الموضوع: الإنتحار مركب إلى النار
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أمر بالإصلاح، ونهى عن الفساد، وحثّ على رعاية مصالح العباد، ورغّب في عمارة البلاد. أحمده سبحانه، فهو للحمد أهل، وأشكره على واسع المنّة والفضل. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أمر بشكر المحسنين، والتعاون عل ما فيه الخير للناس أجمعين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن سعادة الدنيا والآخرة بصلاح القلوب وانشراحِها، وزوالِ همومِها وأتراحِها .فألزموا طاعة الله وطاعة رسوله، تدركوا هذا المطلوب، واذكروا الله كثيرا."ألا بذكر الله تطمئن القلوب".
أيها المسلمون: جاء رجل إلى يونس بن عبيد ـ العابد الزاهد ـ يشكو فقره وحاجته. فسأله يونس: أيسرك أن يَذهب بصرك، وتُعطى مائة ألف؟. فيجيب الرجل: لا.
أيسرك أن يَذهب سمعك، وتُعطى مائة ألف؟. فيجيب الرجل: لا.
أيسرك أن تَذهب يداك ورجلاك، وتُعطى مائة ألف؟. فيرد الرجل: لا.
أيسرك أن يَذهب عقلك ولسانك، وتُعطى مائة ألف؟. فيقول الرجل: لا.
وهنا ضحك يونس، وقال للرجل: أنظر ـ إذن ـ كم معك من مئات الألوف، وأنت تشكو الحاجة؟.
عباد الله: إن نعم الله على الناس أجلّ من أن تحصى وتعدّ، ولكنّ الحمق والطمع والجهل، يستر تلك النعم عن كثير من الناس، وصدق الله إذ يقول: "إ ن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". سورة البقرة: 243.
نعم –وللأسف- إن بعضا من الناس أصبحوا عَلَفاً لليأس والقنوط، وكأنهم بقية من عصر الظلام والغابة، مشكلتهم أن يحطِّموا ذواتهم ويتخلصون منها بالتخلص من الإحساس بها. إن هذا الذي يستعِرُ في كيانه رغائب الانتحار، وكأنه قد اختفى من أمامه كلُّ أمل، تراه منطلقا كالوحش السائب، غيرَ مقيِّدٍ سلوكَه بقوانين، طاغيا على حقوق الآخرين، يقول: (أعطوني كذا و إلا أحرقت نفسي..؟). يريد أن يذهب إلى النار على مركب من نار!. نسأل الله العافية والسلامة!.
هل الإنتحار يحل مشكلة البطالة، أو الفقر، أو السكن، أو البيروقراطية..؟.
إن الصبيّ إذ غضب أو أُغضب كسّر لعبه، لأنه يئس اتجاه مشكلته، فحطم المشكلة، ولا بأس. فهو يستكشف ويتعلم. أما هؤلاء فيحطمون ذواتهم .. فلسفة غامضة، ولذّة مخبولة.
ألا ما أحقر همّة من جعل أكبر همّه دنياه!، وما أبعد عن السداد من عرف الله وعامل سواه!. قد غلب الطمع على النفوس فأهلكها، واستولت الذنوب على القلوب فسوّدتها!. تُرى لو كانت قلوبُ هؤلاء مطمئنةً بالإيمان، أتكون حالهم هكذا؟.
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن الله جعل اليائسين من رحمته في عداد الكفار الضالين، قال تعالى: "وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ". يوسف: 87. وقال أيضا: "وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ". الحجر:56.
فيا ذوي العقول الصحاح، ويا ذوي البصائر والفلاح: إن الإسلام يحترم حياة الإنسان، ولا يجعلها ملكا لصاحبها، بل هي ملكٌ للذي خلقها، وهي ملكٌ للحياة الإنسانية التي أصبحت تشكل جزءا منها، ومن هنا لا يملك الإنسان-أيّ إنسان، ومهما كانت الأسباب ـ أيّ أسباب ـ أن يتخلص منها بالانتحار. بل ولا يملك حتى إهمالها. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي في السنن: "إن لنفسك عليك حقا". ولا أن يعرِّضها للخطر والهلاك. قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا. وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا. وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا". رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة. وفي صحيح ابن حبّان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خَرَجَ برجل خَراجٌ (أي ما يخرج بالبدن من قروح) ممن كان قبلكم، فأخذ سكينا فوجَأَ بها، فما رقأَ الدم عنه حتى مات، فقال الله تبارك وتعالى: عبدي بادرني بنفسه، حرمت عليه الجنة».
وهل تعلمون ـ يا عباد الله ــ إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ترك الصلاة على المنتحر عقوبة له، وزجرا لغيره، وإن كان أذن للناس في الصلاة عليه. ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: " ُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه". فأيّ وعيد يا عباد الله أعظم من هذا الوعيد، وأيّ حرمان بعد هذا الحرمان من النعيم في منازل الرضوان؟.
ألا يا عباد الله: من ذا الذي يبلغ عني أولئك الإعلاميين في قنوات التلفزيون. وأولئك الكتّاب في الجرائد اليومية. أولئك الذين يقومون بعمليات إشهارية آثمة، ودعوة مجانية إلى هذه الجريمة الشنعاء؟. قد جعلوها طفرة اليوم وتقليعة العصر. جعلوا الإنتحار متعةً ونوعًا من اللذة، وكأنهم يوحون إلى الشباب بالإقدام على هذه الطريقة لتحقيق مطالبهم؟.
أما عاقلٌ رشيدٌ منهم يقول: قال الله تعالى: "وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا"؟. النساء 29-30.
جاء في: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن السعدي رحمه الله: "وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ". أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل الإنسان نفسه. ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك. وقال ابن كثير رحمه الله: "أي: ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتديا فيه، ظالما في تعاطيه، أي عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه "فسوف نصليه نارا". الآية. وهذا تهديد شديد، ووعد أكيد، فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد". ا.هـ. وقال القرطبي رحمه الله: "قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) فيه مسألة واحدة - قرأ الحسن (تقتِّلوا) على التكثير. وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية: النهي أن يقتل بعض الناس بعضا. ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل أن يقال: "ولا تقتلوا أنفسكم" في حال ضجر أو غضب، فهذا كله يتناول النهي". ا.هـ.
وقال ابن تيمية رحمه الله في فتاويه: "قال مسروق: من اضطرّـ أي إلى أكل المييتة أو لحم الخنزيرـ فلم يأكل حتى مات دخل النار، وذلك لأنه أعان على نفسه، وترك ما يقدر عليه من الأكل المباح له في هذه الحالة، فصار بمنزلة من قتل نفسه".
تُراني ـ بعد هذا ـ ماذا أقول لأولئك الذين يحاولون أن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة؟. وأولئك الذين يحبون أن تنتشر هذه الجريمة وتشيع؟.
إنِّي هنا لا أدافع عن أحد، ولا أقول إننا نعيش في مجتمع فاضل عادل، ولا أن ضمانات العيش والعمل والسكن مكفولة لكلّ قادر ولكلّ عاجز، ولا أنّ حوافز الخير في مجتمعنا مجتمعة، ولا حوافز الشرّ منعدمة. أي لا أقول أن كلّ فرد منا مكفول الحقوق، معترفا له بكل الخصائص. ولكني أقول: لقد أعطانا الله الحياة وديعة، وأغرى همتنا بالعمل، وقال يخاطبنا: "وإني مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون". والإسلام لا يريد منا أن نعطي ظهورنا للحياة والأحياء. فرسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ ". رواه مسلم عن أبي هريرة.
يا رعاكم الله: إن القلوب إذا استولى اليأس عليها قنطت ولم تصل إلى مطلوبها، وإن الناس إذا تخاذلوا واستبعدوا الأمور، وقالوا هذا مستحيل، هذا لا يمكن، فلن يصلوا إلى غاية. ولكن القلوب الحية والأُمَّة الواعية هي التي تقابل الفكرة الإصلاحية بالقوة والعزيمة الصادقة، والتصميم على الوصول إلى الغاية المطلوبة بالطريقة الشريفة الصحيحة، ما دامت تؤمن بصحة القصد، وسلامة السبيل. فلا تكن ـ أخي ـ من أولئك الذين يفرّون من وجه الحياة كلما نزل بهم خطب أو بلاء، أو تأخر لهم أمل أو رجاء.
شمّر وكافح في الحياة فهذه دنياك دار تناحر وكفاح
وإذا ألح عليك خطب لا تهن واضرب على الإلحاح بالإلحاح
وخض الحياة وإن تلاطم موجها خوض البحّار رياضة السبّاح
ألا واتقوا الله تعالى ـ يا عباد الله ـ وتفكروا في حِكَم المولى في تصريف الأمور، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. واعلموا أن ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير ، وأن هذه الشدّة واللأواء لا بد أن يفرجها مَن هو على كل شيء قدير، ولا بدّ أن يبدّل الشدّة بضدّها، والعسر بالتيسير، بذلك وعَدَ، وهو الصادق السميع البصير، اتقوا الله، واطووا مرحلة الحياة بخطىً ثابتة، لا يحَوِّلها عن الإيمان وتعاليم الدين عواصف الفتن، ولا يزحزحها عن الرضاء بقضاء الله وقدره الشدائد والمحن. ولا يخرجها عن الرشاد والفساد استفزازات الشيطان وتسويلاته.
اللهم اعصمنا عن الزلل، ووفقنا لصواب القول والعمل، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، وأجارني وإياكم من سخطه وعقابه الأليم، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين أجمعين.
الخطبة الثانية
الحمد لله المتحبب لعباده بترادف نعمائه، أحمده سبحانه على سرائه وضرائه. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل من عرف الله وشكره على نعمه وآلائه.
أما بعد، فيا عباد الله: جاء في الحديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يبعث كل عبد على ما مات عليه". وأنّ هذا ما يحفّز الهمم على حسن العمل، وملازمة السنن، والإخلاص لله في القول والفعل، ليموت العبد على خير حال، وليكون قرير العين في المآل.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأجملوا في الطلب، فإن ما عند الله لا ينال بمعصيته، وإنما ينال بطاعته وخدمته، واحمدوه على الهداية للإسلام، واشكروه على الكفاية من الرزق والغنى عن الآثام، وانظروا إلى من فضلتم عليه بالعافية والرزق والعقل والتوفيق، فإنه أحرى لشكر النعم والهداية لأقوم طريق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " .
مَنّ الله علينا وعليكم بالقيام بحقه والقناعة بميسور رزقه، إنه جواد كريم. اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، واحفظ علينا ديننا وثبتنا عليه إلى الممات، فإنه عصمة أمرنا. اللهم أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم إنا نسألك اليقظة في الأمور، والحكمة في التدبير، وحسن العاقبة والمصير. اللهم وهيئ للأمة الإسلامية من أمرها رشدا، ولاة صالحين، يقضون بالحق وبه يعدلون، لا يخافون في الله لومة لائم، لا يحابون قريبا لقربه، ولا قويا لقوته، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، إنك الوهاب، واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، وصل اللهم وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق