10 يناير 2012


الموضوع: حقّ الجار   
الخطبة الأولى
     الحمد لله الذي أسعد بجواره من خافه ورجاه، ومنّ بجنته على من امتثل أمره واتّقاه، أحمد سبحانه حمد معترف له بنعماه، وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائل: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره". رواه مسلم.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون .
     أما بعد: - فيا عباد الله -، اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، واعلموا أن الإسلام أكّد حق الجوار وحثّ عليه وجعله كالقرابة وكاد يورثه. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: "مازال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه".
     أيها المسلمون: حق الجار على الجار عظيم في الأديان كلها، والشرائع أجمعها، وهو من فضائل العادات التي كان عليها العرب في الجاهلية، والتي بالغوا في الحفاظ عليهـا مبالغة شديدة، وكانوا يعتزّون بثناء الجار عليهم، ويفخرون بذلك، والضعيف إذا جاور الأقوياء صار قويا، له مالهم، وعليه ما عليهم .
تعيرنا أنـا قليـل عديـــــــــدنا       فقلت لهـا إن الكـرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجـارنا       عزيز وجار الأكثرين ذليـل
وقال عنترة ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍:
وأغضّ طرفي إن بدت لي جارتي    حتى يواري جارتي مأواها
   ولقد أيّد الإسلام هذه الفضيلة وقواها، وأوجب رعاية الجار، ونظم حقوق الجوار من غير إفراط ولا تفريط، ليحيا الناس أمة واحدة، وأسرة واحدة من غير بغض ولا شحناء، قال تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنـب وابن السبيل وما ملكت إيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا". النساء:36 .
ولقد تظافرت الأحاديث النبوية الشريفة وتعددت في هذا الشأن. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت". رواه البخاري ومسلم. وروى الإمام أحمد وغيره، عن أبي شريح رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل يا رسول الله، خاب وخسر، فمن هو ؟ قال: "من لا يأمنُ جاره بوائقه، قالوا: وما بوائقه؟، قال: شره " .
     أيها المسلمون: يتبين في ضوء هذين الحديثين الصحيحين الذين رواهما البـخاري ومسلم رحمهما الله، مدى اهتمام السنة النبوية بتأكيد حق الجوار، ففي الحديث الأول اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر، كف الأذى عن الجار، فلا يتمّ إيمان المؤمن ولا يكمل إلا إذا كفّ نفسه عن أذى جاره في نفسه وماله وعرضه، والحديث الثاني أكد هذا المعنى بأسلوب صارخ، يصدع النفس ويوقظ الوجدان، ويزلزل كيان الذين هم لربهم يرهبون، أقسم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات على نفي الإيمان عن الجار المعتدي الذي لا يأمن جيـرانه شرّه وأذاه، ويعيشون في جواره فزعين، لا يأمنون أن يطلع عليهم في أي وقت بمساءاته وعدوانه. نعم، نقول: خاب وخسر في الدنيا والآخرة، كما هتف بذلك الصحابة رضوان الله عليهم.
     أيها المسلمون: إن مسألة الجوار هذه مسألة ذات خطر، وما أهدر الشارع عين من اطّلع في بيت قوم دون إذنهم إلا حفاظا لحقوق الجوار!. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه". ومظهر الإيمان إنما يتجلى في غضون هذه العلاقة الإسلامية الرائعة، روى الإمام أحمد وغيره، قالوا : يا رسول الله: فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها؟. قال: هي في النار. قالوا : يا رسول الله: فلانة تصلي المكتوبات وتتصدق بالأثوار من الإقِط ولا تؤذي جيرانها؟. قال: هي في الجنة " .
   أيها المسلمون: دلالة هذا الحديث واضحة في أن أذى الجيران سيئة كبيرة، تحبط الأعمال الصالحة، وأن مسالمة الجيران حسنة كبيرة، تسوق صاحبها إلى الجنة.
و لعلك تتساءل – أيها المسلم – من هو جارك؟ .
أقول: لقد اختلف في حد الجوار، قال ابن شهاب والأوزاعي: "أربعون دارا من كل ناحية". كما رواه الطبراني عن كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله: إني نزلت  محلّة بني فلان، وإن أشــدّهم إلـي أذى، أقربهم لي جوارا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر وعليا رضي الله عنهم، يأتون المسجد فيقومون على بابه فيصيحون: "ألا إن أربعين دارا جار، ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه"، أي شروره.  أما عند الإمام مالك – رحمه الله – فليس في ذلك حدّ، والظاهر أنه موكول إلى ما تعارف الناس عليه، فكل مجاور لك عن اليمين والشـمال أو الفوق أو التحت إلى أربعين دارا. فكلهم جيرانك، لهم عليك حقوق وعليهم لك واجبات.
ولقد أجمع الفقهـاء على أنه لا يجوز لأي جار، سواء أكان جارا جانبي أو رأسي– عمارة مثلا– أن يتصرّف في ملكه تصرفا يضرّ بالآخر. وأيضا ليس الضرر محددا في ذاته، بل إنه يختلف باختلاف الأشخاص والمكان والزمان، فما يعدّه العرف والقانون ضررا، ينبغي أن يمنع عنه الجار – كاتّخاذ بجانب الجار مصنعا – أو طاحونا أو غير ذلك، أو إحداث بناء يحجب عنه الريح والضوء .
روى الخرائطي والطبراني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله، فليس بمؤمن، وليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه، أتدري ما حق الجار؟ إن استعانك أعنته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن مرض عدته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار ريح قِدرك إلا أن تغترف له منها، وإن اشتريت فاكهة فاهد له، فإن لم تفعل فادخلها سرّا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده " .
هذه – أيها المسلمون – أهمّ الأصول في حقوق الجوار، وأميز الأسس في معاملة الجيران، فما عليكم إلا أن تسعوا جاهدين في تطبيقها. والله المعين.
نفعنى الله وإياكم...

الخطبة الثانية    
    الحمد لله رب العالمين، و أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم .
    أما بعد: - فيا عباد الله – مثالا لما يجب أن يكون عليه الجار بالنسبة لجاره عناية ورعاية، وإكراما وإحسانا، وإخلاصا ووفاء. نذكر أن البخاري روى عن عبد الله بن عمر، أنه ذبح شاة، فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا؟.  سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه". وقال الخوارزمي في مفيد العلوم، كان لعبد الله بن المبارك جار يهودي، فأراد أن يبيع داره، فقيل له: بكم تبيع ؟ قال: بألفين، فقيل له: لا تساوي إلا ألفا، قال: صدقتم، ولكن ألفا للدار، وألفا لجوار عبد الله بن المبارك، فأُخبر ابن المبارك بذلك، فأعطاه ثمن الدار، وقال: لا تبعها ".
   أما ابن أبي الجهم  فلقد أراد أن يبيع داره، فأعطاه المشتري فيها مائة ألف درهم، فقال ابن أبي الجهم للمشتري: وبكم تشتري جوار سعيد بن العاص؟. فقال المشتري: ما رأيت جوارا يباع، فرجع ابن أبي الجهم عن البيع، وقال: لا أدع جوار رجل يحب معاونتي: إن غبت سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن سألته أعطاني وإن لم أسأله ابتدأني بالعطاء، فلما بلغ ذلك سعيدا، بعث إليه بالثمن وأبقاه في داره"!  .
    أيها المسلمون: هذا غيض من فيض. والأمثلة كثيرة، ولكن أحسب أن ما ذكرته يترك الأثر الأفضل في نفوسكم، ويدفعكم إلى معاملة جيرانكم بالحسنى وكف الأذى عنهم وحمايتهم من كل ظلم واعتداء ووصلهم بالبر والإحسان.
     فاللهم وفقنا لما تحب وترضى، ووفقنا إلى الإحسان إلى جيراننا وأصدقائنا، واغفر لنا ولهم يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى، واغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ومـشايخنا ولجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق