18 يناير 2012


الموضوع: حوادث المرور
الخطبة الأولى
      الحمد لله ربّ العالمين، أمرنا بالتمسك بهذا الدّين لنكون من المفلحين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصا له الدّين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
     أما بعد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". متفق عليه
      أيها المسلمون: في هذا الحديث الشريف بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلّم أنّ الإيمان: عقيدة وعمل، ونظام وأدب، وخلق واستقامة، وهو درجات متعددة، وخلال متشعّبة، ومنازل متفاوتة، عُليا ودُنيا.
 فأفضلها وأعلاها: النطق بكلمة التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كتعبير عن التوحيد الذي لا يتمّ الإيمان إلاّ به، حيث أن هذا القول تتفرّع عنه أركان الإيمان بالرسل والكتب الإلهية والملائكة واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه.
 وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، وهذا كعمل سلوكي يعبر عن باقي الأعمال والعبادات. سواء أكانت عبادة خالصة كالصلاة والزكاة وما نحوهما، أو أعمال صالحة حث الشرع عليها لتحقيق المصالح التي لابد للناس منها، كالزواج والبيع وما إليهما. فالإيمان إذا استُعمل مطلقا فمعناه جميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة.
    ولقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلّم هذا الوصف ـ إماطة الأذى عن الطريق ـ لشدّة أثره في حياة الناس، ولقد كان إعجازا إلهيا أن ينصّ النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الخصلة بذاتها باعتبارها جزءا أساسيا من الإيمان .
   أيها المسلمون: إن آداب الطريق وأخلاق السير مشكلة كبرى للإنسانية، اهتمت بها التشريعات السماوية والتشريعات الوضعية، لأنّ صلة الناس بالطرقات ضرورة، وارتباط الناس بأخلاق السير واجبة. فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس في الطرقات"، فقالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا بدّ، نتحدث فيها!. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حقّ الطريق يا رسول الله؟ قال: "غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر". متفق عليه.
     أيها المسلمون: لقد حاور النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه فيما يتعلق بالطرقات، ورسم لها حقوقا، إنها حقوق اجتماعية واجبة على كلّ جالس ومتحرّك من أبناء المجتمع، فإماطة الأذى من شعب الإيمان.
     ماذا يعني الأذى؟. إنّ الأذى في اللغة يعني الضرر الحسّي والضرر المعنوي، ويا ليتنا لا نجد للأذى مكانا إلاّ في كلمات اللغة!. ولكن ما أكثر مظاهر هذا الأذى في البيوت والمستشفيات. ليس غريبا ولا عجيبا أن يُطلق بعض الإعلاميّين والمتابعين لحوادث السيارات لهذا الأذى، بإرهاب الطرقات.!
هذه الحوادث المرورية أرّقت الجفون وأراقت العيون! وما لها ألاّ تفعل؟ 
 لقد كشفت مصالح الدرك الوطني، أن حصيلة عام (2009م) خلّفت أزيد من (24715)حادث، و(3829) قتيل، و(43782) جريح. وبهذا فالجزائر تحتل المرتبة الخامسة عالميا.
حقا إنها لمأساة مروّعة، وصور مزعجة، وظاهرة تستوجب الإهتمام!.
     أيها المسلمون: ليت الناس وخاصة مستعملي الطرق ـ راكبين ومشاة ـ ينفذون هذا التوجيه النبوي ويميطون الأذى عن الطريق.
     نعم ـ يا عباد الله ـ كثرت حوادث المرور في عصرنا كثرة فاحشة، وأصبح الأذى سمة بارزة وظاهرة محيّرة. وذلك لأن بعض سائقي السيارات متهورين، لا يراعون حرمة النفوس، ولا يبالون بقانون المرور، يسيرون بسرعة جنونية داخل العمران وخارجه، في الطريق المستقيم أو شديدالمنعرجات، غير مبالين بالإشارات المنبّهة والمحذّرة، ربما يجاوز أحدهم وهو لم يضمن السلامة، أو ربما ركب سيارته وهو لم يضبط أو يفحص أجهزتها.
وبالطبع تكون العاقبة حوادث مؤلمة، ينتج عنها خسائر في المال والأرواح، وحسرة وندم في قلوب مسبّبيها، وقديما كانت العرب تكنّي العجلة بأمّ الندامة.
     ألا تعلم أيها السائق لو أن شخصا أراد أن يسير بسرعة مائة كلم في الساعة، فسار بسرعة ثمانين. كم تأخر ؟.
 إنه لم يتأخر سوى اثنتي عشرة دقيقة في سير ساعة كاملة. ما أيسر هذا التأخر الذي به وقاية النفس والمال من الخطر، إن السرعة لا تقرّب المسافات بل تبعدها !.
      أيها المسلمون: أعود فأقول إنّ حوادث السيارات كثرت، ونتائجها أرعبت، لأنها لم تستعمل على الوجه الصحيح، بل بطرق عشوائية، ولم يلتزم سائقوها بقواعد السير وأنظمته. وفي ضوء هذه الظواهر المؤلمة أصبحت هذه الوسيلة مصدر خطر على الأفراد والجماعات. ألا يعلم هؤلاء أنّ من أفرط في السرعة أو لم يحترم إشارات المرور وتسبّب في حادث فهو مُدان؟ . نقل الشيخ أحمد حماني رحمه الله في فتاويه عن القاضي أبي الوليد بن رشد أنه: "إذا أصابت الدابة أحدا وعليها راكب أو لها قائد أو سائق، فإن الراكب لها أو السائق أو القائد هو المصيب.  ولكن خطأ ".  ثم قال رحمه الله: "والسيارة في حكم الدابة". اهـ. (ج2:ص:305).
و جاء في فتوى لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف: "إن السّرعة المفرطة مع وجود مانع قانوني إن نجم عن ذلك حادث قتل، فإن المتسبّب فيه مُدان، ويستحق أن تطبق عليه العقوبات المنصوص عليها في القانون كما تترتب عليه الدية والكفّارة". (رسالة المسجد العدد4لعام 2003).
       أيها المسلمون: إن الكفّارة والدّية عقوبتان تجبان على كلّ من تسبّب في قتل مسلم. أما الكفارة فهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد كما هو الواقع، فصيام شهرين متتابعين، إن أفطر من غير عذر شرعي قبل تمامهما ولو بيوم، وجب عليه استئنافهما من جديد، وهذه الكفارة هي حق الله تعالى، لا تسقط ولو عفا أهل القتيل، وهي تتعدد بتعدد الأموات، فإن كان الميت واحدا فشهران، وإن كانوا اثنين فأربعة شهور.
 أما الدية فهي حق لأهل القتيل، ومقدارها ألف دينار ذهبي، وهو ما يعادل: (4كلغ و250غ من الذهب). وقيمتها بالدينار لعامنا هذا(2009م) هو: (11475000.00دج ).
عباد الله: وحيث أن هذا المبلغ باهض فقد جعلت الشريعة الإسلامية دية الخطأ على عاقلة  القاتل وهم أهله، كما يمكن التصالح مع أهل القتيل على مبلغ يتراضيان به عملا بقوله: "ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله إلاّ أن يصدّقوا". النساء:92.
  أيها المسلمون: أعرف أن قدر الله لا يُردّ، ولكن أعرف أن من قدر الله ضبط النفس، وضبط قواعد المرور، وضبط أجهزة السيارة.
    فاتقوا الله في أنفسكم وفي إخوانكم، واشكروا الله على ما أنعم به عليكم في هذا العصر من السيارات التي  تحملكم، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ الأنفس. وكونوا ممن لا تزيده النعم إلا طاعةً لله واستقامةً على أمره، ولا تكونوا ممّن أبطرته النعمة واستعان بها على المعصية، والتزموا في هذه الحياة نهجا يصلح لكم الدين والدنيا معا، ويعصمكم من تفريط الجاهلين ومزالق الخاطئين. واذكروا على الدوام قول رسول الملك العلام: "اتقّ الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
 نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم.
الخطبة الثانية
       الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    أما بعد، فيا عباد الله: إن تنظيم المرور وإماطة الأذى عن الطريق لا يأتي جزافا ولا يتحقق عفوا. قال تعالى: "إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم". فالمشكلة الكبرى وأساس الأزمة هو العنصر البشري، وقد ظهر هذا في بحث لمجموعة الدرك الوطني لولاية سيدي بلعباس عام (2009م). قال صاحب البحث مشكورا: "عدد ضحايا الطريق يزداد بصفة محسوسة، حيث أضحت حوادث المرور آفة اجتماعية تحصد آلاف الضحايا"،  ويضيف صاحب البحث فيقول: "من خلال التحليل للأسباب الرئيسة لحوادث المرور يتبين أنّ العنصر البشري ـ سائقين وراجلين ـ  يتصدّر الطليعة في وقوع الحوادث وذلك بنسبة: 83% ".
   أيها المسلمون: أعلم وتعلمون أن القوانين تفرض عقوبات رادعة لمخالفي قانون المرور، ولكن ـ أحسب ـ  أنها لا تؤدّي نتائجها، ولا يزول هذا الأذى من طرقاتنا إلا إذا طبقنا إحدى الشُّعَب التي ذُكرت في الحديث النبوي الشريف، فالشعور الداخلي بجمال الخير وقبح الشر، بحيث تنفر النفس من الشيء القبيح، وتسرّ  بالشيء الجميل، إن هذا الأمر لا يحدث إلا بالمعرفة الصحيحة بما جاء به الدين، هذه المعرفة تتحوّل من فكرة إلى شعور، ومن عِلم إلى تذوّق. فيستطيع الإنسان أن يفرق بين الخير والشرّ، والنافع والضارّ، والمباح والممنوع، بحيث يصبح مؤمنا يستفتي قلبه، وإن أفتاه أهل الفتوى، وإن خلا الطريق من رجال شرطة المرور. فالحياء لا يأتي إلا بخير، ولهذا شوّق النبيّ صلى الله عليه وسلّم أصحابه ورغّبهم في أن يتحلّوا بالحياء. فقال: "والحياء شعبة من الإيمان".
   أصدر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قانونا يمنع غشّ اللبن، وذلك بخلطه بالماء، ولكن هل تستطيع عين القانون أن ترى كلّ مخالف، وهل تستطيع يده أن تقبض على كلّ غاشّ. الإيمان هو الذي يعمل عمله في هذا المجال.
ها هي الأمّ تقول لابنتها: "قومي إلى اللبن فامذُقيه"، ( اخلطيه بالماء). ولكن هذه البنت تذكّر أمّها بأن أمير المؤمنين منع هذا. فتقول الأم: "أين نحن من أمير المؤمنين، إنه لا يرانا؟. وتردّ الإبنة بالجواب المفحم: "إن كان أمير المؤمنين لا يرانا، فربّ أمير المؤمنين يرانا"!
هذه هي أخلاق المجتمع المسلم في دفع الأذى، فالأخلاق التي لا يرعاها ضمير مؤمن، فهي على حدّ قول الشاعر: 
كمثل الطّبل يسمع من بعيد   وباطنه من الخيرات خال
فهل نجد سائقا يتوقّف أمام إشارة الوقوف الإجبارية دون مراعاة لرجال شرطة المرور؟.
وهل نجد سائقا يسير بسرعة متّزنة غير خائف من جهاز رصدِ السرعة. (الرادار)؟.
وهل نجد مارّا يعبُر الطريق من الممرّ الخاص بالراجلين امتثالا لضميره وإيمانه؟. 
     أيها المسلمون: إنّ هذا هو الإيمان، فالإيمان ليس مجرّد إدراك ذهني أو تصديق قلبي غير متبوع بأثر عملي في الحياة.. كلا، إنه اعتقادٌ وعملٌ وإخلاصٌ. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة: فأفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
  فاتقوا الله ـ عباد الله ـ: واستمعوا إلى توجيه نبيكم صلى الله عليه وسلم، واعلموا أن الطريق مرفق عامّ، من حقّ كل شخص الإستفادة منه دون أن يتعرَّض لأذىً أو مضايقة من أحد، والمطلوب من المسلم أن يُبعد ويَبتعد عن كل ما يسبّب ضررا للآخرين.
     وفّقني الله وإياكم إلى كل خير، وجنّبني وإياكم كل شرّ. اللهم حبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بين بيننا واجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفّق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى وخذ بنا صيته إلى البرّ والتقوى. واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولمشايخنا ولجميع المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصلّ اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق