الموضوع: صلاة الجماعة وتسوية الصف
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد، فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم ملاقوه. فقد فرض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدودا فلا تنتهكوها. واعلموا أن نبيّكم عليه الصلاة والسلام كان حفيّا بعبادة ربه جميعها، بيد أن حفاوته بالصلاة تقف وحدها بين تلكم الحفاوات. إنه –صلى الله عليه وسلم - يدرك ما للصلاة من منزلة عند الله. وحين نأخذ مشهدا من المشاهد، وهو واقف في الصلاة بين يدي ربه الأعلى، ندرك جلال الموقف التي تمثله الصلاة، يصف أحدَ هذه المشاهد واحدٌ من أصحابه فيقول: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء". رواه أبو داود والنّسائي وغيرهما.
ويصف الإمام علي كرم الله وجهه مشهدا آخر في أيام غزوة بدر فيقول: "ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، وهو يصلي ويبكي حتى أصبح". رواه الإمام أحمد...نعم!. ألم يقل صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرّة عيني في الصلاة؟". رواه النسائي.
أيها المسلمون: لقد بلغ من هُيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة وتقديسه إياها، أن جعل الخطا إليها خطىً إلى الجنة، لأنه يريدها مهرجانا دائما لعبادة الله وتحميده وتمجيده.
لقد أعطى لصلاة الجماعة كل اهتماماته وكل دعواته وصلواته وبركاته، قال صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في الجماعة تضعف- أي تزيد- على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطّت بها خطيئة. فإذا صلـّى لم تزل الملائكة تصلـي عليه مادام في مصلاه، ما لم يحدث تقول: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في الصلاة ما انتظر الصلاة ". متفق عليه، وهذا لفظ البخاري عن أبي هريرة.
أليس هذا مهرجانا من المثوبة والعطاء والرضوان والبر، يقيمه الله للذين أقاموا لجلاله مهرجانات العبادة والصلاة. قال تعالى: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه..". النور: 36. هذه البيوت التي تنزّل حبها على قلب الرسول الكريم، فأحاطها برعاية وتكريم يتعاظمان كل وصف.
يقول في بنائها: "من بنى لله مسجدا صغير كان أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة". رواه البخاري ومسلم.
ويقول في الحفاظ عليها: "جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسلّ سيوفكم، واتّخذوا على أبوابها المطاهر وجمّروها في الجمع". رواه ابن ماجه والبيهقي. ويقول: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: "لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم الرجل ينشد ضالّته في المسجد فقولوا: لا ردها الله لك". رواه الترمذي .
إنه إصرار جميل ونبيل، على أن تبقى بيوت الله، لله !.
أيها المسلمون: ماذا نأخذ به أنفسنا من حياء وأدب، حين ندخل على رئيس أو وزير؟ . إنك في المسجد تجلس إلى ملك الملوك، رب العالمين، وإذا أخطأت المجلس في بيته ومسجده، فإن خسرانك فادح مبين .
لقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فرأى رجلا جالسا مشبكا أصابعه بعضها في بعض فنهاه، وقال: "إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكنَّ فإن التشبيك من الشيطان". رواه الإمام أحمد. لأن أجر الجلوس في المسجد كأجر الصلاة، وله ثواب قريب من ثوابها. يقول صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه". رواه الإمام أحمد.
نعم، أيها المسلمون: لقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة جلوسنا في المسجد أن تكون مهذّبة وخاشعة، لأنك في المسجد لا تجالس جماعة المؤمنين من الناس فحسب، إنك هنا مع خلق آخرين، من الملإ الأعلى، مع الملائكة الله رب العالمين.
وكم كان – صلى الله عليه وسلم – حريصا على إقامة الصفوف وتسويتها بالقول والفعل. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "سوّوا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة ". متفق عليه. وللبخاري: "من إقامة الصلاة "، ولأبي داوود: "رصّوا صفوفكم، وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق". وله من حديث ابن عمر أن النبـي صلى الله عليــه وسلـم قال: "أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدّوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان".
نفعني الله وإياكم بما قلت، وبارك لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد : فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوّي صفوفنا، حتى كأنما يسوّي بها القداح، حتى رأى أنّا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوما، فقام حتى كاد يكبّر فرأى رجلا باديا صدره من الصف، فقال عباد الله: "لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم". رواه أبو داود.
هذا – أيها المسلمون – وعيد شديد على من لا يسوّون الصفوف، أن يخالف الله بين قلوبهم فتختلف وجهات نظرهم، وتضيع مصالحهم.
لقد أدرك ذلك الخلفاء الراشدون والأئمة المتّبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الموطإ عن أمير المؤمنين عمر بن خطاب رضي الله عنه: " أنه كان يأمر بتسوية الصف، فإذا جاءوه فأخبروه أن قد استوت كبّر، وكان قد وكّل رجالا بتسوية الصفوف". وعن أنس رضي الله عنه قال: "أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصّوا فإني أراكم من وراء ظهري". متفق عليه. وفي رواية للبخاري: "فكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه". قال الحافظ في الفتح: "وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يتم الإحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصفّ وتسويته، وزاد معمر في روايته: ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس"ـ البغل الشموس الذي لم يركب ظهره بعدـ وكلام أنس رضي الله عنه، يشعر أن الناس فرطوا في هذه السُّنة في وقت مبكر، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
فاتقوا الله – عباد الله – وحافظوا على تسوية الصفوف، وعلى المراصّة فيها، وسدّ خللها، والمقاربة بينها، ووصلها بتكميل الأول فالأول. واحذروا عقوبة قطعها، فإن من قطع صفا قطعه الله. قال صلى الله عليه وسلم: "أتموا الصفّ المقدّم ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصفّ المؤخّر ". رواه أبو داود. ورأى في أصحابه تأخرا، وفي لفظ: رأى قوما في مؤخر المسجد فقال: "تقدموا فأتمّوا بي وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله". رواه مسلم وأبو داود وغيرهما .
فهل ترضى لنفسك – أيها المسلم- أن يؤخّرك الله؟.
وهل ترضى لنفسك بأن تكون في شر الصفوف، وهو آخرها مع تمكنك من أولها؟.
وهل ترضى أن لا تصفّ بين يدي ربك كما تصف الملائكة، "يتمّون الصفوف الأوَّل ويتراصون في الصف". رواه مسلم؟.
جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعلنا وذرياتنا من الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، و انصرنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، وانصرنا على أعدائنا حتى نسعد بظهور دينك، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق