الموضوع: الإستعداد للموت
الخطبة الأولى
الحمد لله، المحيي المميت، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، هو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، سبق بالآجال عمله، ونفذت فيها إراداته "الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار". وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " كل شيء هالك إلا وجهه". وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله بشيرا ونذيرا، وداعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا .صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه تسليما كثيرا .
أما بعد، فاتقوا الله: أيها المسلمون، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، " الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني". رواه الترمذي
أيها المسلمون: روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: "خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال : هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج: أمله، وهذه الخطط الصغار: الإعراض، فإن أخطأه هذا، نهشه هذا".
عباد الله: بهذه الخطوط الشريفة من الفن التجريدي، اكتملت اللوحة التي صور الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الإنسان الضعيف، تغزوه الأغراض، غزوا فيه إلحاح: عدوى أو سرطان، أو حريق أو غرق، أو زلق أو سقوط، أو اصطدام أو لدغة، أو تسمم طعام أو طلقة طائشة. فإن نجا من كل ذلك، كان له في الهرم، وضغط الدم، وارتفاع نسبة السكر. فإن طال النفس، اقتص منه الموت. قال تعالى: "قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون". روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع وتسعون منية، وإن أخطأته المنايا وقع في الهرم" .
أيها المسلمون: الموت حتم لازم، لا مناص منه لكل حي من المخلوقات، قال تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون". وقال سبحانه: "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذوا لجلال والإكرام". وقال سبحانه: "كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" .
تزود من التـــقوى فإنك لا تـدري إذا جـــــنّ ليل هل تعيش إلى الفـــجـر
فكم من عروس زيـنوها لزوجـها وقد أخذت أرواحهم ليلـة القــــدر
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهـم ظلمة القبر
وكم من سليم مات من غير عــلة وكم من سقيم عاش حينا من الدهــر
وكم من فتى يمسي ويصبح لا هيا وقد نسجت أكـفانه وهـــو لا يدري
وكم من ساكن عند الصباح بقصره وعند المسا قد كان من ساكن القــــبر
أيها المسلمون: ليس للموت وقت يأتي فيه، فلا يستطيع أحد أن يتجاوز الأجل الذي ضربه الله، وقد قدّر الله آجال العباد، وجرى بذلك القلم في اللوح المحفوظ، وليس له وقت مخصوص من شيب أو كهولة أو شباب، لا علم لأحد بالوقت الذي يحضره فيه الموت وينزل به، إنّ علم ذلك عند الله وحده، قال تعالى: "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير". وقال سبحانه: "ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".
لذا كان من وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء". وقال يوما لابن عمر – رضي الله عنهما - : "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعُدّ نفسك من أهل القبور". رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما.
بل لقد كانت حياته – هو- صلى الله عليه وسلم زهدا في الدنيـا، وإعراضا عنها، كان يأكل الخشن من الطعام، ويلبس اليسير من الثياب، وينام على الحصير. دخل عليه يوما بعض أصحابه فوجدوه نائما على حصير، وقد أثّر في جنبه الشريف، فرقّوا لحاله ورثوا لشأنه، فقالوا يا رسول الله: "لو اتّخذنا لك وطاء– أي فراشا- فقال: مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا، إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها". رواه الترمذي وابن ماجة.
فيا– عبد الله- : اعلم أنه إذا جاء الأجل، وشارفت حياة الإنسان على المغيب، أرسل الله رسل الموت، لسلّ الروح المدبّرة للجسد والمحرّكة له، فتأتي المؤمن في صورة حسنة جميلة، وتخرج روحه، فتسيل كما تسيل القطرة من فم السقاء، وتأتي الكافر أو المنافق في صورة مخيفة، وتنتزع روحه كما ينتزع السفّود من الصوف المبلول. وما يحدث للميت حال موته لا نشاهده ولا نراه، وإن كنا نرى آثاره، قال تعالى: "فلولا إذا بلغت الحلقوم، وأنتم حينئذ تنتظرون، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ".
إن الطبـيب بطـــــــــــــبـه ودوائــه لا يستطـــــــــيع دفــع نحب قد أتى
مات المداوي و المداوى والذي جلب الدواء ومن أذل ومن عتى
وللموت – يا رعاكم الله – سكرات وكربات وغمرات، لقد دخلت عائشة رضي الله عنها على أبيها– أبي بكر رضي الله عنه– في مرض موته، فلما ثقل عليه، تمثلت بقول الشاعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه ليس كذلك، ولكن قولي: "وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ".
ولقد عانى سيد الخلق، وحبيب الحق، من هذه السكرات، ففي مرض موته– صلوات الله وسلامه عليه–فيما رواه البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أنه كان بين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله ، إن للموت لسكرات" .
فاتقوا الله، عباد الله: وأكثروا من ذكر هادم اللذات، واستعدوا للآخرة قبل الممات، تدبروا كتاب ربكم، واتبعوا سنة نبيكم. "قبل أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن في كرة فأكون من المحسنين".
نفعنى الله و إياكم بالقرآن ...
الخطبة الثانية
الحمد لله مالك يوم الدين، "يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئا"، سبحانه له الأمر كله، لا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه، أشهد أنه الله، لا إله إلا هو، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد،- فيا عباد الله-: لو جعل الله الخلود لأحد من مخلوقاته، لكان ذلك لأنبيائه المطهرين، ورسله المقربين، وكان أولاهم بذلك صفوة أنبيائه صلى الله عليه وسلم. كيف لا! وقد نعاه إلى نفسه بقوله: "إنك ميّت وإنهم ميّتون ".
فيا – أيها المسلمون -: لكل أجل كتاب، ومصير الحياة الدنيا إلى فناء، وخيركم من اتبع رضوان الله، وادّخر من عاجلته لأجلته.
كان الإمام علي كرم الله وجهه، إذا دخل مقبرة يقول: "السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة. والمحالّ المقفرة. اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم. ثم يقول :
"الحمد لله الذي جعل لنا الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا. الحمد لله الذي خلقنا منها، وإليها معادنا، وعليها محشرنا، طوبى لمن ذكر الله وعمل بالحسنات، وقنع بالكفاف ورضي الله عز وجل عنه. ثم يقول: "أما المنازل فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فليت شعري ما عندكم؟ . ثم يقول: والذي نفسي بيده، لو أذن لهم في الكلام لقالوا: "إن خير الزاد التقوى".
فاتقوا الله، عباد الله: وتزودوا من التقوى، فإنها زاد الآخرة، وكافلة لمن تمسك بها سعادة الدارين.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقوى ولا قـيت بعد المــوت من تزودا
ندمت على أن لا تكون مثلـــــــه وأنــك لم ترصــــــد كما رصـدا
اللهم أيقضنا من سنة الغفلة، ووفقنا للتزود ليوم النقلة، اللهم ارحم غربتنا في القبور، وآمنا يوم البعث والنشور، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولجميع المسلمين. اللهم قنا عذابك يوم تجمع عبادك. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق