الموضوع: التماس رضا الله
الخطبة الأولى
الحمد لله العليّ القدير، أحمده سبحانه وهو اللطيف الخبير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيا عباد الله: موعظة بليغة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، جديرة بأن تنقش على صفحات القلوب، وأن يتعرّف إلى ما تهدف إليه كل مخلص لدينه، مهتد بهدايته.
كتب معاوية رضي الله عنه إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن اكتبي إلي كتابا توصيني فيه ولا تكثري عليّ. فكتبت رضي الله عنها:
"إلى معاوية سلام عليك، أما بعد: فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكّله إلى الناس، والسلام عليك". رواه الترمذي في سننه.
أيّها المسلمون: ليس من شكّ أن كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، وكل عاقل حصيف، لا يفضّل رضا أحد من الناس، مهما ارتفع قدره، وعلا شأنه على رضا الرب المعبود، من بيده مقاليد الأمور.
إنه لا يليق بالمؤمن أن يعيش في الدنيا، تتوزّعه هموم كثيرة، وتتنازعه غايات شتّى. هاته تميل به إلى اليمين، وتلك تجذبه إلى الشمال، فغير المؤمن في صراع دائم داخل نفسه، وهو في حيرة بين إرضاء غرائزه، وبين إرضاء المجتمع الذي يحيا فيه. ومرة أخرى أيّ الأصناف يرضيهم ويسارع في هواهم في المجتمع الذي يعيش فيه؟ وهيهات.. هيهات، فإن رضا الناس غاية لا تدرك.
إذا رضيَت عنّي كرام عشيرتي فلا زال غضبانا عليّ لئامها
ولعلكم ـ أيها المسلمون ـ تذكرون تلك الحكاية الشهيرة. حكاية الشيخ وولده والحمار. ركب الشيخ ومشى ولده وراءه، فتعرض الشيخ للوم النساء، وركب الولد ومشى الشيخ، فتعرض الولد للوم الرجال، وركبا معا فتعرّضا للوم دعاة الرفق بالحيوان، ومشيا معا و الحمار أمامهما فتعرضا لنكت أولاد البلد. فاقترح الولد أن يحملا الحمار ليستريحا من لوم اللائمين. فقال له الأب: لو فعلنا ذلك لأتعبنا أنفسنا ولرمانا الناس بالجنون، حيث جعلنا المركوب راكبا، يا بني: لا سبيل إلى إرضاء الناس.
ومن في الناس يرضي كل نفس وبين هوى النفوس مدًى بعيد؟
لكن، أيها المسلمون: إنّ المسلم قد استراح من هذا كله، وحصر الغايات كلها في غاية واحدة، عليها يحرص، وإليها يسعى، وهي رضوان الله تعالى، لا يبالي معه برضا الناس أو سخطهم، شعاره:
فليتك تحلو والحياة مريـــــــــرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمـــــــين خــراب
إذا صحّ منك الود فالكل هيّن وكل الذي فـوق التراب تراب
ولنسمع ـ جميعا ـ هذه القصة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد، لنرى ما يصنعه الإيمان بالقلوب المؤمنة.
قدم وفد تَجيب وهم من السَّكُّون باليمن، ثلاثة عشر رجلا مسلما. فسُرّ بهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأكرم منزلتهم، وأمر بلالا أن يكرم ضيافتهم، وجعلوا يسألون النبي ويتعلمون منه. وأقاموا أياما ولم يطيلوا المكث، رغبة في رجوعهم إلى قومهم ليعلّموهم مما علّمهم رسول الله. ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يودّعونه. فأرسل إليهم بلالا، فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود. ثم قال: "هل بقي منكم أحد؟، فقالوا: نعم. غلام خلّفناه على رحلنا، هو أحدثنا سنّا. قال: "أرسلوه إلينا"، فلما رجعوا إلى رحالهم. قالوا للغلام: "انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض حاجتك منه، فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودّعناه". فأقبل الغلام حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله إنّي امرؤٌ من بني أبذَى،- يقول من الرهط الذين أتوك آنفا فقضيت حوائجهم- فاقض حاجتي يا رسول الله. فقال: "وما حاجتك؟". قال: إنّ حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإنّي والله ما أقدمني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني وأن يجعل غناي في قلبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل الغلام: "اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه". ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم.
ثم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى سنة عشر من الهجرة، فقالوا: نحن بني أبذَى، فقال رسـول الله صلـى الله عليه وسلم: "ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟". قالوا يا رسول الله: ما رأينا مثله قطّ، وما حُدّثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر حولها ولا التفت إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله إني لأرجوا أن يموت جميعا". فقال رجل منهم: أوليس الرجل يموت جميعا يا رسول الله؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "تتشعّب أهواءه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله عز وجل في أيّها هلك". قالوا: فعاش الغلام فينا على أفضل حال وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزقه الله!.
فلما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه فذكّرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق يذكره ويسأل عنه حتى بلغه حاله وما قام به، فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيرا .
أيها الناس: إن أمثال هذه النفوس الربانية لا تستميلها رياح المطامع والرغائب، ولا تعصف بها عواصف الخطوب والنوائب، إنهم أناس رضوا عن الله ورضي عنهم. أخلصوا له، فأجزل لهم العطاء، فعاشوا في الدنيا يمتلكون كل السعادة والهناء.
فاللهم إنا نسألك أن تجعلنا منهم. أقول قولي هذا ...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، فيا عباد الله: لقد استمعتم إلى قصّة هذا الشابّ الذي عمر الإيمان قلبه، فلم يجعل همّه ما يشغل كثيرا من الناس من زهرة الدنيا، بل تعلقت همّـته بما عند الله، ممّا هو خير وأبقى، حين طلب حاجته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت حاجته غير حاجة رفاقه، بل غير حوائج أكثر الناس، كانت حاجة دينه قبل دنياه، حاجة روحه قبل جسده، حاجته من الرسول أن يسأل الله له المغفرة والرحمة، وأن يجعل غناه في قلبه، حاجته -ولا ريب- قرّت بها عينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقد ودّعه وعاد إلى أهله ووطنه. ولكن الرسول الخبير بنفوس الرجال لم ينس هذا الشاب على بعد المكان ومرور الزمان. وفي موسم الحجّ سأل عنه قومه سؤال المربي العارف عن التلميذ النجيب، وأجابوه بما سرّ قلبه وحمد الله عليه وقال كلمته الناصعة الفريدة: "إني لأرجو أن يموت جميعا".
عباد الله: الناس يموتون على ما عاشوا عليه، فمن عاش جميعا، مات جميعا، ومن عاش أوزاعا شتى وأجزاء متناثرة مات كما عاش ، وقليل من الناس بل أقلّ من القليل ذلك الذي يعيش لغاية واحدة، ويجمع همومه في همّ واحد يحيا له ويموت عليه، ذلك هو المؤمن البصير، الذي جعل غايته الفرار إلى الله، وسبيله اتباع ما رسم الله، وكل شيء فيه لله وبالله، نشيده: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين".
روى الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا هِمّته وسَدمه، ولها شَخص، وإياها ينوي جعل الله الفقر بين عينيه وشتّت عليه ضيعته، ولم يأته منها إلا ما كتب له منها، ومن كانت الآخرة همّته وسدمه ولها شخص، وإياها ينوي، جعل الله عز وجل الغنى في قلبه، وجمع عليه ضيعته، وأتته الدنيا وهي صاغرة ".
أيها المسلمون: في هذا البيان الشافي ما يحفّز أرباب اليقين في الله، أن يحرصوا كل الحرص على بلوغ رضاه والتعلق به دون سواه، فهو المعطي النافع الضّار، وهو على كل شيء قدير.
فاللهم إن نسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، واجعلنا من عبادك الصالحين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك يا خير الشاكرين. ربنا اغفر لنا ولجميع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق