الموضوع: شهر شعبان رسولُ رمضان وسفيره..
الخطبة الأولى
الحمد
لله الذي اهتدى بهديه المتقون، أحمده سبحانه أكمل لعباده الدين فسار على نهجه
الصالحون، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على
كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، اللهم صل وسلم وبارك
عليه، وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه، وأولئك هم
المفلحون.
أما بعد: فعن
أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: لماذا تكثر الصيام في شهر شعبان؟ قال عليه الصلاة
والسلام: "يا أسامة، هذا الشهر يغفل الناس عنه، ما بين رجب ورمضان، وهو شهر
ترتفع فيه الأعمال إلى الله، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". رواه النّسائي.
أيها المسلمون: ها أنتم
في شهر سفيرٍ كريم بين يدَي ضيفٍ حبيب عظيم، فأكرموا سفيرَ حبيبكم، وقوموا بحقّ
مبعوث ضيفِكم، إنه شهر شعبان رسولُ رمضان وسفيره، ومبعوثه إليكم وبريدُه، فمن حقّ
رمضان علينا أن نصِل قريبه، وأن نكرمَ أخاه وقرينَه، ويكون ذلك بأمور يسيرةٍ لمن
همُّه سعة قبره وضياؤه، وهدفه رحمة ربّه ورضاؤه. وقد بيّن صلى الله عليه وسلم
إكثاره من الصيام في هذا الشهر المبارك لسببين:
أولهما أن
شهر شعبان شهرٌ يغفل الناس عنه لوقوعه بين شهرين عظيمين: شهرِ رجب وشهرِ رمضان،
والأوقات التي يغفل فيها الناس عن العبادة تحسن فيها الطاعات وتعظم فيها الحسنات،
فالمؤمن ينبغي له أن يزداد تشميره وحرصُه على الطاعة والعبادة والذكر حين أوقات
الغفلة وفي أماكن الغفلة.
والسبب
الثاني لإكثار المصطفى من الصيام في شعبان هو أن شعبانَ شهر ترفع فيه الأعمال إلى
الله تعالى, فأراد أن يرفع عمله وهو صائم.
فيا أيها
المسلمون: في هذا الشهر تروى أحداث كثيرة في حياة الرسل والرسالات، فلقد ورد أن
الله نجّى فيه موسى من فرعون، ونجّى فيه إبراهيم الخليل من النار، ورست فيه سفينة
نوح على الجوديّ، وغير ذلك. ولقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يحتفي بهذا الشهر
ويزكيّه، وهو من الشهور المفضلة عنده، لما وقع له عليه الصلاة والسلام فيه من
تكريم، ولما نال فيه من تعظيم.
ففيه
حقّق الله أمنية عزيزة لنبيه صلى الله عليه وسلم وأجاب دعاءه من غير سؤال وحقق
رجـاءه مـن غيـر طلب.
فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم
والمسلمون يستقبلون في صلاتهم بيت المقدس، وكان صلى الله عليه وسلم يرجو أن تكون
قبلته وقبلة أمّته الكعبة المشرفة، ويحكى القرآن تشوّق النبي صلى الله عليه وسلم
إلى ذلك في قوله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينّك قبلة ترضاها
فولّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره". البقرة:144.
نزلت هذه الآية على النبي صلى الله
عليه وسلم وهو يصلي بالمؤمنين صلاة العصر، فتحول وهو في الصـلاة من استقبال بيت
المقدس، إلى استقبال البيت الحـرام. ولما علم اليهود ذلك هاجوا وماجـوا وقالوا:
لوكان محمد رسولا حقا ما خالف قبلة الأنبياء قبله، وقال الكفار: رجع محمد إلى
الكعبة، وعما قليل يرجع إلى ديننا، فأنزل الله تعالى: "سيقول السفهاء من
الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل لله المشرق والمغرب، يهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم". البقرة:142. ثم قال جل شأنه مبينا حكمته تعالى في ذلك:
"وما جعلنا القبلة التي كانت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على
عقبيه.". البقرة:143. فشأن المؤمن الحق أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم
فيما أنزل إليه من ربه.
وفي
هذا الشهر ـ أيضا ـ أكرم الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم
بمـعـجزة باهرة، حيث قال كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسـلـم: "إن كنت
رسولا من عند الله حقا، فانا نطلب منك دليلا وبرهانا على أنك نبي مرسل، وعلى صدق
رسالتك"، وحدّدوا هم الدليل الذي أرادوه، فقالوا: نطلب منك أن ينشق القمر
فرقتين، فرقة تبقى في السماء، والأخرى تنزل على الأرض ليكون برهانا على صدقك،
فأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة إلى السماء، فانشقّ القمر حتى رأوا
جبل حراء بينهما، والناس ينظرون، فكبّر المسلمون، أما الكفار فقالوا "سحر
محمد أعيننا"، فأنزل الله تعالى: "اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا
آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمرّ، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقرّ ". القمر:1ـ3.
تفسير ابن كثير 6/469.
أيها
المسلمون: وفي شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة، فرض الله على المسلمين صوم
رمضـان، وتـبـع هـذا فـرض زكـاة الفـطـر.
وفي شهر
شعبان أيضا. وفي السنة الخامسة للهجرة، وقعت غزوة بني المصطلق، فهزم الله بني
المصطلق. وقُتل منهم من قُتل، ونصر الله المسلمين بقيادة القائد الأعظم، سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أخماس
الغنيمة على المقاتلين، للراجل سهم، وللفارس سهمان.
وعلى
كل حال فشهرنا هذا أيها المسلمون–شهر شعبان– له مكانـتـه بين الشـهور، فهو المقدمة
لشهر القرآن والصيام، وهو شهر الدعاء والــرجـاء، والحمد والثناء لله العلي
القدير، قال بعض العارفين: شهر رجَب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر السقي، وشهر رمضان
شهر الحصاد، وقال: مثل شهر رجب كالرّيح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل
المطر، ومن لم يزرع في رجب ولم يسق في شعبان، فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟!.
أيها المسلمون: ما
أعظم نفحات هذا الشهر، وما أجدرنا أن نكثر فيه من العبادة والطاعة لله. فينبغي لكل
مؤمن لبيب أن لا يغفل في هذا الشهر، ويتأهب فيه لاستقبال شهر رمضان بالتطهر من
الذنوب والتوبة عما فات وسلف، فيا من تريد غنيمةَ رمضان اعمل على تحقيق شروطها من
الآن.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى
وصفاته العلا أن يعيننا وإياكم على ذلك، ويبارك لنا في شعبان، وأن يبلغنا رمضان،
وأن يكتب لنا فيه الرحمة والرضوان والعتقَ من النيران، والحمد لله الذي بنعمته تتم
الصالحات. أقول قولي هذا ..
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله
ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وأصحاب وإخوانه.
أما بعد،
عباد الله: وإن من أعظم ما يهيئ به المؤمن نفسه لرمضان في شهر شعبان ما جاء عن
معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "يطَّلِعُ
اللهُ إلى جميعِ خَلقِه ليلةَ النِّصفِ من شعبانَ فيغفرُ لجميعِ خلقِه إلَّا
لمشركٍ أو مُشاحِنٍ" رواه الطبراني وابن حبان وهو حديث صحيح.
والمتأمل
ـ أيها المسلمون ـ لهذا الحديث يرى فيه تنبيها مهما، وهو خطورة الشحناء والبغضاء
بين الناس، وأن الله لا يغفر للمتشاحنين، والشحناء: حقد المسلم على أخيه المسلم بغضًا له؛ لهوى في نفسه،
وهذه تمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة،
وحريٌّ بكل مؤمن أن يبذل المستطاع،
ويغتنم فرصة الحياة ليحوز على الخير ويرتقي في سلم الطاعة؛ من أجل أن يحقق لنفسه
أعلى الدرجات في جنات الخلود. ولعلكم سمعتم بعض الآثار والأقوال التي توجه الأنظار
إلى ليلة النصف منه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلام طويل: "فقد
روي في فضلها– أي فضل ليلة النصف– من الأحاديث والآثار ما يقتضي أنها مفضله، ومن
العلماء من السلف من أنكر فضلها، وطعن في الأحاديث الواردة فيها"، وقال:
"لا فرق بينها وبين غيرها من الليالي، لكن الذي عليه كثير من أهل العلم على
تفضيلها". إلى آخر ما قاله رحمة الله عليه في موضوعها.
وعلى كلٍّ – يا عباد الله – فليلة
النصف يحسن أن لا يسقطها المسلم من حسابه، ولا يكون فيها من الغافلين، لكن عليه أن
لا يلتزم فيها بلون من العبادة مخصوص بها كصلاة بعدد معين، أو ترتيل أدعية مخصوصة،
أو تلاوة سور من القرآن بعدد معين. فهذا لم ينقل عن سلف الأمة وخيارها، والمسلم
الواعي الرشيد، لا يعتمد في دينه إلا ما صح النقل به عن المصطفى صلى الله عليه
وسلم، وخاصة فيما تضاربت فيه الأقوال، واختلفت فيه الإتجاهات. جاء عن الفضيل بن
عياض رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا "، إنّ
العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم
يقبل، والخالص أن يـكــون لله، والصواب أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم .
فاحرصوا–رحمكم
الله – أن تجعلوا عباداتكم خالصة لله، موافقة لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واستغفروا الله
وتوبوا إليه من جميع المعاصي والآثام، جعل الله لنا ولكم مواسم الخـيرات لنا مربحا
ومغـنما وأوقات البركات والنفـحات إلى رحمـته طريقا وسلما.
فاللهم
بارك لنا في شعبان، واجعل سعينا فيه مشكورا، وذنبنا مغفورا، وعملنا صالحا مقبولا،
وبلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين، واجعلنا فيه من العتقاء من النار، واغفر
اللهم لنا ما سلف وكان، من الذنوب والخطايا والعصيان، إنك خير مسؤول وأكرم مرتجى
مأمول، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا وأمننا وعقيدتنا من كيد الأعداء
ودسائس المغرضين، وول علينا خيارنا وارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا
من لا يخافك ولا يرحمنا، اللهم
أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمع على الحق والهدى والصلاح كلمَتهم، وابسُط
الأمنَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بَطَن،
برحمتك يا أرحم الراحمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة
وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق