الموضوع: أخلاقيات التاجر
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أنعم علينا بما أعطانا من الأموال، وأباح لنا من المكاسب كل تعامل مبرور، ونهانا عن كل معاملة تشتمل على الغش والكذب والظلم والجهالة والغرور. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أحسن كل شيء خلقه، وأحكم كل نظام شرعه، وهو أحكم الحاكمين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الناصح الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، القائل: "نفث روح القدس في روعي أن نفسا لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته". رواه الطبراني في المعجم الكبير. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيّين والصدّيقين والشهداء". رواه الترمذي.
أيها المسلمون: هذه البشرى النبوية التي زفّت على لسان من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي. تؤكد عناية الإسلام بالتجارة، وحث أتباعه على السعي لكسب المال وتحصيله من وجوهه المشروعة، ولا أدل على ذلك، من تلك المنزلة العالية والمكانة السامية، التي أعدها الله للتاجر الذي صار الصدق سجية له، وعرفت عنه الأمانة والتحرز عن الشبهات، فهو يوم لا ينفع مال ولا بنون، في منازل النبيين والصديقين والشهداء، وما أشرفها وأكرمها من منازل!.
أيها المسلمون: إن مشكلة البيـع والشراء، مشكلة قديمة، منذ بدأ الإنسان يمارسها. ولقد احتك بها الإسلام منذ ظهوره. احتك بها ليضع لها قواعد مستمدة مـن الأخـلاق الكريمـة، والصلاة الإنسانية على أعلى مستوى قال الله تعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا".
ونجد في مجال تطبيق هذه الآية الكريمة في مجال الحياة العامة قواعد أخلاقية عظيمة، تمس من قريب أو بعيد كل قواعد البيع ومجال نشاطه، وتجعل العملية تسير في نظام سليم، يضمن تداول السلعة في غير احتكار، وفي غير مغالاة في الأسعار، وبدون غشّ، وكل مجال من هذه المجالات يحتاج في بحثه إلى ما يزيد عن نطاق خطبتنا، ولكن يمكن أن نذكر اليوم بعض الصفات التي يريدها الإسلام للمشتغل بالتجارة.
روى البيهقي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أطيب الكسب، كسب التجار، الذين إذا حدّثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا".
أيها المسلمون: هذا الحديث الشريف بلفظه الوجيز، يقدّم دستورا كاملا من سبعة مواد للتاجر المسلم، ويبين الصفات التي هي أساس نجاحه. وبتطبيقها على مسالك التجار قولا وعملا، تؤتي ثمارها الطبية للناس، وتحقق منافعها على الوجه الأكمل وتعم الثقة، وتتيسر المعاملات بين الناس، ويسهل تبادل المنافع.
فالرسول صلى الله عليه و سلم يثني على كسب هؤلاء التجار: "إن أطيب الكسب كسب التجار" الذين يتصفون بتلك الصفات، ويطبقون هذه المواد السبعة. فهم:
ـ"إذا حدثوا لم يكذبوا "، لم يكذبوا في بيعهم وشرائهم، لأن التاجر الكذاب يدخل الغش على الآخرين، والله سبحانه لا يبارك في بيعه، ويسلط عليه من البلايا ما يفقده نعمة السعادة بالمال والتمتع به. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدق البيعان وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحا ويمحقا بركة بيعهما".
ـ "وإذا ائتمنوا لم يخونوا". والأمانة هي يقظة الضمير، وطهارة الوجدان، ونزاهة النفس، وهيهات أن يأتي التاجر الأمين ما يؤنبه عليه ضميره، وينافي طهارة وجدانه ونزاهة نفسه، فالتاجر الأمين لا يغش ولا يخون، لأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من غشّنا فليس منا". رواه مسلم عن أبي هريرة.
ولكن للأسف! لو ذهبت إلى السوق – سوق الخضر أو سوق الملابس – تجد التاجر يعامل إخوانه بالغش علانية، يريك نوعا ويبيعك آخر، فأنت لا تشتري إلا ما ترى، وهو لا يبيعك إلا مالا ترى، وهذا بيع فاسد لا يجوز شرعا، بل هو سرقة في وضح النهار، وليس ببيع، ولكن الفارق بين هذا البائع وبين السارق – أن السارق تضربه ولا يتكلم، وهذا يسرقك فلا تستطيع أن تتكلم!.
ألا ليسمع هؤلاء. ما رواه البيهقي مرفوعا عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، ثم قال: يؤتي بالعبد يوم القيامة، وإن قتل في سبيل الله، فيقال: "أدّ أمانتك فيقول: أي رب، كيف؟ وقد ذهبت الدنيا، قال، فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها فيهوى في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر ظنّ أنه خارج زلت عن منكبيه، فهو يهوى في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عدها، وأشد ذلك الودائع".
فاحذر أيها التاجر، وكن قوي الصلة بالله، واجعل أساس تعاملك الــصــدق والأمانة والبيان والوضوح.
ومن صفات هؤلاء التجار أيضا:ـ "إذا وعدوا لم يخلفوا" بل وفوا بالوعد، وبكل ما يتعلق بعقودهم ومواثيقهم، ولا شك– أيها المسلمون– إن الوفاء بالوعد في ميدان التجارة له شأنه وخطره، ولذا جاء الوعيد شديدا. فعن شُفَيٍّ ابن ماتع الإصبحي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى، يسعون ما بين الحميم والجحيم، يدعون بالويل والثبور، يقول بعض أهل النار لبعض: ما بال هؤلاء قد آذونا على ما بنا من الأذى؟، قال: فرجل معلق عليه تابوت من جمر، ورجل يجر أمعاءه، ورجل يسيل فوه قيحا ودما، ورجل يأكل لحمه، فيقال لصاحب التابوت، ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى؟ فيقول: إن الأبعد مات وفي عنقه أموال لا يجد لها قضاء أو وفاء". رواه ابن أبي الدنيا و الطبراني .
ومن صفات هؤلاء التجار الذين أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على كسبهم أنهم:ـ "إذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا"، أي أنهم إذا أرادوا شراء سلعة فهم يُقيِّمونها على حسب المتعارف عليه في الزمان والمكان، دون اللجوء إلى التهوين من أمرها بذمها وإلصاق العيوب بها بخسا لها وتحقيرا لشأنها، ليدفعوا صاحبها إلى التخلص منها على وجه قد لا تكون مصلحته فيه، وإذا أرادوا بيع سلعة فلا يبالغون في مدحها غشا وتغريرا، بل يعرضونها على حقيقتها دون تزيين لها وثناء عليها .
فكن هكذا– أيها التاجر – يكثر الله مالك، ويضاعف أرباحك، وتكون عند الله من الأبرار، وعند الناس من الأخيار، وليكن نشيدك:
يا ليتني إذ أبيع الشيء يكسب فيه المشتري الربح دينارا بعشرينا
أحبّ شيء إلى نـفسي مـعامــــــــلة كسـب العميل فـنأتيه ويأتيــنا
فاتقوا الله، أيها المسلمون وقولوا: اللهم ارزقنا الحلال وبارك لنا فيه، وباعد بيننا وبين الحرام كما باعدت بين المشرق والمغرب. أقول قولي هذا....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: والخصلة السادسة والسابعة في التجار الذين وصف الرسول صلى الله عليه وسلم كسبهم بالطيب. فهم:ـ "إذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا".
نعم – أيها المسلمون – فمن أسباب نجاح التاجر، أنه يجتهد في الوفاء بدينه حين يحين وفاء أدائه، دون مطل ولا تسويف، رعاية لمصالح أصحاب الحقوق بتأديتها في حينها، وإذا كانت له ديون أو حقوق عند الآخرين فلا يضيق ويعسر عليهم، بل عليه أن يمهلهم وييسر عليهم حتى ييسر الله عليه ويحسن إليه ويكرمه، فقد روى البخاري وابن ماجة واللفظ له، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى".
وروى مسلم موقوفا عن حذيفة رضي الله عنه، قال: "أتى الله بعبد من عباده، آتاه الله مالا، فقال: ماذا عملت في الدنيا؟. قال: ولا يكتمون الله حديثا، قال: يا رب، آتيتني مالا فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر، وانظر المعسر، فقال الله تعالى: "أنا أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي" .
وبعد، أيها المسلمون: تلكم هي الصفات التي ينبغي توافرها في التجار، فمن أحب أن تناله هذه البشرى فليعمل بما ذكر. "إن أطيب الكسب، كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا".
فاللهم اجعل تجارنا من هؤلاء.. وتحفيزا لهم اذكر هذه القصة الرائعة من سيرة السلف الصالح، حدث الأستاذ أبو الحسن الندوي رحمـه الله قال: "حدثني بعض الثقات المعمّرين الذين أدركوا عهد الأشراف في الحجاز، أن تجار مكة كانوا في ذلك العهد على جانب عظيم من المواساة لزملائهم، والنظر في مصالحهم، والإخلاص والإيثار لهم، قال: كان بعض التجار إذا أتاه زبون في آخر النهار، وقد باع ما يكفيه لقوت يومه، وما حدّده من الربح والوارد ولم يكن زميله الجار سعيد الحظ في ذلك اليوم، قال له في لطف وهدوء: دونك هذا الدكان الذي هو بجواري تجد عنده ما تجد عندي، وقد لاحظت قلة الزبائن عنده هذا اليوم، فهو أحق أن تشتري منه"!. الله أكبر .
اللهم وفق تجارنا للعمل بما يرضيك، واغننا– وإياهم - بحلالك عن حرامك، واكفنا – وإياهم– بفضلك عمن سواك، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء وقنا الزلازل والمحن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهم اجعل بلدنا آمنا مطمئنا و جميع بلاد المسلمين، اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخد بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حـــسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق