29 يناير 2012


الموضوع: صبراً ياآل غزّة!
الخطبة الأولى 
      الحمد لله رب العالمين، لا يحمد على مكروه سواه، سبحانه امتحن عباده بالشدائد ومصائب الحياة، حتى يعلم المجاهدين منهم والصابرين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور". (الملك:2). وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلفه وحبيبه، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
      أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه في السراء والضراء، وفي الخلوات والجلوات. "اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون".
       أيها المسلمون: روى أبو داود في سننه، والإمام أحمد في مسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟. قال: حب الدنيا وكراهية الموت".
     أيها المسلمون: هذا رسول الله يحذرنا أشد التحذير، ويبين لنا خطر ما يخشاه علينا. أن نكون يوما كثرة عددية لا قيمة لها ولا قوام، وإن ما يعيشه العالم الإسلامي اليوم من مأساة إنسانية، ليست هي الأولى في حياة المسلمين، ولن تكون الأخيرة، فالمسلمون مستهدفون في كل زمان ومكان، والإسلام سيضل مستهدفا من أعدائه طالما ضل المسلمون متفرقين ومتخاذلين.
     نعم. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، على ما يحدث هذه الأيام من غزو مسلح على إخواننا في فلسطين، وخاصة في غزة، من تدمير لبلادهم، وسفك لدمائهم، وقبل ذلك وبعده، ما يحدث من حرب لدينهم وعقيدتهم. إن هذا لأمر تتصدع من هوله القلوب، وتنفطر منه الأفئدة الحية، وسط تخاذل مؤسف من أمة قوامها مليار، بل يزيدون.
   ها هي إسرائيل ترتكب جرائمها في وضح النهار، وتحت سمع العالم وبصره، لا تقيم وزنا لكل الشرائع والمواثيق والأعراف الدولية. حشدت قواها، وجمعت آلياتها، لم تراع شيخا كبيرا، ولا طفلا صغيرا، حوّلت ليل غزة إلى نهار بفعل القصف والنيران. حتى أن أشهر الإعلاميات بالقنوات الإسرائيلية بَكَين على غزة من هول ما شاهدن، ومنهن "يونيت ليفي"، مقدمة نشرة الثامنة في القناة الثانية الإسرائيلية. (انظر جريدة الشروق ع:2508سنة :2009 ).
وإذا العدوّ بكى لخطب عدوّه   فاعلم بأنّ الخطب لا يطاق
 محنة مفجعة، وكارثة مروعة، تتعالى في جنباتها صرخات المستضعفين وصيحات المستنجدين التي لا تجد من يجيبها سوى دوي الإنفجارات وتتابع الصواريخ والطلقات.
     ماذا أقول أيها المسلمون؟. و قد رأيتم بأمّ أعينكم منذ أعوام مضت، أن الشياطين قد عادوا إلى أولى القبلتين وثالث الحرمين، ليلعبوا فيه من جديد دور الإفساد الذي ورثوه عن أسلافهم وآبائهم، ها هم قد تكتلوا وتجمعوا من هنا وهناك على سلبه واغتصابه من أهله و تثيبيت أقدامهم فيه .
    نفسي تذوب أسى و القلب يجرحه    مما عدا ببلاد الشام أرزاء
  فأين مسرى رسول الله وقد وطئت  به اليهود. فهل للحق أبناء؟
      ماذا أقول؟. وقد عاد سفّاحوا "صبرا وشاتيلا" إلى غزة متحدّين بذلك عزّة الإسلام،  ومهينين لأكثر من مليار ممن يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقرحت أكباد الصالحين كمدا مما يجري هناك، مناظر مفزعة متتوالية، وعربدة صهيونية غادرة، قتلٌ بطريقة وحشية، مسلسلاتٌ من الرّعب.
   آلمنا ذلك وأحزننا، وكذلك الخيرين من هذه الأمة!. وكيف ونحن كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". رواه البخاري.
إن فلسطين عضو من أعزّ الأعضاء من هذا الجسد، زعزعته النكباء، وإن ما حلّ بغزة نذير من النذر، وصيحة من صيحات الحق، فهل فينا من مدّكر؟.
     أيها المسلمون: إن ما جرى ويجري في غزة ليس جديدا، فهل ننسى أو نتناسى مذبحة "دير ياسين" عام 1944 م، ومجزرة "كفر قاسم" عام 1956م، ومجزرة "تل الزعتر" عام 1976م، ومجزرة "صبرا وشاتيلا" عام 1982م، وهل ننسى إحراق المسجد الأقصى عام 1969م .
  إنّ ما يحصل هذه الأيام من مجازر بشعة، ما هو إلا حلقة في سلسلة طويلة من المجاز والمذابح، والوحشية اليهودية. ولكن دائما وأبدا: الشعب الفلسطيني يضرب أروع الأمثلة في حب الموت واسترخاص الدنيا، والإستعلاء على خور النفس، وتحطيم رهبة العدو في النفوس. نعم إن هناك عِزّة في غزة . وكأن شهيدهم يقول:
  كرامة الأمة العصماء قد ذبحت     وغيّبت تحت أطبـاق من الطين
لكنها سوف تحيا من جماجمنا     وسوف نسقي ثراها بالشرايين
     أيها المسلمون: إن المراسلين الصحفيين يصفون ما يجري هناك، من طائرات تصب جامّ غضبها على الرّضيع والشيخ والمرأة والعجوز، والمدفعية تمطر حِمَمها فوق رؤوس العزل. شهيدٌ تلو شهيد. والسؤال إلى متى؟.
 مناظر حفرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل في قلب كل مسلم، ملامح سطّرتها أشلاء الرجال بألوان الدم القاني وجماجم الشهداء. قال الشاعر صالح علي العمري
  و في المحيا سـؤال حــــــائر قلـق   أين الفداء و أين الحب في الديـــن؟
   أين الرجـولة و الأحـداث دامية     أين الفتـوح على أيـدي الميـاميــن؟
ألا نفـــــوس إلى العليـــاء نافــرة         تــواقـة لجنـــان الحـــور و العيـــن
   يـا غيرتي أيـن أنت؟ أين معذرتي؟ ما بال صوت المآسي ليس يشجيني
أين اختفت عزّة الإسلام من خلدي  مـا بالها لم تعـد تغـذ شراييـني؟
   أيها المسمون: وإن كنا نحن الجزائريين قد تنوقلت عنا مقولة: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة". (الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله). فإنّي بلسانكم ولسان الجزائريين كلهم من الأجنة في بطون الأمهات، إلى الذين هم في الأجداث، أرفع الشكوى إلى الله، وأقول: اللهم إنّ هؤلاء الصهاينة أهلكوا الحرث والنسل، وأفسدوا في الأرض أيما إفساد، اللهم فشلّ أركانهم، ودمر كيانهم، واجعل الدائرة عليهم.
  وأقول لإخواني هناك: صبرا يا آل غزة، أبشروا وأمّلوا ما يسركم. فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر :يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال: فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود".
  أيها المسلمون: إن هذا الحديث لإشارة وبشارة من نبي صادق عظيم، تأتي في هذه الفترة العصيبة التي تكاد تأخذ بالخناق، والتي يشعر فيها كل مسلم بالأسى والحزن لما يصيب حوله من إخوان له في العقيدة من تقتيل جماعي.
أقول: في هذه الآونة تأتي بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن الدنيا لا يمكن أن تزول حتى تقع المعركة الفاصلة بين المسلمين واليهود، والتي ينتصر فيها جند الرحمن على جند الشيطان، وتكون الغلبة لعباد الله المؤمنين، تصديقا لقول الحق تبارك وتعالى: "وإن جندنا لهم الغالبون". الصافات:173. وقوله تعالى: "وكان حقا علينا نصر المؤمنين". الروم:47.
     فيا أيتها الأمة المسلمة: خذي دروسا من أخطائك الماضية، وتجنبيها في مستقبلك، وانتهجي نهج السلف في عزتهم وإبائهم وتضحيتهم وجمع كلمتهم وتوحيد منهجهم.
فهذه الجزائر التي بدّد الإستعمار شملها، واضطهد أهلها، ودك أركانها، لمّا فطنت أن القضاء عليها إنما كان لتخاذل أفرادها، وتهاونها بتعاليم دينها. أخذت توثق عرى وحدتها، وتنشر العلم والدين بين أبنائها، وأعدت ما استطاعت من قوة ونفوس قوية، وتضرعت إلى ربها أن يعيد لها استقلالها ويرجع لها مكانتها. وهبها قوة من قوته، وأمدها بجند من جنده ، فطهّرت أرضها من أرجاس الإستعمار، وكذلك ينجي الله المؤمنين .
     ويا رعاكم الله: إننا ولله الحمد نعيش منجاة من القتال وأهواله، والحروب وبلاياها، ومالنا عدو يحاربنا، وما عدونا إلا من يحارب إخواننا في الملة والدين. أولئك هم أهلنا في فلسطين، الذين يبتلون في سبيل الله، ويُبدون من الصبر والثبات والشجاعة ما هو جدير بأمثالهم. فلا يسعنا إلا أن نعلن عن تضامننا معهم، ونضم أصواتنا إلى أصواتهم، ونرفع احتجاجنا ضدّ أعدائهم، ونسأل الله أن ينصرهم و يثبت أقدامهم.
    عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"، ثم قال صلى الله عليه و سلم: "اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب .اللهم أهزمهم وانصرنا عليهم". رواه البخاري ومسلم.
   اللهم آمين. أقول قولي هذا. وأستغفر الله لي و لكم...

الخطبة الثانية 
   الحمد لله إيمانا بقدر الله، والحمد لله صبرا على قضاء الله، والحمد لله شكرا على لطف الله. قضى وقدر ولطف، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
    أما بعد، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح طويل، أنه قال: "لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم من شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل الله عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء الفتنة، فيرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة  فيقول المؤمن: هذه مهلكتي. ثم تنكشف، وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه..  هذه, فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهم يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت للناس الذي يحب أن يؤتى له ". رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
      أيها المسلمون: ليس بعد هذا البيان النبوي لواعظ أن يقول شيئا، ولكن ليذكر الجميع قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد طُلب للصلح في الشام أوفي بيت المقدس من أجل حلّ القضية، ومن أجل أنهم استسلموا. فنزل عمر في واد فيه ماء، ثم نزل من على راحلته، ووضع نعليه في عصاه، وعلقها على جنبه، فقال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين وددت أنهم رأوك على حال أحسن من هذه؟. قال: "يا أبا عبيدة لو غيرك قالها لجعلته نكالا، إنا أمة، إنما أعزنا الله بالإسلام، فإذا التمسنا العزة من غيره أذلنا الله". رواه الحاكم في كتاب الإيمان.        
   اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم هيئ لإخواننا في فلسطين والعراق وفي كل مكان، نصرا عزيزا  تعز به أهل طاعتك، وتذل به أهل معصيتك. اللهم لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، اللهم أرنا في اليهود يوما أسود، دمرهم كما دمرت عادا وثمود، اللهم و احفظ بلاد المسلمين، ووحد كلمتهم، وانصرهم على من عاداهم يا رب العالمين، اللهم لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، واغفر لنا ذنوبنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، اللهم أعنه على أمور الدنيا والدين، واغفر لنا وله ولجميع المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق