13 أبريل 2012


الموضوع: خطبة وعظية ـ ـ الرئيس الأسبق أحمد بن بلّة في ذمّة الله
الخطبة الأولى
    الحمد لله إيمانا بقدر الله، والحمد لله صبرا على قضاء الله، والحمد لله شكرا على لطف الله. قضى وقدّر ولطف. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تفرد بالبقاء وحده، لا يشاركه فيه أحد. "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام". وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله. أدّى الرسالة، وبلّغ الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده حتى لقي ربه راضيا مرضيا، ونودي من قبل الملإ الأعلى: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي". صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
    أما بعد، فيا عباد اتقوا الله الله حقّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني". رواه الترمذي
  أيها المسلمون: قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز وهو أصدق القائلين: "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور".
 هذه هي الدنيا .. لا يُعجب من طوارقها، ولا يُنكر هجومُ  بوائقها، فمن راحِلٍ ليومِهِ، ومن مدعوٍّ لغدهِ، وكل مستوفٍ لأجله، وجارٍ إلى أمدِهِ، ما هي إلا دار نُقلة، وما المقام فيها إلا لرحلةٍ. فاللهمَّ ارحم في الدُّنيا غربتنا، وارحم في القبر وحشتنا، وارحم موقفنا غدًا بين يديك.
كيف أُبْدي بأحـرُفي مـا أريدُ    وبماذا تُراه يحكي القصيــدُ
كُلّ يوم تَدُقُّ بـابي عِظــاتٌ      ويهزّ الفؤادَ خطبٌ جديــدُ
ويحَ نفسي ألَمْ تُفِقْ مِنْ هَوَاهـا أوَ مَا هَزَّ خَافِقَيْهَا الـوَعِــيدُ
يُصْبِحُ العبدُ في بنيهِ، ويُمْـسِي وهو تحت الترابِ فردٌ وحيـدُ
آهٍ من يـومِ سكرتي وممــاتي     حينما أنثني وروحي تـجـودُ
أستغيثُ الطبيبَ ماذا جرى لي قيلَ هذا ما كنتَ منـهُ تحـيدُ
لم تُغثني دموعُ مَنْ كانَ حـولي    لا، ولا عُدَّةُ الطّبيبِ تُـفـيدُ
قال الله تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ".
   لا إله إلا الله! ما أجلّ حكمته! وما أعظم تدبيره! تلك هي الدنيا، خدّاعة غدّارة، فتّانة غرّارة، تُضحك وتبكي، وتجمع وتشتّت، شدّة ورخاء، وسراء وضراء. لكن أين مَن يتعظ ويعتبر؟! فالموت أمر واقع، ماله من دافع، لا مردَّ له ولا شافع، "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". إنه الموت قد فضح الدنيا، فلم يدَع لذي لبّ بها فرحًا، فقد أفسد على أهل النعيم نعيمهم.
 فالتمسوا- أيها العقلاء- نعيمًا لا موت فيه، فلقد أمِنَ أهل الجنة الموت. رحم الله عمر بن عبد العزيز إذ قال: "لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد". وكان -رحمه الله- يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة". ودخل مالك بن دينار المقابر ذات يومٍ فإذا رجلٌ يُدْفَن، فجاء حتى وقف على القبر، فجعل ينظر إلى الرجل وهو يدفن، فجعل يقول: "مالكٌ غدًا هكذا يصير، وليس له شيء يتوّسده في قبره، فلم يزل يقول: غدًا مالكٌ هكذا يصير، غدًا مالكٌ هكذا يصير، حتى خرّ مغشيًا عليه في جوف القبر، فحملوه إلى منزله". ونحن ـ للأسف ـ ندخل المقابر، ونقف على القبور، ونصلّي على الجنازة، ونحمل الجنازة، ونضع الجنازة، وحامل الجنازة اليوم محمول غدًا، فهل غُشي علينا؟ بل هل خفَقت قلوبنا؟ هل اقشعّرت أبداننا؟ هل دمِعت عيوننا؟ آهٍ .. لقسوة قلوبنا؟! حتى الموت لم يعد واعظًا لنا؟! آهٍ لشدة غفلتنا؟ آهٍ لكثرة ذنوبنا؟ آهٍ لقلة زادنا؟. الموت يردَع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، فما الذي جرى للناس؟! ألم يقل طبيب القلوب صلى الله عليه وسلم: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ)؟. إنه الموت!! و (كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا).
إنه الموت!! مُفَرِّقُ الجماعات وهادم اللذات، لا يملك أحد من المخلوقين مهما بلغ ملكه له ردًّا، ولا يستطيع أحد مهما كان جنده له دفعًا، لا يعرف صغيرًا ولا كبيرًا، ولا ملكًا ولا مملوكًا، ولا رئيسا ولا مرؤوسا.  
   عباد الله: من لم يعظه الموت.. فمن؟! ومن لم تعظه مشاهد الاحتضار.. فمن؟! ومن لم تعظه سكرات الموت.. فمن؟! أين القلوب التي في الصدور؟! أين هي عن الاتّعاظ والاعتبار؟! أين هي؟ وهي تسمع نبأ وفاة السيد أحمد بن بلة، ذلكم الرجل الذي اقترن اسمه بتاريخ الحركة الوطنية وثورة التحرير الظافرة وبناء الدولة الحديثة.
نعم.. لقد أعلن عصر يوم الأربعاء (11ـ 04ـ2012م) نبأ انتقاله إلى عفو الله وغفرانه عن عمر يناهز الـ 96 عاما. سنون أغلبها كان نضالا في سبيل الجزائر ونهضتها، كابد خلاها أهوال التعذيب وظلمة السجون وغربة المنفى.   
نعم.. أيها المسلمون: يشاء القدر أن يرحل عنا واحد من أبرز زعماء الجزائر المعاصرين، وحكيم من صفوة حكماء إفريقيا المتبصرين.
إن الحبيب من الأحباب مختلس   لا يمنع الموت بوّاب ولا حرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذَّتــــــــــــــها     فتًى يعدُّ عليه اللفظ والنفس
    ها هي الجزائر تودّعه.. وهي في قمة ذهولها وألمها، وسط بحرٍ من الأسى وطوفان من الدموع.
نعم لقد سكت أول رئيس للجمهورية الجزائرية المستقلة.. سكت ذلكم القلب الكبير الذي كان يجيش بالحياة، وينبض بالقوة، ويستخفّ بالأحداث الجسام، سكت وودّع الوداع الأخير، وأصبح في ذمة التاريخ. أحسن الرحمن وفادته، وطيب ثراه، وأكرم مثواه، وأنزله في جنات النعيم مع الصدقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا".
إني أعزيك لا أنـي على طمـعٍ    من الخلود ولكن سنـة الديـن
فما المعزي بباقٍ بعد صاحبـه    ولا المعزى وإن عاشا إلى حين
  لا شك ـ أيها المسلمون ـ أن هذا قضاء الله وقدره، ولا معقب لحكمه، وأنّ كلّ نفس ذائقة الموت، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا بما أصابنا، وإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، وله الحمد على ما قدّر وقضى، وأحسن الله عزاءنا، وجبر مصابنا، وأعظم أجرنا. قال تعالى: "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ". وعزاؤنا أن الموت حق، وأن "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ"، وأن الله تعالى هو الذي يقبض الأرواح، وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وأن الله تعالى يختار لعباده ما عنده، فعلينا أن نصبر ونحتسب، وأن نتعظ ونعتبر.
ففي هذه الدنيا ـ أيها المسلمون ـ منحٌ ومحنٌ، وأفراحٌ وأتراحٌ، وآمالٌ وآلامٌ، فدوام الحال من المحال، والصفو يعقبه الكدر، والفرح فيها مشوب بحذر. فمحال أنْ يضحك من لا يبكي، وأنْ يتنعّم من لم يتنغَّصْ، أو يسعدَ من لم يحزنْ!.
هذه هي الدنيا وهذه أحوالها، وليس للمؤمن الصادق فيها إلا الصبر، فذلكم دواء أدوائها. قال الحسن رحمه الله: "جرَّبْنا وجرَّب المجرِّبون فلم نر شيئًا أنفع من الصبر، به تداوى الأمور، وهو لا يُداوى بغيره". وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر، وكان أمر المؤمن من بين الناس أمرًا عجيبًا؛ لأنّه إنْ أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، كما صح ذلك عن رسول الله.
أيها المسلمون: أمرنا الله بالصبر وجعله من أسباب العون والمعيّة الإلهية، فقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". [البقرة:153]. وإن العلاج الناجع في مثل هذه المناسبات أن نعتبر ونربي أنفسنا على عمارة الآخرة، عمارتها بالأعمال الصالحة، وكثرة التوبة والاستغفار، وأن نجاهد أنفسنا بترك المعاصي والسيئات، وإلا فإن الموت حقّ على الجميع، لكن شتان بين من مات وهو على طاعة ربه، وبين من مات على معصية الله!! شتان بين من مات على خيرٍ وحُسنِ ختام، وبين من مات على شرٍّ وسوء ختام! بكى سفيان الثوري ليلةً إلى الصباح، فلما أصبح قيل له: "كلُّ هذا خوفًا من الذنوب؟ فأخذ تبنة من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذا، وإنما أبكي من خوف سوء الخاتمة". يقول ابن القيم معقبًا: "وهذا من أعظم الفقه أن يخافَ الرجل أن تَخذلَه ذنوبه عند الموت، فتَحُول بينه وبين الخاتمة الحسنى. فَمِنْ هذا خاف السلف من الذنوب، أن تكون حجابًا بينهم وبين الخاتمة الحسنى. ونحن:
نـسير إلى الآجال في كل لحــــــــظة    و أيامنا تطـــــــــــوى وهنّ مراحل
ولم أر مثل المـوت حـــــــــــــقّا كأنه     إذا ما تخـطّــــــــــته الأمانيّ باطل
 اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، واجعلنا ممن ختمت له بالحسنى، برحمتك يا أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
    الحمد لله الحي الذي لا يموت، توحَّد بالديمومة والبقاء، وتفرد بالكبرياء والجبروت، وأشهد أن لا إله إلا الله، نحمده سبحانه ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى، صلَّى الله وسلَّم عليه، وعلى آله وصحبه وخير من اقتفى. وبعد:    
   أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، وضمّروا النفوس عن المعاصي لاقتحام العقبة الكؤود، واحذروا مظالم العباد قبل انتصاف الحاكم المعبود، وبادروا عدم الإمكان بانتهاز فرص الوجود، وتحفظوا من تسطير رقبائكم فمنهم عن الأيمان والشمائل عليكم شهود، قبل أن تشهد عليكم الألسن والجلود، وتيقظوا من سِنَة غفلاتكم قبل رقدتكم الكبرى في ظلم اللحود، وتفكروا فيمن سلف قبلكم من الأمم الخالية والجنود: أين الممالك وأربابها  أين الملوك وحُجَّابها؟. أين الوزارات وأصحابها؟ أين المراتب العالية وطلابها؟ أين الكواعب وأترابها؟  جمعوا في المقابر وردمت عليهم أبوابها، ألم يكونوا أقوى منكم أعدادا؟ وأكثر أموالاً وأولادا؟ فقصمت المنية عرى أعمارهم، وهدمت المشيدةَ من معاقلهم وديارهم، فأصبحوا أحاديث وعبرا، وصاروا بعد المعاينة والأخبار خبرا، وأنتم واردون لما وردوه يقيناً لا حديثاً يفترى.  
            أتيـت القبـور فناديــــــــــــــتهـا   فأين       المعظم والمحتقر؟  
  
وأيـن المـذل بسلطانـــــــــــــــــــــــه   وأين المزكى إذا ما افتــــــــخر؟
 
تساووا جميعا فما مخبـر   وماتوا جميعا ومات الخبر تروح وتغدو  بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور فيا سائلي عن أناس مضوا  أما لك فيما مضى معتبـر؟
   فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنّ تقوى الله دار حصن عزيز، تمنع أهلها، وتحرز من لجأ إليها، فهي النجاة غدا، والمنجاة أبدا، فاتقوا الله واعبدوه واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
 اللهم إنا نسألك في هذه اللحظات بقلوب خاشعة ونفوس موقنة مطمئنة أن تغفر لفقيدنا، اللهم أبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وارحمناـ اللهم ـ إذا صرنا إلى ما صار إليه، ونسألك اللهم أن تجعل ما أصابه من مرض كفارة لـه. اللهم ارحمه وجميع موتى المسلمين، وأسكنهم فسيح جنتك، واكتبهم عندك في المحسنين، واجعل كتابهم في عليين واخلفهم في أهليهم، اللهم اشكر حسناتهم واغفر سيئاتهم، وأعذهم من عذاب القبر، واجمع لهم برحمتك الأمن من عذابك، واكفهم كل هول دون الجنة، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم. واغفر لنا ولهم، اللهم ومن أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم أحينا على طاعتك ومرضاتك، واقبض أرواحنا على التوحيد، وهوّن علينا سكرات الموت وزفراته. اللهم اجعل الحياة لنا زيادة في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسق والعصيان.. واجعلنا يا ربنا من الراشدين.. اللهم آمنا في أوطاننا.. وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.. اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ربّ العالمين، ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ولمشايخنا ولجمع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على  سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

10 أبريل 2012

الموضوع: المشاركة في الإنتحابات من واجبات الفرد المسلم

الموضوع: المشاركة في الانتخابات من واجبات الفرد المسلم

الخطبة الأولى
 الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، أحمده سبحانه رضي لنا الإسلام دينًا وجعلنا خير أمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تكون لمن استمسك بها خير عصمة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه للعالمين رحمة، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه صلاةً تكون لنا نورًا في الدُجى والظُلمة، وسلم تسليما.
    أما بعد، فقد قال تعالى: "وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [المائدة:2]. قال ابن القيم رحمه الله: (اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم، فإنّ كلّ عبد لا ينفكّ عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق، فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصحبة، فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة له إلا بها، وهي البرّ والتقوى اللذان هما جماع الدين كله). {زاد المهاجر 1 /6-7}.
    أيها المسلمون: لقد أَمَرنا ربّنا أن نتعاون على كل خيرٍ مباركٍ فيه عزٌّ للإسلام و أهلِه، وعلى كلّ ما فيه نفعٌ للمسلمين. جاء في تفسير القرطبي, قال الماوردي: (ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبرّ وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومَن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمّت سعادته وعمّت نعمته". وقال ابن خُوَيْزٍ مَنْدَادُ في أحكامه: "والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه: فواجبٌ على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة، (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم). ا.هـ
  عباد الله: المسؤولية الاجتماعية والتعاون بين المسلمين قِيمَةٌ عظيمة، ومكرُمة عالية، وخلّة رفيعة، بل وعبادة كريمة. فالإسلام دينٌ جاء إكراما للبشرية ورحمةً بها، جاء ليرتّب وينظّم أمور الناس مادية وروحية، ويقيمها على أسسٍ إصلاحية وقواعدَ ثابتة. جاء ليبين للناس أسباب العطب فيتجنّبوها، وأسباب النجاة فيسلكوها. لقد أمرنا الله بالسعي والعمل في هذه الحياة لنعمرها بطاعته وعبادته، ونصلح أمورها وشئونها وفق منهجه وهديه. وإن الأمة العاقلة الواعية، هي التي تتخلص من الغثائية واللامبالاة، وتُسهم في بناء حياتها وتشارك في صنع قرارها، ويكون للفرد فيها حضوره ووجوده، فينطلق مع غيره في بناء الحياة على أسس الحق والخير والعدل، وتتظافر على ذلك جهود الجميع لإقامة المجتمع الآمن المستقر الذي ينعم بالصحة والكفاية، والعدل والعلم والحرية والازدهار، وحين تصل الأمة لهذا المستوى تكون أمة مهتدية راشدة عاقلة تعيش الحياة الكريمة الحرة.
 فيا أيها المسلم: ليس بجديد عليك أن تُحدَّث عن شيء اسمه المسؤولية الاجتماعية, التي يُعرِّفها البعض على أنها: "الإلتزام الذاتي والفعلي للفرد تجاه الجماعة", فالمسلم ومن خلال بنائه العَقَدي والمعرِفي بشكل عام تَربَّى على أن يُخاطَب من خلال المجتمع، فالله يناديه كفرد في مجتمع، لا فرد مستقلّ, انظر أوامر المولى جل جلاله بماذا تُفتتح، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون". وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". إلى غير ذلك من الآيات.
    لذا كانّ من الدعائم المرتبطة بالإيمان ارتباطًا وثيقًا، والمؤَكِّدة لهذا التكامل بين عناصر الوجود، دعوة الإسلام إلى محبّة الوطن والذّود عنه وفدائه بكلّ غالٍ ونفيسٍ، ففي الأثر: "حبُّ الوطن من الإيمان". وتذكُرُ كُتب السّيرة أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمّا خرج مهاجرًا إلى المدينة قال: "والله -يا مكَّةُ- إِنَّكِ لأحبُّ بلادِ الله إليَّ، ولَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجوني مِنْكِ ما خرجتُ أبدًا". وفي رواية أخرى: "اللهمّ إنّكَ قد أخرجتني من أحبّ البلاد إليَّ، فأسْكنِّي أَحبَّ البلادِ إليكَ". وهو ما يدلّ على مبلغ حبّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لبلده، واعتزازه به. لذلك كان من صفات المؤمن الحقّ أن يحبَّ وطنه وأن يعمل على رفعته والإعلاء من شأنه، وأن يُضَحّيَ بما يستطيع أن يُضَحِّيَ به في سبيل النهوض به والذّود عنه وحمايته من كلّ سوء. قال اللهُ تعالى فِي سورة يس: "وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" (6). ألم يكن فِي تلك المدينة غير هذا الرّجل؟!. بلى.. ولكنَّهم عجزوا عن مثل هذا الجميل من الفعل، فأَثنى القرآن الكريم على مؤمن آل (يس)، وخلَّد ذكره، لأَنّه أخلص لوطنه وساكنيه، وعاش همومَ مواطنيه...
أيها المسلمون: والجزائر تمر الآن بمرحلة تاريخية حساسة وفارقة في تاريخها الحديث، وهي بمثابة إعادة تأسيسٍ لدورها الريادي والحضاري في المنطقة العربية والعالم. فإنّنا نولي لهذه المرحلة أهمية بالغة، لأنها ستفرز من يشكّل الوجهة الحضارية لمستقبل الجزائر، ومن هنا يفرض علينا الواجب الديني والوطني والخلقي ضرورة التحلي باليقظة والإيجابية والوعي، والبعد عن السلبية والهوى والعصبية والعاطفة، حتى يتمّ الله علينا نعمته.
إنِّي أرَى هذِي البلادَ وأهلَها *** عقداً ثميناً لا يطَالُ بسوءِ ظـنْ
علماؤها.. أمراؤها.. أبناؤها *** جُبِلُوا على حبِّ العقيدةِ والسُّنَنْ
أيها المسلمون: إنكم اليوم تعيشون فترة مهمة لها ما بعدها، لها من الأهمية ما يتعدى المصالح الشخصية الضيقة، ولأنه إذا كانت الإنتخابات مُوصِلةً لأهل الخير إلى موقع التأثير في القرار بما يقتضيه الشرع، فانتخابُكم من التعاون على البرِّ والتقوى، بل هي من المصالح العامة التي تنفع كلَّ مَن في البلاد. واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن جمهور الفقهاء يرون أن الناخب شاهد، وتصويته شهادة بصلاحية شخص أو عدم صلاحيته. ومن ثَمَّ فإنه يجب على الشاهد إذا دعي للتصويت، أن يدلي بشهادته، ولا يكتمها. قال تعالى:  "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم". البقرة:283.  قال الإمام الطبري  رحمه الله: وقد اعتبر ابن عباس رضي الله عنه كتمان الشهادة من أكبر الكبائر، لأن الله عز وجل يقول: "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه"، وكان يقول: على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد. وقد اختتمت هذه الآية بقوله تعالى: "والله بما تعملون عليم". وهذا يعنى كما يقول الطبري: "بما تعملون" في شهادتكم من إقامتها والقيام بها، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها.
  فيا رعاك الله: يقول بعض السلف: (كلكم على ثغرة، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكم). وأنا أقول لك: إياك أن تخذل أبناء وطنك في موقف يحب الله أن يراك وأنت تنصرهم وتقويهم. وخاصة:  وأنت تقرأ في كتاب ربك وسنة نبيك وتاريخ سلفك مشروعية الانتخابات والتي هي اختيار مَن هو أهل للاختيار.
 جاء في حديث بيعة العقبة الثانية، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا إليَّ اثْنَي عشر نقيبًا منكم، يكونون على قومهم). فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا، منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. رواه ابن إسحاق، وقال الهيثمي: رجالُه رجال الصحيح. فقوله صلَّى الله عليه وسلم: (أخرجوا إلي اثني عشر...) طلب ترشيح اثني عشر نائبًا لهم وممثلاً عنهم، وهذه حقيقة الانتخاب، بِغضِّ النظر عن طريقته وآليته. وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: (إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمِّروا عليهم أحدهم)، رواه أحمد وأبو داود، وهو حديث محتجٌّ به وصحَّحه جمع من أهل العلم. وتأمير الجمع لأحدهم: إما أن يكون باتفاقهم عليه أو اختيارِ وقبولِ أكثرهم لإمرته عليهم، والاختيار حقيقةٌ هو الانتخاب كما تعرف. قال الشوكاني: "وفي هذا دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدًا أن يؤمِّروا عليهم أحدهم، لأنَّ في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلف، فمع عدم التأمير يستبدُّ كلُّ واحد برأيه ويفعل ما يطابق هواه فيهلكون، ومع التأمير يَقلّ الاختلاف وتجتمع الكلمة، وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون - فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار، ويحتاجون لدفع التظالم، وفصل التخاصم أولى وأحرى".
  ونقرأ في السيرة ـ أيضا ـ أنَّ عمر - رضي الله عنه - سمَّى ستة نفرٍ من كبار الصحابة رضي عنهم، هم: عثمان بن عفَّان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقَّاص، وعبد الرحمن بن عوف؛ فجعل الخلافة شورى بينهم، يتشاورون فيمن تعقد له الخلافة منهم، في قوله: (إني لا أعلمُ أحدًا أحقَّ بِهذا الأمر من هؤلاء النَّفَرِ، الَّذينَ تُوُفِّي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - وهو عَنْهُم راضٍ، فمنِ استخلفوا بعدي فهو الخليفة، فاسمعوا له وأطيعوا). رواه البخاري. فهذه سنَّةُ خليفةٍ راشد، جمع فيها بين أسلوب وآلية (العهد)، التي هي سنَّة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حين عهد إلى عمر -رضي الله عنه- بالخلافة، وبين أسلوب ترك الإختيار أو الإنتخاب للأمَّة بتفويض الأمر للمسلمين، التي سنَّها النبي صلى الله عليه وسلم. فكلٌّ سنّة. فالإنتخابُ أسلوبٌ وآليةٌ تتغير، والثابتُ هو الغاية منها، وهو وجوب تولية الأصلح قدر الاستطاعة.
على المرء أن يسعى إلى الخير جُهْدَه  وليس عليه أن تتم المقاصدُ
  فيا عباد الله: لا يثبطنّكم أصحاب المصالح، والمرجفون الذين يُوهِنون قوى الأمة، ويِفُتّون في عضدها، أولئك لا يريدون إلا الفتنة وتفرق الشمل، قوموا مثنى وفرادى، واختاروا من ترونه كفؤا ليتولى أمركم، وأزيلوا عوامل الفرقة والتنافر، وكونوا عباد الله إخوانا. واعلموا أنّ من مقتضيات الانتماء للوطن: محبتِه والافتخارِ به وصيانتِه والدفاعِ عنه والنصيحةِ له والحرصِ على سلامته واحترامِ أفراده وتقديرِ علمائه وطاعةِ ولاة أمره.. ومن مقتضيات الوطنية: القيام بالواجبات والمسئوليات كلٌّ في موضعه مع الأمانة والصدق.. ومن مقتضيات حب الوطن: احترام نُظُمه وثقافته والمحافظة على مَرافقه وموارد الاقتصاد فيه، والحرص على مكتسباته وعوامل بنائه ورخائه، والحذر من كل ما يؤدي إلى نقصه.. إن الدفاع عن الوطن واجبٌ شرعي، وإن الموت في سبيل ذلك شهامةٌ وشهادة.. فلنتعاون على البر والتقوى ففي ذلك مصلحتنا جميعًا، فالوطن سفينتنا والجميع على متنها، وهناك مستجدات ومتغيرات تستوجب وتستلزم من العقلاء وأهل الخير جميعًا الوقوف صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص حتى لا يتحقّق للأعداء والمرجفون ما يكيدون، وإذا فات الفوت لا ينفع الصوت، كما يقول المثل. 
وفقني الله وإياكم لصالح الأعمال والأقوال، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
   أما يعد، فيا عباد الله: لنضع أيدينا بأيدي بعض، فإنها فرصة ثمينة إما لنا أو علينا، هي لنا متى أدركنا وفهمنا حقيقة الانتخاب، وهي علينا جميعًا متى أهملنا وفرطنا وقدمنا مصالح الفرد والعشيرة على مصالح الأمة والدين والوطن.. إننا لا نريد منكم تحقيق المعجزات، وإن كان باستطاعتكم إتيانها إن صدقتم في إيمانكم، وإنما نريد منكم على الأقل أن تكونوا في مستوى الميراث الحضاري الذي خلفه لكم أجدادكم، نريد منكم أن تكونوا إيجابيين تحبطون كل المخططات التي تحبك ضد بلادكم. كونوا خير خلف لخير سلف، تمسكوا بدينكم، وحافظوا على تراثكم المجيد، ومجدكم العظيم الذي ورثتموه على أسلافكم. وأعدّوا ليومكم وغَدِكم ما تؤيّدون به حقكم، وترهبون به عدو الله وعدوكم، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون". التوبة:105  
 اللهم إنا نسألك العون والتوفيق في الأمور كلها، ونسألك اللهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ونسألك ربناالسلامة من حقوق خلقك، والإعانة على أداء حقك، وأن تجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى، وألا تجعلنا من المتعاونين على الإثم والعدوان. اللهم وفقنا لاختيار الرجال الصالحين الذي يعينوننا على ديننا ودنيانا، وألف بيننا وأصلح شأننا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك. اللهم احفظ بلادنا وأمننا وعقيدتنا من كيد الأعداء ودسائس المغرضين، اللهم ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى  وهيء له البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه  يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وانصرنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، وانصرنا على أعدائنا حتى نسعد بظهور دينك. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.