الموضوع: المشاركة في الانتخابات من واجبات الفرد المسلم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، أحمده سبحانه رضي لنا الإسلام دينًا وجعلنا خير أمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تكون لمن استمسك بها خير عصمة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه للعالمين رحمة، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه صلاةً تكون لنا نورًا في الدُجى والظُلمة، وسلم تسليما.
أما بعد، فقد قال تعالى: "وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [المائدة:2]. قال ابن القيم رحمه الله: (اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم، فإنّ كلّ عبد لا ينفكّ عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق، فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصحبة، فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة له إلا بها، وهي البرّ والتقوى اللذان هما جماع الدين كله). {زاد المهاجر 1 /6-7}.
أيها المسلمون: لقد أَمَرنا ربّنا أن نتعاون على كل خيرٍ مباركٍ فيه عزٌّ للإسلام و أهلِه، وعلى كلّ ما فيه نفعٌ للمسلمين. جاء في تفسير القرطبي, قال الماوردي: (ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبرّ وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومَن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمّت سعادته وعمّت نعمته". وقال ابن خُوَيْزٍ مَنْدَادُ في أحكامه: "والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه: فواجبٌ على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة، (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم). ا.هـ
عباد الله: المسؤولية الاجتماعية والتعاون بين المسلمين قِيمَةٌ عظيمة، ومكرُمة عالية، وخلّة رفيعة، بل وعبادة كريمة. فالإسلام دينٌ جاء إكراما للبشرية ورحمةً بها، جاء ليرتّب وينظّم أمور الناس مادية وروحية، ويقيمها على أسسٍ إصلاحية وقواعدَ ثابتة. جاء ليبين للناس أسباب العطب فيتجنّبوها، وأسباب النجاة فيسلكوها. لقد أمرنا الله بالسعي والعمل في هذه الحياة لنعمرها بطاعته وعبادته، ونصلح أمورها وشئونها وفق منهجه وهديه. وإن الأمة العاقلة الواعية، هي التي تتخلص من الغثائية واللامبالاة، وتُسهم في بناء حياتها وتشارك في صنع قرارها، ويكون للفرد فيها حضوره ووجوده، فينطلق مع غيره في بناء الحياة على أسس الحق والخير والعدل، وتتظافر على ذلك جهود الجميع لإقامة المجتمع الآمن المستقر الذي ينعم بالصحة والكفاية، والعدل والعلم والحرية والازدهار، وحين تصل الأمة لهذا المستوى تكون أمة مهتدية راشدة عاقلة تعيش الحياة الكريمة الحرة.
فيا أيها المسلم: ليس بجديد عليك أن تُحدَّث عن شيء اسمه المسؤولية الاجتماعية, التي يُعرِّفها البعض على أنها: "الإلتزام الذاتي والفعلي للفرد تجاه الجماعة", فالمسلم ومن خلال بنائه العَقَدي والمعرِفي بشكل عام تَربَّى على أن يُخاطَب من خلال المجتمع، فالله يناديه كفرد في مجتمع، لا فرد مستقلّ, انظر أوامر المولى جل جلاله بماذا تُفتتح، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون". وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". إلى غير ذلك من الآيات.
لذا كانّ من الدعائم المرتبطة بالإيمان ارتباطًا وثيقًا، والمؤَكِّدة لهذا التكامل بين عناصر الوجود، دعوة الإسلام إلى محبّة الوطن والذّود عنه وفدائه بكلّ غالٍ ونفيسٍ، ففي الأثر: "حبُّ الوطن من الإيمان". وتذكُرُ كُتب السّيرة أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمّا خرج مهاجرًا إلى المدينة قال: "والله -يا مكَّةُ- إِنَّكِ لأحبُّ بلادِ الله إليَّ، ولَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجوني مِنْكِ ما خرجتُ أبدًا". وفي رواية أخرى: "اللهمّ إنّكَ قد أخرجتني من أحبّ البلاد إليَّ، فأسْكنِّي أَحبَّ البلادِ إليكَ". وهو ما يدلّ على مبلغ حبّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لبلده، واعتزازه به. لذلك كان من صفات المؤمن الحقّ أن يحبَّ وطنه وأن يعمل على رفعته والإعلاء من شأنه، وأن يُضَحّيَ بما يستطيع أن يُضَحِّيَ به في سبيل النهوض به والذّود عنه وحمايته من كلّ سوء. قال اللهُ تعالى فِي سورة يس: "وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" (6). ألم يكن فِي تلك المدينة غير هذا الرّجل؟!. بلى.. ولكنَّهم عجزوا عن مثل هذا الجميل من الفعل، فأَثنى القرآن الكريم على مؤمن آل (يس)، وخلَّد ذكره، لأَنّه أخلص لوطنه وساكنيه، وعاش همومَ مواطنيه...
أيها المسلمون: والجزائر تمر الآن بمرحلة تاريخية حساسة وفارقة في تاريخها الحديث، وهي بمثابة إعادة تأسيسٍ لدورها الريادي والحضاري في المنطقة العربية والعالم. فإنّنا نولي لهذه المرحلة أهمية بالغة، لأنها ستفرز من يشكّل الوجهة الحضارية لمستقبل الجزائر، ومن هنا يفرض علينا الواجب الديني والوطني والخلقي ضرورة التحلي باليقظة والإيجابية والوعي، والبعد عن السلبية والهوى والعصبية والعاطفة، حتى يتمّ الله علينا نعمته.
إنِّي أرَى هذِي البلادَ وأهلَها *** عقداً ثميناً لا يطَالُ بسوءِ ظـنْ
علماؤها.. أمراؤها.. أبناؤها *** جُبِلُوا على حبِّ العقيدةِ والسُّنَنْ
علماؤها.. أمراؤها.. أبناؤها *** جُبِلُوا على حبِّ العقيدةِ والسُّنَنْ
أيها المسلمون: إنكم اليوم تعيشون فترة مهمة لها ما بعدها، لها من الأهمية ما يتعدى المصالح الشخصية الضيقة، ولأنه إذا كانت الإنتخابات مُوصِلةً لأهل الخير إلى موقع التأثير في القرار بما يقتضيه الشرع، فانتخابُكم من التعاون على البرِّ والتقوى، بل هي من المصالح العامة التي تنفع كلَّ مَن في البلاد. واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن جمهور الفقهاء يرون أن الناخب شاهد، وتصويته شهادة بصلاحية شخص أو عدم صلاحيته. ومن ثَمَّ فإنه يجب على الشاهد إذا دعي للتصويت، أن يدلي بشهادته، ولا يكتمها. قال تعالى: "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم". البقرة:283. قال الإمام الطبري رحمه الله: وقد اعتبر ابن عباس رضي الله عنه كتمان الشهادة من أكبر الكبائر، لأن الله عز وجل يقول: "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه"، وكان يقول: على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد. وقد اختتمت هذه الآية بقوله تعالى: "والله بما تعملون عليم". وهذا يعنى كما يقول الطبري: "بما تعملون" في شهادتكم من إقامتها والقيام بها، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها.
فيا رعاك الله: يقول بعض السلف: (كلكم على ثغرة، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكم). وأنا أقول لك: إياك أن تخذل أبناء وطنك في موقف يحب الله أن يراك وأنت تنصرهم وتقويهم. وخاصة: وأنت تقرأ في كتاب ربك وسنة نبيك وتاريخ سلفك مشروعية الانتخابات والتي هي اختيار مَن هو أهل للاختيار.
جاء في حديث بيعة العقبة الثانية، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا إليَّ اثْنَي عشر نقيبًا منكم، يكونون على قومهم). فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا، منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. رواه ابن إسحاق، وقال الهيثمي: رجالُه رجال الصحيح. فقوله صلَّى الله عليه وسلم: (أخرجوا إلي اثني عشر...) طلب ترشيح اثني عشر نائبًا لهم وممثلاً عنهم، وهذه حقيقة الانتخاب، بِغضِّ النظر عن طريقته وآليته. وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: (إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمِّروا عليهم أحدهم)، رواه أحمد وأبو داود، وهو حديث محتجٌّ به وصحَّحه جمع من أهل العلم. وتأمير الجمع لأحدهم: إما أن يكون باتفاقهم عليه أو اختيارِ وقبولِ أكثرهم لإمرته عليهم، والاختيار حقيقةٌ هو الانتخاب كما تعرف. قال الشوكاني: "وفي هذا دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدًا أن يؤمِّروا عليهم أحدهم، لأنَّ في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلف، فمع عدم التأمير يستبدُّ كلُّ واحد برأيه ويفعل ما يطابق هواه فيهلكون، ومع التأمير يَقلّ الاختلاف وتجتمع الكلمة، وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون - فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار، ويحتاجون لدفع التظالم، وفصل التخاصم أولى وأحرى".
ونقرأ في السيرة ـ أيضا ـ أنَّ عمر - رضي الله عنه - سمَّى ستة نفرٍ من كبار الصحابة رضي عنهم، هم: عثمان بن عفَّان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقَّاص، وعبد الرحمن بن عوف؛ فجعل الخلافة شورى بينهم، يتشاورون فيمن تعقد له الخلافة منهم، في قوله: (إني لا أعلمُ أحدًا أحقَّ بِهذا الأمر من هؤلاء النَّفَرِ، الَّذينَ تُوُفِّي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - وهو عَنْهُم راضٍ، فمنِ استخلفوا بعدي فهو الخليفة، فاسمعوا له وأطيعوا). رواه البخاري. فهذه سنَّةُ خليفةٍ راشد، جمع فيها بين أسلوب وآلية (العهد)، التي هي سنَّة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حين عهد إلى عمر -رضي الله عنه- بالخلافة، وبين أسلوب ترك الإختيار أو الإنتخاب للأمَّة بتفويض الأمر للمسلمين، التي سنَّها النبي صلى الله عليه وسلم. فكلٌّ سنّة. فالإنتخابُ أسلوبٌ وآليةٌ تتغير، والثابتُ هو الغاية منها، وهو وجوب تولية الأصلح قدر الاستطاعة.
على المرء أن يسعى إلى الخير جُهْدَه وليس عليه أن تتم المقاصدُ
فيا عباد الله: لا يثبطنّكم أصحاب المصالح، والمرجفون الذين يُوهِنون قوى الأمة، ويِفُتّون في عضدها، أولئك لا يريدون إلا الفتنة وتفرق الشمل، قوموا مثنى وفرادى، واختاروا من ترونه كفؤا ليتولى أمركم، وأزيلوا عوامل الفرقة والتنافر، وكونوا عباد الله إخوانا. واعلموا أنّ من مقتضيات الانتماء للوطن: محبتِه والافتخارِ به وصيانتِه والدفاعِ عنه والنصيحةِ له والحرصِ على سلامته واحترامِ أفراده وتقديرِ علمائه وطاعةِ ولاة أمره.. ومن مقتضيات الوطنية: القيام بالواجبات والمسئوليات كلٌّ في موضعه مع الأمانة والصدق.. ومن مقتضيات حب الوطن: احترام نُظُمه وثقافته والمحافظة على مَرافقه وموارد الاقتصاد فيه، والحرص على مكتسباته وعوامل بنائه ورخائه، والحذر من كل ما يؤدي إلى نقصه.. إن الدفاع عن الوطن واجبٌ شرعي، وإن الموت في سبيل ذلك شهامةٌ وشهادة.. فلنتعاون على البر والتقوى ففي ذلك مصلحتنا جميعًا، فالوطن سفينتنا والجميع على متنها، وهناك مستجدات ومتغيرات تستوجب وتستلزم من العقلاء وأهل الخير جميعًا الوقوف صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص حتى لا يتحقّق للأعداء والمرجفون ما يكيدون، وإذا فات الفوت لا ينفع الصوت، كما يقول المثل.
وفقني الله وإياكم لصالح الأعمال والأقوال، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما يعد، فيا عباد الله: لنضع أيدينا بأيدي بعض، فإنها فرصة ثمينة إما لنا أو علينا، هي لنا متى أدركنا وفهمنا حقيقة الانتخاب، وهي علينا جميعًا متى أهملنا وفرطنا وقدمنا مصالح الفرد والعشيرة على مصالح الأمة والدين والوطن.. إننا لا نريد منكم تحقيق المعجزات، وإن كان باستطاعتكم إتيانها إن صدقتم في إيمانكم، وإنما نريد منكم على الأقل أن تكونوا في مستوى الميراث الحضاري الذي خلفه لكم أجدادكم، نريد منكم أن تكونوا إيجابيين تحبطون كل المخططات التي تحبك ضد بلادكم. كونوا خير خلف لخير سلف، تمسكوا بدينكم، وحافظوا على تراثكم المجيد، ومجدكم العظيم الذي ورثتموه على أسلافكم. وأعدّوا ليومكم وغَدِكم ما تؤيّدون به حقكم، وترهبون به عدو الله وعدوكم، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون". التوبة:105
اللهم إنا نسألك العون والتوفيق في الأمور كلها، ونسألك اللهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ونسألك ربناالسلامة من حقوق خلقك، والإعانة على أداء حقك، وأن تجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى، وألا تجعلنا من المتعاونين على الإثم والعدوان. اللهم وفقنا لاختيار الرجال الصالحين الذي يعينوننا على ديننا ودنيانا، وألف بيننا وأصلح شأننا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك. اللهم احفظ بلادنا وأمننا وعقيدتنا من كيد الأعداء ودسائس المغرضين، اللهم ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وهيء له البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وانصرنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك، وانصرنا على أعدائنا حتى نسعد بظهور دينك. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق