الموضوع: الشيخ محمد القباطي في ذمة الله
الخطبة الأولى
الحمد لله إيمانا بقدر الله، والحمد لله صبرا على قضاء الله، والحمد لله شكرا على لطف الله. قضى وقدّر ولطف. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تفرد بالبقاء وحده، لا يشاركه فيه أحد. "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام". وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله. أدّى الرسالة، وبلّغ الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده حتى لقي ربه راضيا مرضيا، ونودي من قبل الملإ الأعلى: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي". صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛ أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنّ من أكبر نعم الله عليكم، أن حفظ عليكم هذا الدين برجاله المخلصين، وهم العلماء العاملون، الذين كانوا أعلاما يهتدى بهم، وأئمة يقتدى بهم، وأقطابا تدور عليهم معارف الأمة، وأنوارا تتجلّى بهم غياهب الظلمة، فإن في وجود أمثال هؤلاء في الأمة، حفظا لدينها وصونا لعزتها وكرامتها. إنهم السياج المتين يحول بين الدين وأعدائه، والنور المبين تستنير به الأمة عند اشتباه الحق وخفائه، هم ورثة الأنبياء في أممهم وأمناؤهم على دينهم. إن العلماء هم نور الحياة، ونبراس الهداية، وقبس الحق، فإذا ماتوا ولم يكن من يقوم مقامهم، ويملأ الفراغ العلمي الذي حدث بموتهم، انطفأ ذلك النور، وأظلمت الحياة ،وعم الجهل وتخبط الناس في دياجير الباطل والضلال .
أيها الناس: إذا كانت هذه منزلة العالم من أمته ودينه، أفلا يجدر بنا أن نأسف على موت العلماء؟. إن فقد العالم ليس فقدا لشخصيته فحسب، ولكنه فقد لجزء من تراث النبوة، قال صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنْبِيَاءِ إِنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلادِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ". رواه الترمذي. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة". رواه الإمام أحمد. وقال تعالى:
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}، قال مجاهد وعِكْرِمة: { َنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}: خرابها. وفي رواية لابن عباس: خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها.
الأرض تحيَا إذا ما عَاش عالمها ... مَتَى يمُتْ عَالم منها يمُت طَرفُ
كالأرض تحْيَا إذا ما الغيث حَل بها ... وإن أبى عَاد في أكنافهَا التَّلَفُ
أيها المسلمون: في الخامس من رمضان، ودّعت مدينة سيدي بلعباس، بل والجزائر أجمع، فاضلا من فضلائها، وعالما من علمائها، اقترن اسمه بجمعية العلماء المسلمين. عرفته الثورة الجزائرية مجاهدا ومرشدا، وعرفته المدارس والثانويات معلما ومربيا، وعرفته المساجد والنوادي خطيبا وداعيا. ولد عليه رحمة الله بتاريخ: (19 ـ12ـ1907) بمدينة الغزوات. وحفظ القرآن الكريم على يد والده، وتلقى مبادئ العلوم على يد شيوخ منطقته، ثم سافر إلى فاس، حيث التحق بجامعة القرويين ومكث فيها سبع سنوات حتى نال الشهادة العالمية. وفي عام( 1935)عاد إلى الوطن، وبدأ التدريس بمدينة مغنية، والتفّ حوله كثير من الطلبة، من بينهم الرئيس الأسبق: أحمد بن بلا.وفي أحداث (مايو 1945) شارك بلسانه وبقلمه، فنفته السلطات الإستعمارية إلى مدينة "السوقر" بولاية "تيارت". واعتقل هناك سنتين، ثم أفرج عنه. ونظرا لما كان يلاقيه من تهديد ومضايقات، هرب إلى إسبانيا وطلب اللجوء السياسي، إلاّ أنه أعيد وسجن بمدينة تلمسان مدة ثمانية أشهر. وفي عام(1947) انضم إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعُين مدرسا وخطيبا لمدة (5)سنوات بمدرسة النجاح في مدينة سيدي بلعباس.وفي عام(1954)تمّ اعتقاله بمدينة بطيوة، ولمّا أفرج عنه غادر إلى"تيطوان" بالمملكة المغربية. وهناك اختارته جبهة التحرير الوطني وكلفته بتوعية وإرشاد الجزائريين للإلتفاف حول ثورتهم، وتنشيط المسبلين في ميدان عملهم، وتوجيه المناضلين إلى ما فيه خير بلادهم، وكان كذلك إلى غاية الإستقلال. حيث عاد إلى الجزائر مواصلا عمله بعزيمة وإصرار، فالتحق بسلك التعليم كأستاذ للغة العربية وآدابها. إلى جانب نشاطه الديني من دروس ومحاضرات في المساجد، ونظراً لنشاطه المكثف والملحوظ عُيّن في عام (1990) رئيسا للمجلس العلمي بمديرية الشؤون الدينية والأوقاف بسيدي بلعباس، إلى أن وافته المنية رحمه الله.
من المؤلفات التي صدرت له: الإنسان خليفة الله في الأرض ـ اقتصاد الوطن العربي بالإشتراك مع سفراء الدول العربية ـ مواد الخطب المنبرية والدروس المسجدية ـ الغزو الثقافي ـ الإنسانية. أمّا كتابه: حياة الأمير عبد القادر فلم يطبع بعد.
إنه ـ يا عباد الله ـ المجاهد الأستاذ الشيخ: محمد القباطي عليه رحمة الله. الذي عمّر ما يزيد على قرن من الزمن. ولكنه الآن في ذمة الله، وفي رحاب رضوانه، وفسيح جناته. رحم الله شيخنا، وأعلى منزلته، وأجزل له العطاء.
أيها الشيخ الجليل: إنه لا يسعنا إلا أن نضرع بالصبر، ونعتصم بالعزاء، ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم رضوانا. اللهم صبرا، تلك إرادة الله ومشيئته، ولا رادّ لقضاء الله ولا معقب لحكمه، ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا).
عباد الله :إننا لنرى بأم أعيننا أكابر العلماء والفضلاء يموتون، فلا من يخلفهم في علمهم وفضلهم، وتنطفئ مصابيحهم فلا من يوقدها من بعدهم. إننا لنرى العلم يقبض أهله بموت حملته، ثم تبقى مقاماتهم فارغة، فلا يملؤها إلا من دونهم، ولا يخلفهم إلا من يصح أن يكون تلميذًا لهم ..
أيها المسلمون: إن فقد العالم لا يعوض عنه مال ولا عقار ولا متاع ولا دينار، بل فقده مصيبة على الإسلام والمسلمين. لا يعوض عنه، إلا أن ييسر الله من يخلفه بين العالمين، فيقوم بمثل ما قام به من الجهاد ونصرة الحق. قال الحسن: قال عبد الله بن مسعود: "موتُ العالم ثلمةٌ في الإسلام، لا يسدّها شيء ما اختلف الليل والنهار". وصدق رسول الله يوم أخبر أنه لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، والمراد به العلم الشرعي، علم كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وكيفية قبضه أن يقبض العلماء كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». .
ربنا ما صنعت هذا باطلا فارزقنا الأدب معك، وألهمنا الصواب والرضا بهذا المصاب، اللهم وتغمّد شيخنا برحمتك، واسق قبره الطاهر بسحائب إحسانك وكرمك، واجزه عنا أحسن الجزاء، والحمد لله رب العالمين. أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، وتعلموا أحكام شريعته بطلب العلم النافع، فإن العلم نور وهدى. والجهل ظلمة وضلال. تعلّموا ما أنزل الله على رسوله من الوحي، فإن العلماء ورثة الأنبياء. والأنبياء ما ورثوا درهما ولا دينارا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر من ميراثهم، تعلموا العلم فإنه رفعة في الدنيا والآخرة وأجر مستمر إلى يوم القيامة. قال الله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" .
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً... فالناس موتى وأهل العلم أحياء
عباد الله: انظروا إلى آثار العلماء الربانيين لم تزل موجودة إلى يومنا هذا طوال الشهور والسنين، آثارهم محمودة وطريقتهم مأثورة، و ذكرهم مرفوع، و سعيهم مشكور، إن ذُكروا في المجالس ترحّم الناس عليهم و دعوا لهم، و إن ذُكرت الأعمال الصالحة و الآداب العالية فهم قدوة الناس فيها. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له".
نسأل الله أن يرزقنا و إياكم العلم النافع و العمل الصالح ،و أن ييسر لهذه الأمة ما يحفظ به عليها دينها، و ينصر به أهل طاعته ويذل به أهل معصيته، إنه جواد كريم رؤوف رحيم. اللهم اغفر لشيخنا محمد القباطي، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وارحمناـ اللهم ـ إذا صرنا إلى ما صار إليه، اللهم واغفر لآبائنا ولأمهاتنا ولجميع المسلمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق