الموضوع: خطبة وعظية ـ ـ الرئيس الأسبق أحمد بن بلّة في ذمّة الله
الخطبة الأولى
الحمد لله إيمانا بقدر الله، والحمد لله صبرا على قضاء الله، والحمد لله شكرا على لطف الله. قضى وقدّر ولطف. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تفرد بالبقاء وحده، لا يشاركه فيه أحد. "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام". وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله. أدّى الرسالة، وبلّغ الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده حتى لقي ربه راضيا مرضيا، ونودي من قبل الملإ الأعلى: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي". صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد اتقوا الله الله حقّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت. والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني". رواه الترمذي
أيها المسلمون: قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز وهو أصدق القائلين: "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور".
هذه هي الدنيا .. لا يُعجب من طوارقها، ولا يُنكر هجومُ بوائقها، فمن راحِلٍ ليومِهِ، ومن مدعوٍّ لغدهِ، وكل مستوفٍ لأجله، وجارٍ إلى أمدِهِ، ما هي إلا دار نُقلة، وما المقام فيها إلا لرحلةٍ. فاللهمَّ ارحم في الدُّنيا غربتنا، وارحم في القبر وحشتنا، وارحم موقفنا غدًا بين يديك.
كيف أُبْدي بأحـرُفي مـا أريدُ وبماذا تُراه يحكي القصيــدُ
كُلّ يوم تَدُقُّ بـابي عِظــاتٌ ويهزّ الفؤادَ خطبٌ جديــدُ
ويحَ نفسي ألَمْ تُفِقْ مِنْ هَوَاهـا أوَ مَا هَزَّ خَافِقَيْهَا الـوَعِــيدُ
يُصْبِحُ العبدُ في بنيهِ، ويُمْـسِي وهو تحت الترابِ فردٌ وحيـدُ
آهٍ من يـومِ سكرتي وممــاتي حينما أنثني وروحي تـجـودُ
أستغيثُ الطبيبَ ماذا جرى لي قيلَ هذا ما كنتَ منـهُ تحـيدُ
لم تُغثني دموعُ مَنْ كانَ حـولي لا، ولا عُدَّةُ الطّبيبِ تُـفـيدُ
قال الله تعالى: "قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ".
لا إله إلا الله! ما أجلّ حكمته! وما أعظم تدبيره! تلك هي الدنيا، خدّاعة غدّارة، فتّانة غرّارة، تُضحك وتبكي، وتجمع وتشتّت، شدّة ورخاء، وسراء وضراء. لكن أين مَن يتعظ ويعتبر؟! فالموت أمر واقع، ماله من دافع، لا مردَّ له ولا شافع، "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". إنه الموت قد فضح الدنيا، فلم يدَع لذي لبّ بها فرحًا، فقد أفسد على أهل النعيم نعيمهم.
فالتمسوا- أيها العقلاء- نعيمًا لا موت فيه، فلقد أمِنَ أهل الجنة الموت. رحم الله عمر بن عبد العزيز إذ قال: "لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد". وكان -رحمه الله- يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة". ودخل مالك بن دينار المقابر ذات يومٍ فإذا رجلٌ يُدْفَن، فجاء حتى وقف على القبر، فجعل ينظر إلى الرجل وهو يدفن، فجعل يقول: "مالكٌ غدًا هكذا يصير، وليس له شيء يتوّسده في قبره، فلم يزل يقول: غدًا مالكٌ هكذا يصير، غدًا مالكٌ هكذا يصير، حتى خرّ مغشيًا عليه في جوف القبر، فحملوه إلى منزله". ونحن ـ للأسف ـ ندخل المقابر، ونقف على القبور، ونصلّي على الجنازة، ونحمل الجنازة، ونضع الجنازة، وحامل الجنازة اليوم محمول غدًا، فهل غُشي علينا؟ بل هل خفَقت قلوبنا؟ هل اقشعّرت أبداننا؟ هل دمِعت عيوننا؟ آهٍ .. لقسوة قلوبنا؟! حتى الموت لم يعد واعظًا لنا؟! آهٍ لشدة غفلتنا؟ آهٍ لكثرة ذنوبنا؟ آهٍ لقلة زادنا؟. الموت يردَع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، فما الذي جرى للناس؟! ألم يقل طبيب القلوب صلى الله عليه وسلم: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ)؟. إنه الموت!! و (كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا).
إنه الموت!! مُفَرِّقُ الجماعات وهادم اللذات، لا يملك أحد من المخلوقين مهما بلغ ملكه له ردًّا، ولا يستطيع أحد مهما كان جنده له دفعًا، لا يعرف صغيرًا ولا كبيرًا، ولا ملكًا ولا مملوكًا، ولا رئيسا ولا مرؤوسا.
عباد الله: من لم يعظه الموت.. فمن؟! ومن لم تعظه مشاهد الاحتضار.. فمن؟! ومن لم تعظه سكرات الموت.. فمن؟! أين القلوب التي في الصدور؟! أين هي عن الاتّعاظ والاعتبار؟! أين هي؟ وهي تسمع نبأ وفاة السيد أحمد بن بلة، ذلكم الرجل الذي اقترن اسمه بتاريخ الحركة الوطنية وثورة التحرير الظافرة وبناء الدولة الحديثة.
نعم.. لقد أعلن عصر يوم الأربعاء (11ـ 04ـ2012م) نبأ انتقاله إلى عفو الله وغفرانه عن عمر يناهز الـ 96 عاما. سنون أغلبها كان نضالا في سبيل الجزائر ونهضتها، كابد خلاها أهوال التعذيب وظلمة السجون وغربة المنفى.
نعم.. أيها المسلمون: يشاء القدر أن يرحل عنا واحد من أبرز زعماء الجزائر المعاصرين، وحكيم من صفوة حكماء إفريقيا المتبصرين.
إن الحبيب من الأحباب مختلس لا يمنع الموت بوّاب ولا حرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذَّتــــــــــــــها فتًى يعدُّ عليه اللفظ والنفس
ها هي الجزائر تودّعه.. وهي في قمة ذهولها وألمها، وسط بحرٍ من الأسى وطوفان من الدموع.
نعم لقد سكت أول رئيس للجمهورية الجزائرية المستقلة.. سكت ذلكم القلب الكبير الذي كان يجيش بالحياة، وينبض بالقوة، ويستخفّ بالأحداث الجسام، سكت وودّع الوداع الأخير، وأصبح في ذمة التاريخ. أحسن الرحمن وفادته، وطيب ثراه، وأكرم مثواه، وأنزله في جنات النعيم مع الصدقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا".
إني أعزيك لا أنـي على طمـعٍ من الخلود ولكن سنـة الديـن
فما المعزي بباقٍ بعد صاحبـه ولا المعزى وإن عاشا إلى حين
لا شك ـ أيها المسلمون ـ أن هذا قضاء الله وقدره، ولا معقب لحكمه، وأنّ كلّ نفس ذائقة الموت، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا بما أصابنا، وإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، وله الحمد على ما قدّر وقضى، وأحسن الله عزاءنا، وجبر مصابنا، وأعظم أجرنا. قال تعالى: "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ". وعزاؤنا أن الموت حق، وأن "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ"، وأن الله تعالى هو الذي يقبض الأرواح، وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وأن الله تعالى يختار لعباده ما عنده، فعلينا أن نصبر ونحتسب، وأن نتعظ ونعتبر.
ففي هذه الدنيا ـ أيها المسلمون ـ منحٌ ومحنٌ، وأفراحٌ وأتراحٌ، وآمالٌ وآلامٌ، فدوام الحال من المحال، والصفو يعقبه الكدر، والفرح فيها مشوب بحذر. فمحال أنْ يضحك من لا يبكي، وأنْ يتنعّم من لم يتنغَّصْ، أو يسعدَ من لم يحزنْ!.
هذه هي الدنيا وهذه أحوالها، وليس للمؤمن الصادق فيها إلا الصبر، فذلكم دواء أدوائها. قال الحسن رحمه الله: "جرَّبْنا وجرَّب المجرِّبون فلم نر شيئًا أنفع من الصبر، به تداوى الأمور، وهو لا يُداوى بغيره". وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر، وكان أمر المؤمن من بين الناس أمرًا عجيبًا؛ لأنّه إنْ أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، كما صح ذلك عن رسول الله.
أيها المسلمون: أمرنا الله بالصبر وجعله من أسباب العون والمعيّة الإلهية، فقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". [البقرة:153]. وإن العلاج الناجع في مثل هذه المناسبات أن نعتبر ونربي أنفسنا على عمارة الآخرة، عمارتها بالأعمال الصالحة، وكثرة التوبة والاستغفار، وأن نجاهد أنفسنا بترك المعاصي والسيئات، وإلا فإن الموت حقّ على الجميع، لكن شتان بين من مات وهو على طاعة ربه، وبين من مات على معصية الله!! شتان بين من مات على خيرٍ وحُسنِ ختام، وبين من مات على شرٍّ وسوء ختام! بكى سفيان الثوري ليلةً إلى الصباح، فلما أصبح قيل له: "كلُّ هذا خوفًا من الذنوب؟ فأخذ تبنة من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذا، وإنما أبكي من خوف سوء الخاتمة". يقول ابن القيم معقبًا: "وهذا من أعظم الفقه أن يخافَ الرجل أن تَخذلَه ذنوبه عند الموت، فتَحُول بينه وبين الخاتمة الحسنى. فَمِنْ هذا خاف السلف من الذنوب، أن تكون حجابًا بينهم وبين الخاتمة الحسنى. ونحن:
نـسير إلى الآجال في كل لحــــــــظة و أيامنا تطـــــــــــوى وهنّ مراحل
ولم أر مثل المـوت حـــــــــــــقّا كأنه إذا ما تخـطّــــــــــته الأمانيّ باطل
اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، واجعلنا ممن ختمت له بالحسنى، برحمتك يا أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الحي الذي لا يموت، توحَّد بالديمومة والبقاء، وتفرد بالكبرياء والجبروت، وأشهد أن لا إله إلا الله، نحمده سبحانه ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى، صلَّى الله وسلَّم عليه، وعلى آله وصحبه وخير من اقتفى. وبعد:
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، وضمّروا النفوس عن المعاصي لاقتحام العقبة الكؤود، واحذروا مظالم العباد قبل انتصاف الحاكم المعبود، وبادروا عدم الإمكان بانتهاز فرص الوجود، وتحفظوا من تسطير رقبائكم فمنهم عن الأيمان والشمائل عليكم شهود، قبل أن تشهد عليكم الألسن والجلود، وتيقظوا من سِنَة غفلاتكم قبل رقدتكم الكبرى في ظلم اللحود، وتفكروا فيمن سلف قبلكم من الأمم الخالية والجنود: أين الممالك وأربابها أين الملوك وحُجَّابها؟. أين الوزارات وأصحابها؟ أين المراتب العالية وطلابها؟ أين الكواعب وأترابها؟ جمعوا في المقابر وردمت عليهم أبوابها، ألم يكونوا أقوى منكم أعدادا؟ وأكثر أموالاً وأولادا؟ فقصمت المنية عرى أعمارهم، وهدمت المشيدةَ من معاقلهم وديارهم، فأصبحوا أحاديث وعبرا، وصاروا بعد المعاينة والأخبار خبرا، وأنتم واردون لما وردوه يقيناً لا حديثاً يفترى.
أتيـت القبـور فناديــــــــــــــتهـا فأين المعظم والمحتقر؟
وأيـن المـذل بسلطانـــــــــــــــــــــــه وأين المزكى إذا ما افتــــــــخر؟
تساووا جميعا فما مخبـر وماتوا جميعا ومات الخبر تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبـر؟
وأيـن المـذل بسلطانـــــــــــــــــــــــه وأين المزكى إذا ما افتــــــــخر؟
تساووا جميعا فما مخبـر وماتوا جميعا ومات الخبر تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبـر؟
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنّ تقوى الله دار حصن عزيز، تمنع أهلها، وتحرز من لجأ إليها، فهي النجاة غدا، والمنجاة أبدا، فاتقوا الله واعبدوه واسجدوا له وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.
اللهم إنا نسألك في هذه اللحظات بقلوب خاشعة ونفوس موقنة مطمئنة أن تغفر لفقيدنا، اللهم أبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وارحمناـ اللهم ـ إذا صرنا إلى ما صار إليه، ونسألك اللهم أن تجعل ما أصابه من مرض كفارة لـه. اللهم ارحمه وجميع موتى المسلمين، وأسكنهم فسيح جنتك، واكتبهم عندك في المحسنين، واجعل كتابهم في عليين واخلفهم في أهليهم، اللهم اشكر حسناتهم واغفر سيئاتهم، وأعذهم من عذاب القبر، واجمع لهم برحمتك الأمن من عذابك، واكفهم كل هول دون الجنة، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم. واغفر لنا ولهم، اللهم ومن أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم أحينا على طاعتك ومرضاتك، واقبض أرواحنا على التوحيد، وهوّن علينا سكرات الموت وزفراته. اللهم اجعل الحياة لنا زيادة في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسق والعصيان.. واجعلنا يا ربنا من الراشدين.. اللهم آمنا في أوطاننا.. وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.. اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ربّ العالمين، ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ولمشايخنا ولجمع المسلمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق