وأعد أمثاله علينا ونحن نتمتع بالإيمان والأمن والعافية، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم وانصر المسلمين في كل مكان واجعلهم في الخير متعاونين، وأيّد بروح منك إخواننا في فلسطين وأهلك عدوهم واستخلفهم في أرضهم وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا إنك على كل شيء قدير، اللهم فرج هم المهمومين ونفس كرب المكروبين وأقض الدين عن المدينين ويسر أمور المسلمين أجمعين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد وعبادك الصالحين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، اللهم واحفظ بناتنا ونساءنا وقهن التبرج والسفور وثبتهن على الهدى والطريق المستقيم. اللهم ارحم المنكوبين والجوعى والخائفين والمظلومين، اللهم واغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا، برحمتك يا أرحم الراحمين. وارحمنا اللهم برحمتك إذا صرنا إلى ما صاروا إليه. اللهم واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين. 

06 يونيو 2018


الموضوع: نفحات رمضان أوشكت على الوداع

الخطبة الأولى
       الحمد لله وفق من شاء لطاعته فكان سعيهم مشكورا وأجرهم موفورا، الحمد لله الذي جعل لكل حيّ في هذه الدنيا زوالا، ولكل مقيم انتقالا. ليَعتبِر أهل الإيمان فيبادروا بالأعمال الصالحات في زمن الإمهال، ولا يغترّوا بطول الأعمار والآمال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العظيم في قدره، المتعال فوق خلقه، الكريم في عطائه وفضله. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل في سنته: "بادروا بالأعمال"، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم المآل.
      أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، وتفكروا في سرعة مرور الليالي والأيام، واعلموا أنها تَنقص من أعماركم، وتُطوَى بها صحائف أعمالكم، فبادروا بالتوبة الصادقة، والأعمال الصالحة قبل أن يتخطّفكم المنون، فتندمون على ما أعطاكم الله من الفرص السانحة.
       فها هو شهر رمضان قرُب رحيله وأزفّ تحويله، وإنه شاهد لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فمن أودعه عملا صالحا فليحمد الله على ذلك، وليبشَّر بحسن الثواب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن أودعه عملا سيّئا، فليتب إلى الله توبة نصوحا، فإن الله يتوب على من تاب، قال تعالى: "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى". طه:82.
   عباد الله: وقد أطلّت علينا خير ليالي شهر الخير، إيذانا بختام شهر رمضان المبارك، ليال تستحثّ همم المتقين وتشدّ من عزم العابدين، ليال طالما تحدث عنها الخطباء وأطنب في ذكرها الوعَّاظ وأفاض الناصحون بذكر فضائلها. ليال خصها الرسول صلى الله عليه وسلم بمزيد من الاجتهاد في العبادة وكان له هدي وسنة في احيائها، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يجتهد في العشر الاواخر ما لا يجتهد في غيره". .
    ألا وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى: ليلة القدر "وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْر". القدر:2. من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. منّةٌ ومنحةٌ لهذه الأمة التي يريد الله بها خيراً بتكرار مواسم الخير لها، عن عائِشة رضي الله عنها أَنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ". . تَحَرَّوا" أي اطلبوا وابحثوا، وفي رواية: "التمسوا"، وفي أخرى: "تَحَيَّنُوا ليلة القَدر" أي: اطْلُبُوا حِينَها، وفي قوله: "تحرّوا ـ التمسوا ـ تحيّنوا"، دليل على إخفاء ليلة القدر؛ لأن الشيء البيِّن لا يحتاج إلى الْتِماس وتَحَرٍّ. قال الله تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ  (۱) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ (٢) لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (۳)تَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ (٥)". سورة القدر.
    ولقد صحّ في الحديث عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت للنبي صلة الله عليه وسلم: أَرَأَيتَ إِنْ وَافَقتُ لَيلَةَ القَدرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قَولي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عَنِّي". رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ.
نعم-أيها المباركون-هذه ليال فيها ليلة لا تشبه ليالي الدهر، إنها ليلة في هذه العشر، فاطلبوها وتحروها والتمسوها وتحينوا وقتها-رحمكم الله-بجدٍّ وإخلاص، قال الإمام النووي رحمه الله: "ويستحبّ أن يكثر فيها من الدعوات بمهمّات المسلمين، فهذا شعار الصالحين وعباد الله العارفين" ا.ه. فاسألوا الله فيها لنا ولكم ولمسلمين أجمعين الغنيمة من البرِّ والخيرات والسلامة من الآفات.
    هذا واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الله شرع الله لكم في ختام شهركم عبادات تزيدكم من الله قربا، وتزيد في إيمانكم وفي سجل أعمالكم حسنات، فشرع لكم زكاة الفطر، روى البخاري ـ رحمه الله ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنـهما قال: "فرض رسـول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تـمر علـى الصـغير والـكـبـير والعـبد والمـمـلوك". ورُوى كذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا نخرج في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر: صاعا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب و الإقط".
    أيها المسلمون: فزكاة الفطر واجبة على الحر القادر عليها وقت الوجوب عن نفسه وعن كل من تلزمه نفقته، وزَمنُ وجوبها غروب الشمس آخر يوم من رمضان، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، كما يجوز إخراج القيمة نقدا. وقد قدرت هذا العام (1439 ه) بمائة وعشرين دينار جزائري.(120دج) تدفع للمسلم الفقير أو المسكين. فأخرجوها طيبة بها نفوسكم، وأقرضوا الله قرضا حسنا، قال صلى الله عليه وسلم: "صوم شـهـر رمضان معلّق بين السماء والأرض، فلا يرفع إلا بزكاة الفـطـر". رواه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب.
   فهذا شهرِ الخير والعطاء والفضلِ والبركة والجودِ والإحسان، وإننا جميعا نعلم أنه فرصةٌ لا تُعوَّضُ، وقد لا تتكرَّرُ لكثيرٍ من الناس، فرصَة لا تعوَّضُ للتوبة إلى الله جلّ وعلا، والإنابةِ إليه والإقبالِ إلى طاعته، والنَّدَمِ على التفريطِ في جَنبِ الله.
يا غافلا وليالي الصوم قد ذهبت * زادت خطاياك قف بالباب وابكيها
واغنم بقية هذا الشـهر تحظ، فما * غرسـته من ثمار الخــير تجنــيها
وتب لعلك تحـظ بالقــبول عسى * أن تبلغ النـفسُ بالتــقوى أمانـــيها
وقل إلهي أنا العــبد الذليل وقد * أتيـت أرجو أجــــورا فاز راجـــــــــــيها
فلا تكـــــلني إلى علـــــمي ولا عملي *   واغفر ذنــــــــوبي فإني غــارق فيها
   أيها المسلمون: إن شهر رمضان هو شهر الطاعات بكل أنواعها، صيام وقيام جود وقرآن وصلوات وإحسان وتهجد وتراويح وأذكار وتسابيح، وبلوغه نعمة كبرى يقدّرها الصالحون المشمّرون، فانظروا ما ذا أودعتم فيه من الأعمال، فمن أودعه عملاً صالحاً فليحمد الله على ذلك وليبشّر بِحسنِ الثواب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن أودعه عملاً سيئاً فليتب إلى ربِّه توبة نصوحاً فإن الله يتوب على من تاب.. وفقني الله وإياكم لذلك، وتقبل صيامنا وقيامنا، ومتّعنا بعيد سعيد، وعمر في الخير مديد، والحمد لله رب العالمين .

الخطبة الثانية

  الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
فيا شهر الصيام فدَتْك نفسـي * تمهـّل بالرحيل والإنتـقال
فما أدري إذا مـــــا الحـــول ولّـى * وعدت بقابل في خير حال
أتلقـاني مـع الأحـــــــــــيـاء حيًا * أو أنك تلقني في اللحد بالي
     ها هي ــ عباد الله ـ نفحات الخير توشك على الوداع، ويشتدّ سباق المشتاقين للعتق من النيران، وترتفع أيديهم بالدعاء، وصوت أنينهم يعلو، ولسان حالهم يقول: اللهم إنك عفوّ كريم تحب العفو فاعف عنا..
   أيها المسلمون: لعل هذه آخر جمعةٍ لكم من هذا الشهر الفضيل، فانظروا ما ذا أودعتم فيه من الأعمال، فمن أودعه عملاً صالحاً فليحمد الله على ذلك وليبشّر بِحسنِ الثواب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن أودعه عملاً سيئاً فليتب إلى ربِّه توبة نصوحاً فإن الله يتوب على من تاب، واحذروا التسويف وطول الأمل فإن الأجل أسرع، فعودوا إلى رب كريم رحيم، يغفر الذنوب ويكفر الزلات ويقيل العثرات، ويقبل التوبة ويضاعف الحسنات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر". سورة العصر.
    اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحا ومغنما، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقا وسلما، اللهم ربنا تقبل منا الصيام والقيام، واحشرنا في زمرة خير الأنام، ربنا تقبل دعاءنا، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب. اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم إنّ بإخواننا في فلسطين، وفي كثير من بلدان المسلمين من البلوى واللأواء ما لا يرفعه إلا أنت، فاللهم لا تشمت فيهم عدوك وعدوهم، وآمنهم في أوطانهم، ولا تسلط عليهم من لا يخافك يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وكن للمظلومين وليا ونصيرا برحمتك يا أرحم الرحمين. اللهم واجعل هذا الشهر شاهداً لنا وحجة لنا لا حجة علينا، اللهم إن كان في سابق علمك أن تجمعنا في مثله فأحسِن عملنا فيه، وإن قضيت بقطع آجالنا فأحسِن الخلافة على باقينا، وأوسع الرحمة على ماضينا، وعمّنا برحمتك وغفرانك، واجعل الموعِدَ بحبوح جنتك ورضوانك. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.