الموضوع: أسطول الحرية
الخطبة الأولى
الحمد لله مقدّر الأيام والشهور، ومصرّف الأعوام والدّهور، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمه التي تزاد بالشكر فلا تبور، وأستمنحه جلّ في عليائه التوفيق في كلّ الأمور، فهو سبحانه المؤمّل لكشف كل كرب، وجبر كل مكسور. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له الغفور الشكور. "خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهو العزيز الغفور". وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله، بعثه بالهدى والنور، فأشرقت شمس الحقّ في كل الرّبوع والدّور، وزكت النفوس العليلة فغدت في سعادة وسرور، ورضوان وحبور.
صلّى الله عليه وعلى آله، ليوث الوغى والثغور، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد؛ فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالتقوى سبيل المؤمنين، وهي النجاة في الدنيا، ويوم يقوم الناس لرب العالمين. قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون".
أيها المسلمون: أصبحنا في زمن لا يدري الواحد منّا، أيّ الأحداث يتابع؟. وأيّ المآسي ينازع؟. تعددت الجراحات التي تُفتّت كبد الحجر قبل بني الإنسان!.
ولا يجد المؤمن الصادق بُدًّا من متابعتها، وإلقاء السمع إلى أحداثها، ليرجع البصر والفؤاد خاسئا كسيرا وهو حسير.
أستأذنكم ـ عباد الله ـ في هذه الدقائق، وأتحدث إليكم، لكي لا يظنّ ظانّ، أننا وبسبب الحديث عن مشاغلنا وهمومنا، نسينا حقّ الأخوّة بيننا، وتجاهلنا أننا أمة واحدة وجسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أتحدث إليكم، لكي لا يظنّ ظانّ، أننا وبسبب أفراحنا ومتابعة أخبار فريقنا في كأس العالم، أننا افتقدنا وهجرنا أخلاقنا التي تأبى الظلم، وتأنف من الذل والهوان!.
إننا أمة نقول للموت ـ إن قَدِم ـ في سبيل العزّ والحقّ، أهلا ومرحبا، فما هي إلا نفس واحدة، وليس ثمّة إلا موتة واحدة، فإما أن نحيا شرفاء، أو نموت شهداء.
أتحدّث إليكم عن مأساة أسطول الحرية، وعن الحال الذي وصل إليه قطاع "غــزّة"، جرّاء ظلم العدوّ، وصمت الصديق. لعلّ قلبا يدّكر، ولعلّ نفسا تنزجر. فلقد:
كانت فلسـطين موّالاً لأمتنا ما بالها لم تعد للناس مّوالا ؟
تعددت يا بني قومي مصائـبنا فأقفلت بابنا المفتوح إقفالا
كنّا نعالج جرحا واحدا فغدت جراحنا اليوم أشكالا وألوانا
أيها المسلمون: مع تعدّد المصائب وكثرة الفواجع، تبقى "فلسطين" قضيتنا ومصيبتنا الأساس، التي لا ينبغي تجاهلها ونسيانها. "فلسطين"، تلك البلدة التي سالت من أجلها العيون، ورخصت في سبيلها المنون.
"فلسطين" أولى القبلتين، وثالث المسجدين، ومسرى نبينا الأمين، صلى الله عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
"فلسطين" من أجلها شدّ الرّجال عزائم الأبطال، وأحيوا في نفوسهم الحماسة والنضال، اثنان وثلاثون بطلا من أبطال الجزائر، من بينهم عشر "برلمانيين"، ونساء وأطفال، رافقوا أسطول الحرية، والذي يتكوّن من ستّة سفن، من بينها سفينة شحن بتمويل جزائري. ذهب هؤلاء الأبطال، لفكّ الحصار عن شعب أعزل، يعاني البؤس والحرمان. وكم من الجزائريين تمنّى ـ وفي تلك اللحظات الخاشعةـ أن يكون من أولئك الأسرى أو الشهداء!. قال الدكتور أحمد يوسف مستشار إسماعيل هَنيّه: "إن الجزائريين المشاركين في أسطول الحرية، علّمونا درسا في الحرية، عندما غامروا بحياتهم رفقة أحرار العالم، وتحدّوا الجبروت الصهيوني".
عباد الله: شعب "فلسطين" منذ أكثر من سبعين عاما يعيش تحت وطأة الإحتلال، مساكنهم الملاجئ والمخيمات، والملايين منهم يعيشون في التشريد والشتات. شعب "فلسطين" حياته كلها خوف وتعذيب، واعتقال وتهديد، ومع الحصار الإقتصادي المفروض عليهم، نفذت المخازن، وأغلقت المعابر، لتسدّ عنهم أبواب الرزق ووسائل الحياة، تجويع وبطالة، واستخفاف وإهانة. والمحتلّ يلاحق من يشاء، ويتّهم من يشاء، ويقتل من يشاء، وينفي من يشاء، ثمّ يزعم أنه يريد السلام!!
قد حصحص الحقّ لا سلم ولا كلم مع اليـهود وقد أبدت عواديـــــــها
قد حصحص الحقّ لا قول ولا كلم ولا مواثيق صدق عند داعـــــــيها
أين الســلام الذي نادت محافلــــــك أين الشعارات؟ يامن بات يطــــريها
تآمرٌ ليس تخـــــــفانا غوائـــــــــــــــــــــــــــــــله وفتــــــــــــــــــــــنة تتوارى من أفاعــــــــــــــــــيها
أيها المسلمون: على حين غرّة، انكشفت عورة الأمم المتحدة والدول الغربية، وبانت سوأتها، عندما ادّعت حقوق الإنسان. وها هي ذا تتفرّج على العدوان الإسرائيلي الغاشم على أسطول الحرية، الذي كان يحمل أكثر من عشر آلاف طنّ من المساعدات، يصحبه أكثر من (750)متضامنا من أكثر من(40) دولة، يحملون مساعدات غذائية وطبّية لسكان القطاع المحاصرين منذ أكثر من ربع سنوات. انتظرهم أهل "غـزّة"، لكنهم لم يصلوا!. لأن إسرائيل اقتحمت جميع السفن، ونفّذت جريمتها بامتياز في عرض المياه الدولية، وبقية القصّة تعرفونها.
ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أُثمّن وأُحيّي الموقف التركي، الذي كان يرعى الأسطول، وأشدّ على أيدي كلّ أحرار العالم، الذين يواصلون جهدهم لكسر الحصار عن غزّة، وأترحم على أرواح الشهداء.
أيها المسلمون: إنكم تنعمون وتمرحون بين أهليكم وأولادكم، فتذكروا بكاء اليتامى وصراخ الثكالى، وأنين الأرامل والأيامى. تذكروا أنّنا جسد واحد، وإن فرّقتنا الحدود، وحالت بيننا وبينهم السدود. واعلموا أن الحصار مهما طال أو قصر سينقشع عن غزّة، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل سيخلدنا التاريخ، وتذكرنا الأجيال القادة مع الشرفاء أم مع غيرهم؟.
أيها المسلمون: إننا مهما كنا ضعفاء، فإنا نستطيع أن نقدم شيئا على الأقل. وهو أن نتحدّث بهذه القضية في كل مجلس وبكل لسان. وأن نُعرِّف بها لنجلوَ الغشاوة، ونحرّك القلوب، وندفع الآخرين للعمل، ومع ضعفنا، نستطيع أن ندعو لهم بالنصر والتمكين، وعلى أعدائهم بالهزيمة والخسران المبين.
عليكم ـ عباد الله ـ أن تشدّوا أزرهم، وتمدّوا يد العون لهم، واعلموا أنّ الله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
نفعني الله وإياكم بما قلت، وأستغفر الله....
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النّبيّ المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتدى.
أما بعد؛ عباد الله: إن الذي ينظر إلى قضية فلسطين بمنظار القرآن، لن ينخدع أبدا، فالمولى سبحانه يقول في كتابه:" أوَ كلّما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم، بل أكثرهم لا يومنون". ويقول أيضا:" وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين".
أيها المسلمون: إن من يتعامل مع قضاياهم ـ اليهودـ بهدي القرآن لن يضل أبدا، لأن الله يقول:" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولّهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين". ويقول سبحانه: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".
أيها المسلمون: إنّ ما يجري في فلسطين، لهو امتحان شديد لأمة الإسلام، لأنّ القدس والمسجد الأقصى والبقاع الطاهرة هناك، ليسوا لأهل فلسطين فقط، ولا للعرب فقط، بل لكلّ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله. فلا يملك أحد أن يتنازل عن شبر من أرضها لليهود الغاصبين، فهي أرض المسلمين أجمع، تفدى بالأرواح والمُهَج. ألا وإنّ من سنن الله، أنّ العاقبة للمتقين، وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون.
فيا أهلنا في الأرض المباركة، اصبروا وصابروا ورابطوا. فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، ولا تيأسوا من روح الله، فإن النصر قادم ، ألا إن نصر الله قريب.
اللهم انصر دينك واجعلنا من أنصاره يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من الوهم والوهن، وحبّ الدنيا وكراهية الموت. اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصرهم على اليهود الغاصبين، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وقوّ عزائمهم، ووحّد صفّهم، واجمع على الحق كلمتهم يا رب العالمين. اللهم واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق