29 أبريل 2019


الموضوع: شهر رمضان، الحبيب الذي طال انتظاره..

الخطبة الأولى

      الحمد لله يمنُّ على عباده بمواسم الخير أفراحًا، ويدفع عنهم بلطفه أسباب الردى شرورًا وأتراحًا، أحمده تعالى وأشكره شكرًا يتجدد ويتألق غدوًا ورواحًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مبدع الكائنات أرواحًا وأشباحًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله رافع لواء الدين دعوة وإصلاحًا، والهادي إلى طريق الرشاد سعادة وفلاحًا.  صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خيار هذه الأمة تقىً وصلاحًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام مساءً وصباحًا، وسلم تسليمًا كثيرًا.
       أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-، فهي العدّة العتيدة لمن رام خيرًا وصلاحًا، ونَشَد عزًا وفلاحًا، وقَصد برًّا وتوفيقًا ونجاحًا.
    أيها المسلمون، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ". البقرة:183.  
عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذا رأى الهِلالَ قال: "اللَّهُمَّ أهلّهُ عَلَيْنَا بِاليُمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ". رواه الترمذي وحسنه، وعند الدارمي بلفظ: "اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ والإيمَانِ، والسَّلامَةِ والإسْلاَمِ، والتَّوْفِيقِ لِمَا يُحبُّ ربُّنا ويَرْضَى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ ".

      عباد الله: بهذه المعاني كان عليه الصلاة والسلام يستقبل رؤية الأهلة، وبهذا أيضا ورد أيضا أنه كان يستقبل هلال شهر رمضان، إيذانا منه للبشرية جمعاء وللمسلمين خاصة، بأن دين الله عزّ وجل إنما جاء لتطهير العقائد وتربية النفوس وصقل الأفكار الهائجة التي تمرّدت على فطرة خالقها، وسلكت دون الإسلام سبيلا، ورمضان بالمفهوم الذي في ـ استشرافه: أمن وإيمان، سلامة وإسلام، مناسبة لتجديد الولاء لمثل هذه المعاني، ومحطّة للتذكر والتذكار.
  فالواجب يملي علينا ونحن نستقبل هذا الشهر المبارك، أن نقف مرة أخرى لمراجعة ذواتنا بصدق، لأن ذلك هو الكفيل باسترجاع أمجاد زمان، وتدارك ما فات، يوم أن كانت الشمس لا تغرب على دولة الإسلام، ويوم أن كان ولي أمر المسلمين يخاطب السحاب قائلا: سيأتينا خراجك أينما كنت.. فإذا ما كان رمضان فرصة للإنتصار على شهوات النفس ورغباتها، فلننتصر نحن على أنانيتنا، ولنحقق معنى التقوى لننال العزة والإكرم.
  أيها المسلمون: إن شهر رمضان هو الحبيب الذي طال انتظاره، واستبدّ الشوق بالقلوب للقياه، وإن لقدوم الحبيب الغائب لفرحة ما أروعها من فرحة، فيا با غي الخير أبشر، ويا با غي الشر أقصر.. ولقد كان سلفنا الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان يهتمّون بشهر رمضان، ويفرحون بقدومه. وأيّ فرح أعظم من الإخبار بقرب رمضان موسم الخيرات والمغفرة وتنزل الرحمات.. ها هو ذا صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه ويبشرنا، فيقول: "أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبوب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم".  رواه النسائي والبيهقي. قال ابن رجب رحمه الله: هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضُهم بعضاً بشهر رمضان.
وكيف لا يُـبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟
وكيف لا يـبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟
وكيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟
    إنها البشارة التي عمل لها العاملون.. وشمر لها المشمّرون.. وفرح بقدومها المؤمنون .. فيا عبد الله: أين فرحتك؟ وأين شوقك؟!. 
 إذا رمضان أتى مقبلاً  * فأقبل فبالخير يستقبلُ
لعـــــــلك تخطـــــئه قابلاً  * وتأتي بعـذر فلا يقـــبلُ
    إن شهر رمضان هو شهر الطاعات بكل أنواعها، صيام وقيام جود وقرآن وصلوات وإحسان وتهجد وتراويح وأذكار وتسابيح..  وبلوغه نعمة كبرى يقدّرها الصالحون المشمّرون، وإن الواجب علينا هو استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة، وإنها لئن فاتت كانت حسرة ما بعدها حسرة، فأيّ خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بحديثه على منبره في مساءلة بينه وبين الأمين جبريل عليه السلام فقال: "من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله فقل آمين، فقلت آمين".  صحيح ابن حبان.  
       أيها المسلمون: هذا الشهر العظيم له في نفوس الصالحين بهجة، فأوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، والنفوس الطاهرة تعلو حين تغتنم الفرصة الذهبية والهدية الإلهية، فتترك كثيرا من اللذائذ وتنفطم عن كثير من الرغائب، لأن الراحة لا تنال أبدا بالراحة، ولأن سلعة الله غالية، أما عبّاد المادة وعبّاد الشهوات وأرباب الهوى فإنهم يعيشون لغرائزهم وأهوائهم، وهم الذين أخبر عنهم المولى في قوله: "ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون".
 نعم.. للأسف انعكست المفاهيم عند البعض، وأصبح استقبالهم لهذا الشهر الكريم استقبالاً واستعدادًا للمأكولات والمشروبات والمقليات والمعجنات، مبالغة في إعطاء نفوسهم ما تشتهيه، وكأنه موسم البطون، ومضمار تتنافس فيه الموائد الزاخرة بصنوف الأطعمة وألوان الأشربة، فتراهم يفزعون إلى الأسواق من كل فج عميق، يكيلون من الأطعمة ويتزودون من الكماليات، وكأن رمضان حفلة زفاف أو وليمة نجاح تبسط فيها الموائد العريضة، وتنشر الأطعمة المتنوعة، ثم ترمى في النفايات..
      فهل ترون يا إخوة الإيمان أضعف همة وأنجس بضاعة، ممن أنعم الله عليه بإدراك شهر المغفرة ثم لم يتعرض فيه للنفحات؟..
جاء شهر الخيرات بالبركات  * فأكرم به من زائرٍ هو آت
    فيا أمة الصيام ويا أمة القيام: اتقوا الله وأكرموا هذا الزائر، فإنه أحق بالإكرام، جاهدوا النفوس بالطاعات، وتقربوا إلى ربكم وابذلوا الفضل من أموالكم في البر والصلات، وجدّدوا العهد مع الله، وشدوا العزم على الاستقامة، واتقوا الله فإن تقوى الله أقوى وأقوم.
إذا هلّ الهلال على العبادة * فسارع يا أخيّ لجمع الزاد 
فإن الشــــــهر أيام ستـــــمــــضي * وتبقى حسـرة لذوي الرقـاد
    جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم شهر رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه برحمته، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم رحمة الله".
فاللهم أهله علينا بالخير والإيمان، والسلامة والإسلام، والفراغ من الشغل والسلامة من الأسقام، برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين.. هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

الخطبة الثانية
    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرا.
     أما بعد، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجه من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، أن رجلين من بُلَىٍّ (حي من قبيلة قُضَاعَة) قدِما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفّى. قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة فأذِن للذي توفّي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدّثوه الحديث، فقال: من أيّ ذلك تعجبون؟. فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدّ الرجلين اجتهاداً، ثم استُشهد، ودخل هذا الآخِرُ الجنةَ قبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض.
    أيها المسلمون: إن بلوغَ رمضانَ نعمةٌ عظيمة، وفضلٌ كبير من الله تعالى، حتى إن العبد ببلوغ رمضان وصيامه وقيامه يسبق الشهداء في سبيل الله الذين لم يدركوا رمضان.
   ألا فاقدروا لهذا الشهر قدره، وإياكم أن تفَرِّطوا في لحظاته، فضلا عن أيامه ولياليه. إياكم أن تجعلوا أيام رمضان كأيامكم العادية، بل اجعلوها غرةً بيضاءَ في جبين أيام أعماركم. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك، عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك، ويوم فطرك سواء".
      فيا عبد الله: إذا كنت قبل رمضان كسولاً عن شهود الصلوات في المساجد، فاعقِدِ العزم في رمضان على عمارة بيوت الله، عسى الله تعالى أن يوفقك لذلك حتى الممات، وإذا كنت شحيحاً بالمال فاجعل رمضان موسماً للبذل والجود، فهو شهر الجود والإحسان. وإذا كنت غافلاً عن ذكر الله تعالى فاجعل رمضان أيام ذكر ودعاء وتلاوة لكتاب ربك تعالى، فهو شهر القرآن.
أتى رمضان مزرعــــــــــة العـــــباد * لتطهـــــــــــــــــير القلوب من الفساد
فأدّ حقــــــوقه قــــــــــولا وفــــــــعــــلا * وزادك فاتّخِـــــــــــــــــذه إلى المعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها * تــــــــــــــــأوّه نادما يـــــــــوم الحصــــــــاد
      فيا أيها المسلمون ـ أروا الله من أنفسكم خيرًا، افتحوا صفحة جديدة من حياتكم، مسطرة بأحرف الخير والبر والتقوى والعمل الصالح.
      فاللهم بلغنا بمنك وكرمك شهر رمضان، اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام والفراغ من الأشغال والسلامة من الأسقام والتوفيق لما تحبه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام، واغفر اللهم لنا ما سلف وكان، من الذنوب والخطايا والعصيان، اللهم اجعله شهر عزٍّ ونصرٍ للإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا، إنك خير مسؤول وأكرم مرتجى مأمول. برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

18 أبريل 2019


الموضوع:  شهر شعبان رسولُ رمضان وسفيره..

الخطبة الأولى
     الحمد لله الذي اهتدى بهديه المتقون، أحمده سبحانه أكمل لعباده الدين فسار على نهجه الصالحون، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه، وأولئك هم المفلحون
    أما بعد: فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلملماذا تكثر الصيام في شهر شعبان؟  قال عليه الصلاة والسلام: "يا أسامة، هذا الشهر يغفل الناس عنه، ما بين رجب ورمضان، وهو شهر ترتفع فيه الأعمال إلى الله، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". رواه النّسائي.
   أيها المسلمون: ها أنتم في شهر سفيرٍ كريم بين يدَي ضيفٍ حبيب عظيم، فأكرموا سفيرَ حبيبكم، وقوموا بحقّ مبعوث ضيفِكم، إنه شهر شعبان رسولُ رمضان وسفيره، ومبعوثه إليكم وبريدُه، فمن حقّ رمضان علينا أن نصِل قريبه، وأن نكرمَ أخاه وقرينَه، ويكون ذلك بأمور يسيرةٍ لمن همُّه سعة قبره وضياؤه، وهدفه رحمة ربّه ورضاؤه. وقد بيّن صلى الله عليه وسلم إكثاره من الصيام في هذا الشهر المبارك لسببين:
    أولهما أن شهر شعبان شهرٌ يغفل الناس عنه لوقوعه بين شهرين عظيمين: شهرِ رجب وشهرِ رمضان، والأوقات التي يغفل فيها الناس عن العبادة تحسن فيها الطاعات وتعظم فيها الحسنات، فالمؤمن ينبغي له أن يزداد تشميره وحرصُه على الطاعة والعبادة والذكر حين أوقات الغفلة وفي أماكن الغفلة.
     والسبب الثاني لإكثار المصطفى من الصيام في شعبان هو أن شعبانَ شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى, فأراد أن يرفع عمله وهو صائم.
    فيا أيها المسلمون: في هذا الشهر تروى أحداث كثيرة في حياة الرسل والرسالات، فلقد ورد أن الله نجّى فيه موسى من فرعون، ونجّى فيه إبراهيم الخليل من النار، ورست فيه سفينة نوح على الجوديّ، وغير ذلك. ولقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يحتفي بهذا الشهر ويزكيّه، وهو من الشهور المفضلة عنده، لما وقع له عليه الصلاة والسلام فيه من تكريم، ولما نال فيه من تعظيم.
      ففيه حقّق الله أمنية عزيزة لنبيه صلى الله عليه وسلم وأجاب دعاءه من غير سؤال وحقق رجـاءه مـن غيـر طلب.
فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يستقبلون في صلاتهم بيت المقدس، وكان صلى الله عليه وسلم يرجو أن تكون قبلته وقبلة أمّته الكعبة المشرفة، ويحكى القرآن تشوّق النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في قوله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره". البقرة:144.
نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالمؤمنين صلاة العصر، فتحول وهو في الصـلاة من استقبال بيت المقدس، إلى استقبال البيت الحـرام. ولما علم اليهود ذلك هاجوا وماجـوا وقالوا: لوكان محمد رسولا حقا ما خالف قبلة الأنبياء قبله، وقال الكفار: رجع محمد إلى الكعبة، وعما قليل يرجع إلى ديننا، فأنزل الله تعالى: "سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل لله المشرق والمغرب، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم". البقرة:142. ثم قال جل شأنه مبينا حكمته تعالى في ذلك: "وما جعلنا القبلة التي كانت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه.". البقرة:143. فشأن المؤمن الحق أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أنزل إليه من ربه.   
     وفي هذا الشهر ـ أيضا ـ أكرم الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بمـعـجزة باهرة، حيث قال كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسـلـم: "إن كنت رسولا من عند الله حقا، فانا نطلب منك دليلا وبرهانا على أنك نبي مرسل، وعلى صدق رسالتك"، وحدّدوا هم الدليل الذي أرادوه، فقالوا: نطلب منك أن ينشق القمر فرقتين، فرقة تبقى في السماء، والأخرى تنزل على الأرض ليكون برهانا على صدقك، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة إلى السماء، فانشقّ القمر حتى رأوا جبل حراء بينهما، والناس ينظرون، فكبّر المسلمون، أما الكفار فقالوا "سحر محمد أعيننا"، فأنزل الله تعالى: "اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمرّ، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقرّ ". القمر:1ـ3. تفسير ابن كثير 6/469.
     أيها المسلمون: وفي شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة، فرض الله على المسلمين صوم رمضـان، وتـبـع هـذا فـرض زكـاة الفـطـر.
    وفي شهر شعبان أيضا. وفي السنة الخامسة للهجرة، وقعت غزوة بني المصطلق، فهزم الله بني المصطلق. وقُتل منهم من قُتل، ونصر الله المسلمين بقيادة القائد الأعظم، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أخماس الغنيمة على المقاتلين، للراجل سهم، وللفارس سهمان.
       وعلى كل حال فشهرنا هذا أيها المسلمون–شهر شعبان– له مكانـتـه بين الشـهور، فهو المقدمة لشهر القرآن والصيام، وهو شهر الدعاء والــرجـاء، والحمد والثناء لله العلي القدير، قال بعض العارفين: شهر رجَب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر السقي، وشهر رمضان شهر الحصاد، وقال: مثل شهر رجب كالرّيح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع في رجب ولم يسق في شعبان، فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟!.
    أيها المسلمون: ما أعظم نفحات هذا الشهر، وما أجدرنا أن نكثر فيه من العبادة والطاعة لله. فينبغي لكل مؤمن لبيب أن لا يغفل في هذا الشهر، ويتأهب فيه لاستقبال شهر رمضان بالتطهر من الذنوب والتوبة عما فات وسلف، فيا من تريد غنيمةَ رمضان اعمل على تحقيق شروطها من الآن.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يعيننا وإياكم على ذلك، ويبارك لنا في شعبان، وأن يبلغنا رمضان، وأن يكتب لنا فيه الرحمة والرضوان والعتقَ من النيران، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. أقول قولي هذا ..

الخطبة الثانية
   الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وأصحاب وإخوانه.
    أما بعد، عباد الله: وإن من أعظم ما يهيئ به المؤمن نفسه لرمضان في شهر شعبان ما جاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "يطَّلِعُ اللهُ إلى جميعِ خَلقِه ليلةَ النِّصفِ من شعبانَ فيغفرُ لجميعِ خلقِه إلَّا لمشركٍ أو مُشاحِنٍ" رواه الطبراني وابن حبان وهو حديث صحيح.
     والمتأمل ـ أيها المسلمون ـ لهذا الحديث يرى فيه تنبيها مهما، وهو خطورة الشحناء والبغضاء بين الناس، وأن الله لا يغفر للمتشاحنين، والشحناءحقد المسلم على أخيه المسلم بغضًا له؛ لهوى في نفسه، وهذه تمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة،
  وحريٌّ بكل مؤمن أن يبذل المستطاع، ويغتنم فرصة الحياة ليحوز على الخير ويرتقي في سلم الطاعة؛ من أجل أن يحقق لنفسه أعلى الدرجات في جنات الخلود.  ولعلكم سمعتم بعض الآثار والأقوال التي توجه الأنظار إلى ليلة النصف منه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلام طويل: "فقد روي في فضلها– أي فضل ليلة النصف– من الأحاديث والآثار ما يقتضي أنها مفضله، ومن العلماء من السلف من أنكر فضلها، وطعن في الأحاديث الواردة فيها"، وقال: "لا فرق بينها وبين غيرها من الليالي، لكن الذي عليه كثير من أهل العلم على تفضيلها". إلى آخر ما قاله رحمة الله عليه في موضوعها.
وعلى كلٍّ – يا عباد الله – فليلة النصف يحسن أن لا يسقطها المسلم من حسابه، ولا يكون فيها من الغافلين، لكن عليه أن لا يلتزم فيها بلون من العبادة مخصوص بها كصلاة بعدد معين، أو ترتيل أدعية مخصوصة، أو تلاوة سور من القرآن بعدد معين. فهذا لم ينقل عن سلف الأمة وخيارها، والمسلم الواعي الرشيد، لا يعتمد في دينه إلا ما صح النقل به عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وخاصة فيما تضاربت فيه الأقوال، واختلفت فيه الإتجاهات. جاء عن الفضيل بن عياض رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا "، إنّ العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، والخالص أن يـكــون لله، والصواب أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فاحرصوا–رحمكم الله – أن تجعلوا عباداتكم خالصة لله، موافقة لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واستغفروا الله وتوبوا إليه من جميع المعاصي والآثام، جعل الله لنا ولكم مواسم الخـيرات لنا مربحا ومغـنما وأوقات البركات والنفـحات إلى رحمـته طريقا وسلما.
     فاللهم بارك لنا في شعبان، واجعل سعينا فيه مشكورا، وذنبنا مغفورا، وعملنا صالحا مقبولا، وبلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين، واجعلنا فيه من العتقاء من النار، واغفر اللهم لنا ما سلف وكان، من الذنوب والخطايا والعصيان، إنك خير مسؤول وأكرم مرتجى مأمول، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا وأمننا وعقيدتنا من كيد الأعداء ودسائس المغرضين، وول علينا خيارنا وارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمع على الحق والهدى والصلاح كلمَتهم، وابسُط الأمنَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بَطَن، برحمتك يا أرحم الراحمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين..