الموضوع: الترهيب من الغيبة
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، نحمده حمد الشاكرين، ونتوب إليه ونستغفره، ونسأله أن يجنّبنا موارد الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، خلق الإنسان وعدّله، وألهمه نور الأيمان فزينّه به وجمّله، وعلمه البيان فقدّمه به وفضّله، سبحانه خلق الإنسان، عـلمه البــيان. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه القائل: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت". اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه صلاة يوازي عددها عدد ما كان من خلق الله وما سيكون، ويحظى ببركتها الأولون والآخرون، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، اتقوه سبحانه باجتناب مسا خطه ومناهيه، والقيام بفرائضه ومراضيه، تدبّروا كتاب ربكم وتفهّموا معانيه.
أيها المسلمون، قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظنّ إن بعض الظن إثم ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم". الحجرات: 12.
عباد الله: تتناول هذه الآية ثلاثة من الأمراض الخطيرة، والتي يقع فيها كثيرون صرعى نفوسهم المنحرفة، وهي سوء الظن بالناس، ثم التجسسّ والبحث عن عيوب الآخرين. وأخيرا الغيبة وتناول الغير بالسوء ونشر الأقاويل بين الناس مما يؤدّي إلى العداوة والبغضاء.
وحديثنا اليوم حول هذه الأخيرة: "ولا يغتب بعضكم بعضا". والغيبة هي: أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه، من الاغتياب. افتعال من غابه المتعدّى، إذا ذكره في غيبته بما يسوءه. ولقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر البشع للمسلمين، حتى يكونوا على بيّنة فلا يقع أحد في شرّ. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته". رواه مسلم .
أيها المسلمون: الآية الكريمة السابقة تصور مدى بشاعة الغيبة، وتشبهها تشبيها قاسيا صارما بشِعا. شبّهت حالة اغتياب المسلم من هو أخوه في الإسلام وهو غائب عنه بحالة أكل لحم أخيه وهو ميّت لا يدافع عن نفسه، إنّ هذا مما تشمئز ّمنه النفوس وتستقذره!. قال قتادة: "كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا لكراهيته الطبع، كذلك يجب أن يمتنع عن غيبته، لكراهية العقل والشرع، لأن دواعي العقل والشرع أحقّ بالإتّباع من دواعي الطبع. فإن دواعي الطبع أعمى، ودواعي العقل بصير". وقد جاء هذا على نهج العرب في كلامهم، قال المقنع الكندي:
فإن أكلوا لحمي وفّرت لحومهـم وإن هدّموا مجدي بنيت لهم مجدا
اخرج ابن أبي حاتم عن السدّي: أن سلمان الفارسي رضي الله عنه، كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما، وأنه نام يوما فطلبه صاحباه فلم يجداه، فضربا الخباء وقالا: ما يريد سلمان شيئا غير هذا. أن يجيء إلى طعام معدود وخباء مضروب؟. فلما جاء سلمان، أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلب لهما إداما، فانطلق فأتاه فقال يا رسول الله: بعثني أصحابي لتُؤدِمهم إن كان عندك، قال: ما يصنع أصحابك بالإدام؟. قد ائتدموا. فرجع رضي الله عنه فأخبرهما، فانطلقا فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: "والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا، قال: إنكما ائتدمتما بسلمان" . فنزلت الآية التي صدرنا بها حديثنا .
أيها المسلمون: إن الإسلام أنشأ حرمات شاهقة لسرائر الناس وأسرارهم، إنه يريدها علاقات نقية صافية، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفض أدنى تسامح في هذا السبيل، فهذه زوجه – الأثيرة – عائشة رضي الله عنها. تذكر صفية بنت حُيَي بكلمة هيّنة عابرة، فيغضب الرسول الله صلى الله عليه وسلم. ونترك الحديث لعائشة، تقول رضي الله عنها: "قلت يا رسول الله: حسبك من صفية كذا وكذا. قال بعض الرواة تعني: قصيرة، فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته". رواه الترمذي. ومعنى مزجته: خالطته مخالطة يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها. وهذا الحديث قال الإمام النووي رحمه الله من أبلغ الزواجر عن الغيبة .
فليحذر الذين اتخذ الشيطان من ألسنتهم مقاريض حادّة، وسيوفا قادّة، ومعاول هادّة، جعلوا من الحقير عظيما، ومن البخيل كريما، يصغّرون الكبير، ويهزؤون بالقدير، وإذا قلت لأحدهم اتّق الله. قال: إني أقول ما فيه.
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضا عيانا
روى أبو داود عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمـا عرج بي ربّي عز وجل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟. فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" .
فاتقوا الله – عباد الله – واعملوا بطاعته، وحذار.. حذار من الاستهتار بعقوبة الغيبة، فإن في ذلك الهلكة. "وتوبوا إلى الله جميعا أيّه المؤمنون لعلكم تفلحون ".
نفعني الله وإياكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله ربكم، واسمعوا إلى وصية نبيكم: "يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولوفي جوف رحله" . رواه الترمذي.
أيها الناس: ما أكثر هؤلاء اليوم. ما أكثر من يتتبعون عورات الناس ويتطلبون زلاتهم. فإذا رأوا زلّة من أحد فرحوا بها ونشروها، وإذا رأوا استقامة ومفخرة كتموها وحملوها على غير محملها، وهؤلاء هم الذين عناهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: « يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم».
قال الشاعر:
المرء إن كان عاقـــــلا ورعا أشـغله عن عيوبه ورعــه
كما السقيم المريض يشغله عن وجع الناس كلهم وجعه
وقال آخر:
لا تكشفنّ مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله سترا عن مساويكا
واذكر محاســــــن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحـــدا منهم بما فيكا
فاتقوا الله أيها المسلمون، وحاسبوا أنفسكم على ما تقولون وما تفعلون، فإنكم عن ذلك مسؤولون وعليه محاسبون، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ}.
اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم إنا نعوذ بك من شر أبصارنا ومن شر ألسنتنا ومن شر قلوبنا. واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، وارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، اللهم واجعل بلدنا آمنا وسائر بلاد المسلمين، واغفر لنا ولوليّ أمرنا ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات يا أرحم الراحمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق