الموضوع:النصيحة وآدابها
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي سبقت رحمته غضبه ، وعنده بذلك كتابا كتبه، " كتب ربكم على نفسه الرحمة"، وأسبغ على خلقه النعمة ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، إلهٌ لا يخيب من توجّه إليه وذكره ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، أتمّ الله به النعمة ، وبعثه للعالمين رحمة ، وللناصحين قدوة .صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد ، فعن أبي رُقية تميم بن أوس الدّاريِّ رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدين النصيحة، قلنا لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ". رواه مسلم.
أيها المسلمون: النصيحة كلمة يعبر بها عن إرادة الخير للآخرين. وأصل النصح في اللغة: من نصح الثوب إذا خاطه. فشبّهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح بما يسدّه من خلل الثوب.وقيل مأخوذة من:نصحت العسل إذا صفّيته من الشمع والشوائب.
والنصيحة: دين وإسلام، وهي فرض كفاية. كما قال ابن بطال. وقال أيضا: "النصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة ".
إذن – أيها المسلمون – فالنصيحة لها شروط إذا لم تتوافر فيها كانت شرّا، وأدّت إلى العكس المطلوب منها، فمن شروطها : الإخلاص فيها ، ورغبة الخير وحده فيها ، وتخيّر الوقت المناسب لها ، والتباعد عن التظاهر والتعالم فيها ، واجتناب الشدة والقــسوة في عباراتها . قال حاتم الزاهد: " إذا كتمت عيب أخيك فقد خنته، وإن قلته لغيره فقد اغتبته، وإن واجهته به فقد بهته، ولكن عرّض به، واجعله من جملة الحديث.
تعمّدني بنصحك في انفراد ي وجنّبني النصيحة في الجمـاعة
فإن النصـــــــــــح بين الناس نـوع من التوبيخ لاأرضى استماعـه
وإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لـم تعط طـاعــــة
أيها المسلمون: وإن حسن التمثيل يزيد الفكرة وضوحا، والصورة جمالا. فالتوجيهات النبوية والنصائح المحمدية يجب أن يتخذ منها مثالا يحتذى ، وأضواء كاشفة لإنارة الطريق .
فلقــد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عادته أن يعمّم النصيحة، ولا يواجه الناس بالعتاب، ولا يواجه أحدا بما يكره مادام هذا كافيا للإصلاح، فشعاره الدائم: " ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ". روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن رجل شيء لا يقـول ما بال فلان، ولكن يقول: "ما بال أقوام يقـولون كذا وكذا ". شرح السنة ج 3 ص 143.
بل وحتّى في أصعب المواقف وأشدها على النفس وآلمها على القلب ، مثل حادثة الإفك التي روّج لها عبد الله بن أُبيّ زعيم المنافقين ورأس الفتنة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: " يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي. فوالله ما علمت على أهلي إلاّ خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، و ما كان يدخل على أهلي إلا معي"؟.رواه البخاري.
صلّى عليك الله، يا رسول الله...فلقد قال فيك رب العزة سبحانه:"فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضوا من حولك... ". آل عمران: 159.
أيها المسلمون: لعلكم تذكرون قصة ذلك الأعرابي الذي جاء إليه صلوات الله وسلامه عليه يطلب شيئا فأعطاه، ثم قال له: " هل أحسنت إليك ؟ قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم الرسول أن كفّوا، ثم قام فدخل منزله، وأرسل إلى الأعرابي ثم زاده شيئا، ثم قال له: "أحسنت إليك "؟، قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك قلت ما قلت، وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإن أحببت فقل لهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك ". قال الأعرابي: نعم. فلما كان الغداة أوالعشيّ ، جاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه ، فزعم أنه رضي ، أكذلك ؟ " فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا ". فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه ، فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفور، فنادهم صاحب الناقة : خلّوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها وأعلم . فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قحام الأرض فردّها هونا هونا، حتى جاءت واستناخت وشدّ عليها رحلها واستوى عليها " . رواه أبو الحسن بن الضحاك عن أنس رضي الله عنه.
أنظروا أيها المسلمون: إلى نبيّ الرحمة. كيف بلغ به الحلم على من أعطاه وجحد عطاءه.. ردّه من نفوره هادئا طيِّعا. حتى سمع رضاه كما سمع دعاءه ، وكذلك كان .. ألّف بين القلوب النافرة، وهدى النفوس الشاردة، بطريق الرأفة لا الغلطة، وبأسلوب اللين لا الشدّة.
وقد تعجبون عندما تسمعون مارواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " بال أعرابيّ في المسجد ، فقام الناس إليه ليقعوا فيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء ، أوذَنوبا من ماء ، فإنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين " .
ياأيها المسلمون: هذا أعرابيّ يدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يعرف أمور الدين ، ولا يدري حرمة المساجد التي أمر الله أن تعظّم وأن تطهّر، فيتنحّى في جانب المسجد، ويقف يتبوّل . ويرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنظر المؤذي، فيسرعون نحوه ويريدون ضربه وتأديبه ، لأنه أساء إلى حرمة بيت الله.لكنّ الرسول الرحيم أمرهم بالكفّ عنه وعدم إيذائه أو ضربه ، لأن الجاهل ينبغي أن يُعلَّم ، لا أن يُضرَب ، وهم بعثوا بالتيسير لا بالتعسير ، وكلفّهم أن يريقوا على بوله دلوا من ماء تطهيرا للمكان من النجاسة . ثم يدعوا- صلى الله عليه وسلم- الأعرابي فيعلمه برفق ولين ، ويرشده إلى أن هذا بيت من بيوت الله ، لا يليق بالمسلم أن يحدث فيه أذىً أو يعرضه لنجاسة ، ويتلطف معه عليه الصلاة والسلام ،حتى شعر الأعرابي من نفسه بخطئه ، وندم على فعله، وطلب من الرسول الكريم العفو والسماح . وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة أن ذاك الأعرابي حين خرج وركب ناقته قال: " اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا " !. وذلك لأنه رأى اللطف والرحمة من الرسول صلى الله عليه وسلم خلاف أصحابه حينما هجموا عليه ليضربوه. وسمعه الرسول يقول ذلك فقال له: " لقد حجرت واسعا يا أخا العرب ".
هذا رسول الله، وهذا أسلوب النصح والإرشاد، يجعل العدوّ صديقا. كما قال الله تعالى: " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ".فصلت:34. وبعكس ذلك تكون الكلمة الجافية والقلب الضيّق من شرّ أسباب النفور، بحيث يجعلان الصديق عدوا.
وهذا ما آل إليه المسلمون بعدما انحرفوا عن منهج القرآن الكريم وآداب الإسلام، ففقدت النصيحة مصداقيتها، وأصبحت ضربا من التحدّي والإثارة، وبالتالي إلى المكابرة والعناد وإلى حدوث منكر أشد.
أيها المسلمون : أعود فأقول ، إن من آداب النصيحة أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، فلا يبغي الناصح من ورائها مغنما، وأن تكون بالقول الجميل وبالحكمة والموعظة الحسنة، فلا يليق أن يقال للأعمى ، " يا أعمى" ، حتى لا تؤذى مشاعره. ولا تكون مجاهرة ، فقد ورد : أن النصيحة على رؤوس الأشهاد فضيحة.
ورضي الله عن الحسن والحسين عليهما السلام . وقد رأيا رجلا لا يحسن الوضوء فتعمّدا الوضوء أمامه، ثم أقبلا عليه ليسألانه، أينا أحسن وضوءا ؟. فأدرك الرجل تقصيره وجهله، فقال لهما: شكرا لقد علّمتماني الوضوء.
فاتقوا الله أيها المسلمون في أنفسكم وفي مجتمعكم ، واستصلحوا الوضع الفاسد والخلق الذميم بالكلمة الطيبة ، وخذوا القدوة من هدى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد ، أيها المسلمون : روى مسلم عن معاوية بن الحكم السّلمي رضي الله عنه قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله ، فرعاني القوم بأبصارهم، فقلت : "وا ثكل أُمِيّاه ! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ " ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمّتونني، لكنّي سكتّ ، فلما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأبي هو وأمّي ، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني ، قال : " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ".
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم، وهكذا كان يوجّه وينصح. فهو لا يريد سلب الأنفس سكينتها ، حتى ولو كان ذلك في سبيل ترويضها على الفضيلة ومنعها من الرذيلة والشرّ .
ذات يوم أقبل عليه سائل يسأله في صراحة الأعرابي وجرأته ، طامعا في أن يجد للزنا رخصة ، رغبة عجيبة حقا ، لا سيما حين يتقدم بها صاحبها إلى رسول . ولكنّ محمداَ بن عبد الله ، يكشف في هذه الواقعة عن فلسفته اتّجاه خطيئة الزنا ، بل اتجاه الخطايا كلها، لقد استدنى الرجل وربّت على كتفه، وقال:- والضياء يكسو وجهه ملقيا على الرجل سؤالا - أتحبّ الزنا لأمك ؟ قال الرجل: لا، جعلني الله فداك ، وذكر العمّة والخالة وهو يقول في كل واحدة : لا، جعلني الله فداك. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ولا لبناتهم ولا لعماتهم ولا لخالاتهم."
أيها المسلمون: من كان يعرف في تلقين الأدب وبث الفضيلة وإسداء النصيحة طريقه أمثل وأروع من هذه فليأتنا بها ؟. قال الرجل وقد بهره الحجاج وأقنعه المنطق: إذن فادع الله لكي يحبّب إلي العفّة ويكرّه إلي الفسوق. فوضع الرسول كفّه الحانية على صدره، وقال: " اللهم طهّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه ". قال الرجل:" والله ما إن قال الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال، حتى انصرفت ولا شيء أبغض إلي من الزنا ".القصة رواها الإمام أحمد في مسنده.
فاتقوا الله عباد الله، وتأسّوا بأخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم. وسيروا على نهجه، فإن السعادة بحذافيرها في انتهاج هديه والتأسّي به. والتزموا بالأخلاق الفاضلة، وتجنّبوا الأخلاق السافلة، وأطيعوا الله ورسوله إن كنـــتم مؤمنين.
وفقني الله وإياكم لأحسن الأخلاق وأقومها، ورزقنا بمنّه القيام بعبادته فرائضها وسننها، وتوفنا على التوحيد والإيمان، وأعاذنا من الشرك والطغيان والعصيان.اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك...، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.