11 يناير 2012


الموضوع:القول على الله بغير علم
الخطبة الأولى
     الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم، والحمد لله الذي من على عباده بإنزال الكتب وإرسال الرسل، فلم يبق على الله للخلق حجة، وفتح العقول وفهم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرب الكريم الأكرم. علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان، وأعطى وتكرم. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرشد إلى السبيل الأقوم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
     أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. واعلموا أن ديننا الحنيف وشريعتنا الغراء وحي وتنزيل من رب العالمين، فهو وحده صاحب التشريع بالأمر والنهي في كتابه أو على لسان رسوله صلوات الله وسلامه عليه. فليس الدين نتاجا عقليا، ولا عملا إبداعيا، ولا نظرية فلسفية. وليس المشرّع زعيما أو فيلسوفا أو مخترعا، بل خالق الخلق ومالك الملك رب العالمين.
  فإذا كان المشرع هو الله، فلا معقب لحكمه، "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون". "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم"، بل الإستسلام التام والإذعان الكامل لأمر رب السماء والأرض. "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا".
     عباد الله: وإذا كان الدين والشرع تنزيلا، فالأصل ألا يتكلم فيه بتحليل أو تحريم أو إصدار حكم إلا المأذون لهم في ذلك، وهم من توفرت فيهم أهلية النقل عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم العلماء لأنهم ورثة الأنبياء. كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز لشخص كائنا من كان أن يتكلم في شرع الله بغير علم يؤهله للكلام والنقل عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير حق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون".
تحريم واضح، بل الأمر أوضح، والنهي عن الكلام والقول بغير علم أوضح. قال تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا".
   لذاـ يا رعاكم الله ـ كان العلماء الربانيون العارفون بربهم أحرص الناس على الورع والتوقف عن الكلام في دين الله وشرعه، لأنّ علمهم أورثهم خشية وورعا عن أن يتكلموا عن الله. قال تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء". وكلما زاد الرصيد العلمي بشرع الله لدى المؤمن، كلما ازداد ورعا والتزم الصمت والسكوت خشية التقول على الله بغير علم. وكذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم وهم أعلم الناس بربهم وشريعتهم، يتوقفون عن كثير من المسائل والفتاوى ويحيلونها إلى غيرهم ورعا منهم وتعظيما لأمر الله. قال ابن أبي ليلى: "أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث، أو يسأل عن شيء إلا ودّ أخاه كفاه". وقال عطاء ابن السائب: "أدركت أقواما إن كان أحدهم ليسأل عن شيء فيتكلم وأنه ليرعد". وهذا أبوبكر رضي الله عنه يسأل عن تفسير آية من كتاب الله فيقول: "أي أرض تقلني وأي سماء تقلني إن قلت في كتاب الله بغير علم؟".
 فماذا يقول من هم دون أبي بكر رضي الله عنه؟. بل ماذا يقول من لا علم لهم أصلا؟.
 لقد سئل إمام دار الهجرة مالك رحمه الله في ست وثلاثين مسألة، فأفتى في ست، وتوقف عن ثلاثين ورعا وخشية. قال ابن القاسم رحمه الله سمعت مالكا يقول :"إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي الآن".
أما من كانت بضاعته مزجاة، ورصيده العلمي لا يتعدى كونه مسلما في محيط لا يزيده بدينه إلا جهلا، فإنه لا يتورع عن الكلام في شرع الله بتحريم الحلال أو تحليل الحرام، وهو أجهل خلق الله بدين الله. جاء في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار".
  عباد الله: لقد ابتلينا بصنفين من الناس أدّى بهم جهلهم إلى الهلاك، لأن الكلام في شرع الله بغير علم مهلكة. بل الأعجب أن هذين الصنفين من المتجرئين على الله بالكلام في شرعه ودينه بغير علم، ينكرون أشد الإنكار على من تكلم في غير تخصصه، أما من يتكلم في دين الله فلا باس. لأن الدين للجميع أن يتكلم فيه، ويفتي بما شاء حسب مزاجه ورأيه وهواه. حتى أصبحنا نرى عجبا، تجارا وحرفيين أميين يصدرون الفتاوى ويفسرون الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وفق المزاج والهوى.
 الصنف الأول: عامة يفتي بعضهم بعضا بما لا يعلمون، فتجد احدهم يقول: هذا حلال أو حرام أو واجب أو غير واجب وهو لا يدري. أفلا يعلم هذا الرجل أن الله سائله يوم القيامة عما قال؟. أفلا يعلم انه إذا أضل شخصا فأحل له ما حرمه الله أو حرمه ما أحل الله فقد باء بإثمه، وكان عليه مثل وزر ما عمله من إثم بسبب فتواه؟. إن بعض العامة إذا رأى شخصا يريد أن يستفتي فقيها يقول له: لا تستفتي في هذا، هذا واضح.. حرام!. مع أنه في الواقع حلال، فيحرمه ما أحل الله. أو يقول له: هذا واجب فيلزمه بما لم يلزمه الله به. أو يقول له هذا غير واجب فيسقط عنه ما أوجب الله، أو يقول هذا حلال وهو في الواقع حرام، فيوقعه فيما حرم الله. وهذه جناية منه على شريعة الله، وخيانة لأخيه المسلم، حيث غره بدون علم!. لو أن شخصا سأل عن طريق مدينة من المدن فقلت له الطريق من هنا وأنت لا تعلم، لعد الناس ذلك خيانة منك وغشا وتغريرا. فكيف تتكلم عن طريق الجنة، وهو الشريعة التي أنزل الله، وأنت لا تعلم عنها شيئا؟.
  فيا عباد الله: إن الفتوى توقيع عن رب العالمين، فاحذروا غضبه وسخطه على كل من تعدى حدوده ويقول عليه بغير علم، دعوا التوقيع عنه لمن هم أهل لذلك. ولا تقولوا على الله ما لا تعلمون. قال تعالى: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين".
 اللهم أعصمنا من الزلل، ووفقنا لصالح القول والعمل. أقول قولي هذا. . .

 الخطبة الثانية
    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
   أما بعد، فأما الصنف الثاني وهم أشد قبحا وأعظم خطرا، إنهم أولئك الذين يفتشون القلوب، ويشقون بزعمهم الصدور، ليطلعوا على ما بداخلها من كفر وإيمان وحب وبغض، ليتمكنوا بذلك من إصدار أحكام صارمة على خلق الله. ويا ليتها أحكام عملية يمكن قياسها ماديا، فتكون حينئذ من اختصاص البشر. لكنها أحكام تتعلق بالإيمان وتوابعه، والإخلاص وآثاره، والقلوب وأسرارها. مشاركين بهذا رب العالمين في أخصّ صفاته تبارك وتعالى. وهو علمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، علمه بالقلوب وما تحويه، علمه بالسرائر، علمه بما لا يطلع عليه من العباد سواه تبارك وتعالى."يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور". "يعلم السر وأخفى"!.
 إن أفراد هذا الصنف نصّبوا أنفسهم قضاة وحكاما على عقائد الناس ونواياهم، فصنفوا الناس حسب أهوائهم فأخرجوا من شاءوا من الإسلام، واتهموا من شاءوا بالنفاق، ووصموا من شاءوا بالبدعة، وأدخلوا من شاءوا الجنة، وأدخلوا من شاءوا النار. ويا لها من جريمة عظمى، يوم يضع المخلوق نفسه في موقع إصدار أحكام لا تكون إلا من الخالق جل وعلا. لقد جهل هؤلاء، أنهم أجهل الناس بأسماء الله وصفاته، والتي منها العليم والرقيب والخبير والحكيم. فجرّهم جهلهم إلى مشاركة الله في صفاته، والتي منها الإطلاع على ما في القلوب، والحكم على النوايا والسرائر.
     تحدث السيرة النبوية: أن أسامة بن زيد رضي الله عنه، أنه خرج في إحدى الغزوات، ولحق بمن فرّ من أعدائه، فإذا برجل منهم يقول: "لا إله إلا الله"، فظن أسامة أن ذلك خدعة من الرجل ليفرّ من سيفه فقتله. ويصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيغضب غضبا شديدا ويحمرّ وجهه وتنتفخ أوداجه، وينظر إلى أسامة منكرا عليه صنيعه ويقول: أقتلته بعد أن قال:"لا إله إلا الله" يا أسامة؟، فيقول أسامة: إنما قالها تعوذا وخوفا من السيف يا رسول الله. فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أشققت عن قلبه؟، كيف لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟، يقول أسامة: فوددت أني لم أسلم قبل ذلك اليوم من شدة إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ماذا نقول لمن هم دون أسامة من قضاة القلوب وحكام النوايا وهواة تصنيف الناس حسب الأهواء والأمزجـة؟ .
  ماذا نقول لأولئك الذين يزرعون أسباب الفرقة والخلاف، ويسعون إلى كل ما يؤدّي إلى التشاحن والتباغض؟.
 ماذا نقول لأولئك الذين يتبعون العورات، ويتلمسون الزلات لإخوانهم؟.
إنهم على خطر عظـيم!. إن الواحد منهم سيسأل يوم القيامة: لماذا كفرت المسلمين؟. لماذا فسّقت المسلمين؟.  لماذا حكمت على النوايا والقلوب؟. هل عندك على ذلك من الله دليل وبرهان؟ .
ألا فليتق الله أولئك المصنفون لعقائد الناس، ألا فليتق الله أولئك الحكام على النوايا والقلوب، فليتقوا الله في كل من قال: "لا إله إلا الله" وكان على معتقد صحيح من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليتركوا ما بطن من السرائر والنوايا لله. عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء به أحدهما". قال ابن بطال في شرح البخاري: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما"، يعني: باء بإثم رميه لأخيه بالكفر ورجع وزر ذلك عليه إن كان كاذبا". وقد روي هذا المعنى من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك"، ذكره البخاري في باب ما ينهى عنه من السباب واللعن في أول كتاب الأدب.
     فاتقوا الله أيها المسلمون: وحاسبوا أنفسكم على ما تقولون، فإنكم عن ذلك مسئولون. واعلموا أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لإله إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك، واغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر يا رب العالمين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق